مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيۡتَ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَأَهُۥ زِينَةٗ وَأَمۡوَٰلٗا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَۖ رَبَّنَا ٱطۡمِسۡ عَلَىٰٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ وَٱشۡدُدۡ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ} (88)

قوله تعالى { وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم . قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون }

اعلم أن موسى لما بالغ في إظهار المعجزات الظاهرة القاهرة ورأى القوم مصرين على الجحود والعناد والإنكار ، أخذ يدعو عليهم ، ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أولا سبب إقدامه على تلك الجرائم ، وكان جرمهم هو أنهم لأجل حبهم الدنيا تركوا الدين ، فلهذا السبب قال موسى عليه السلام : { ربنا إنك آتيت فرعون وملاه زينة وأموالا } والزينة عبارة عن الصحة والجمال واللباس والدواب وأثاث البيت ، والمال ما يزيد على هذه الأشياء من الصامت والناطق .

ثم قال : { ليضلوا عن سبيلك } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وعاصم { ليضلوا } بضم الياء وقرأ الباقون بفتح الياء .

المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يضل الناس ويريد إضلالهم وتقريره من وجهين : الأول : أن اللام في قوله : { ليضلوا } لام التعليل ، والمعنى : أن موسى قال يا رب العزة إنك أعطيتهم هذه الزينة والأموال لأجل أن يضلوا ، فدل هذا على أنه تعالى قد يريد إضلال المكلفين .

الثاني : أنه قال : { واشدد على قلوبهم } فقال الله تعالى : { قد أجيبت دعوتكما } وذلك أيضا يدل على المقصود . قال القاضي : لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم ويدل عليه وجوه : الأول : أنه ثبت أنه تعالى منزه عن فعل القبيح وإرادة الكفر قبيحة . والثاني : أنه لو أراد ذلك لكان الكفار مطيعين لله تعالى بسبب كفرهم ، لأنه لا معنى للطاعة إلا الإتيان بما يوافق الإرادة ولو كانوا كذلك لما استحقوا الدعاء عليهم بطمس الأموال وشد القلوب ، والثالث : أنا لو جوزنا أن يريد إضلال العباد ، لجوزنا أن يبعث الأنبياء عليهم السلام للدعاء إلى الضلال ، ولجاز أن يقوي الكذابين الضالين المضلين بإظهار المعجزات عليهم ، وفيه هدم الدين وإبطال الثقة بالقرآن . والرابع : أنه لا يجوز أن يقول لموسى وهارون عليهما السلام : { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } وأن يقول : { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون } ثم إنه تعالى أراد الضلالة منهم وأعطاهم النعم لكي يضلوا ، لأن ذلك كالمناقضة ، فلا بد من حمل أحدهما على موافقة الآخر . الخامس : أنه لا يجوز أن يقال : إن موسى عليه السلام دعا ربه بأن يطمس على أموالهم لأجل أن لا يؤمنوا مع تشدده في إرادة الإيمان .

واعلم أنا بالغنا في تكثير هذه الوجوه في مواضع كثيرة من هذا الكتاب .

وإذا ثبت هذا فنقول : وجب تأويل هذه الكلمة وذلك من وجوه : الأول : أن اللام في قوله { ليضلوا } لام العاقبة كقوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا } ولما كانت عاقبة قوم فرعون هو الضلال ، وقد أعلمه الله تعالى ، لا جرم عبر عن هذا المعنى بهذا اللفظ .

الثاني : أن قوله : { ربنا ليضلوا عن سبيلك } أي لئلا يضلوا عن سبيلك ، فحذف لا لدلالة المعقول عليه كقوله : { يبين الله لكم أن تضلوا } والمراد أن لا تضلوا ، وكقوله تعالى : { قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة } والمراد لئلا تقولوا ، ومثل هذا الحذف كثير في الكلام . الثالث : أن يكون موسى عليه السلام ذكر ذلك على سبيل التعجب المقرون بالإنكار . والتقدير كأنك آتيتهم ذلك الغرض فإنهم لا ينفقون هذه الأموال إلا فيه وكأنه قال : آتيتهم زينة وأموالا لأجل أن يضلوا عن سبيل الله ثم حذف حرف الاستفهام كما في قول الشاعر :

كذبتك عينك أم رأيت بواسط*** غلس الظلام من الرباب خيالا

أراد أكذبتك فكذا ههنا . الرابع : قال بعضهم : هذه اللام لام الدعاء وهي لام مكسورة تجزم المستقل ويفتتح بها الكلام ، فيقال ليغفر الله للمؤمنين وليعذب الله الكافرين ، والمعنى ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك . الخامس : أن هذه اللام لام التعليل لكن بحسب ظاهر الأمر لا في نفس الحقيقة وتقريره أنه تعالى لما أعطاهم هذه الأموال وصارت تلك الأموال سببا لمزيد البغي والكفر ، أشبهت هذه الحالة حالة من أعطى المال لأجل الإضلال فورد هذا الكلام بلفظ التعليل لأجل هذا المعنى . السادس : بينا في تفسير قوله تعالى : { يضل به كثيرا } في أول سورة البقرة إن الضلال قد جاء في القرآن بمعنى الهلاك يقال : الماء في اللبن أي هلك فيه .

إذا ثبت هذا فنقول : قوله : { ربنا ليضلوا عن سبيلك } معناه : ليهلكوا ويموتوا ، ونظيره قوله تعالى : { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا } فهذا جملة ما قيل في هذا الباب .

واعلم أنا قد أجبنا عن هذه الوجوه مرارا كثيرة في هذا الكتاب ، ولا بأس بأن نعيد بعضها في هذا المقام فنقول : الذي يدل على أن حصول الإضلال من الله تعالى وجوه : الأول : أن العبد لا يقصد إلا حصول الهداية ، فلما لم تحصل الهداية بل حصل الضلال الذي لا يريده ، علمنا أن حصوله ليس من العبد بل من الله تعالى .

فإن قالوا : إنه ظن بهذا الضلال أنه هدى ؟ فلا جرم قد أوقعه وأدخله في الوجود فنقول : فعلى هذا يكون إقدامه على تحصيل هذا الجهل بسبب الجهل السابق ، فلو كان حصول ذلك الجهل السابق بسبب جهل آخر لزم التسلسل وهو محال ، فثبت أن هذه الجهالات والضلالات لا بد من انتهائها إلى جهل أول وضلال أول ، وذلك لا يمكن أن يكون بإحداث العبد وتكوينه لأنه كرهه وإنما أراد ضده ، فوجب أن يكون من الله تعالى . الثاني : أنه تعالى لما خلق الخلق بحيث يحبون المال والجاه حبا شديدا لا يمكنه إزالة هذا الحب عن نفسه البتة ، وكان حصول هذا الحب يوجب الإعراض عمن يستخدمه ويوجب التكبر عليه وترك الالتفات إلى قوله وذلك يوجب الكفر ، فهذه الأشياء بعضها يتأدى إلى البعض تأديا على سبيل اللزوم أن يكون فاعل هذا الكفر هو الذي خلق الإنسان مجبولا على حب المال والجاه . الثالث : وهو الحجة الكبرى أن القدرة بالنسبة إلى الضدين على السوية ، فلا يترجح أحد الطرفين على الثاني إلا لمرجح ، وذلك المرجح ليس من العبد وإلا لعاد الكلام فيه ، فلا بد وأن يكون من الله تعالى ، وإذا كان كذلك كانت الهداية والإضلال من الله تعالى . الرابع : أنه تعالى أعطى فرعون وقومه زينة وأموالا وقوى حب ذلك المال والجاه في قلوبهم . وأودع في طباعهم نفرة شديدة عن خدمة موسى عليه السلام والانقياد له ، لا سيما وكان فرعون كالمنعم في حقه والمربي له والنفرة عن خدمة من هذا شأنه راسخة في القلوب ، وكل ذلك يوجب إعراضهم عن قبول دعوة موسى عليه السلام وإصرارهم على إنكار صدقه ، فثبت بالدليل العقلي أن إعطاء الله تعالى فرعون وقومه زينة الدنيا وأموال الدنيا لا بد وأن يكون موجبا لضلالهم فثبت أن ما أشعر به ظاهر اللفظ فقد ثبت صحته بالعقل الصريح فكيف يمكن ترك ظاهر اللفظ في مثل هذا المقام وكيف يحسن حمل الكلام على الوجوه المتكلفة الضعيفة جدا .

إذا عرفت هذا فنقول :

أما الوجه الأول : وهو حمل اللام على لام العاقبة فضعيف ، لأن موسى عليه السلام ما كان عالما بالعواقب .

فإن قالوا : إن الله تعالى أخبره بذلك ؟

قلنا : فلما أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون كان صدور الإيمان منهم محالا ، لأن ذلك يستلزم انقلاب خبر الله كذبا وهو محال والمفضي إلى المحال محال .

وأما الوجه الثاني : وهو قولهم يحمل قوله { ليضلوا عن سبيلك } على أن المراد لئلا يضلوا عن سبيلك فنقول : إن هذا التأويل ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره . وأقول : إنه لما شرع في تفسيره قوله تعالى : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } ثم نقل عن بعض أصحابنا أنه قرأ { فمن نفسك } على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار ، ثم إنه استبعد هذه القراءة وقال إنها تقتضي تحريف القرآن وتغييره . وتفتح باب تأويلات الباطنية وبالغ في إنكار تلك القراءة وهذا الوجه الذي ذكره ههنا شر من ذلك ، لأنه قلب النفي إثباتا والإثبات نفيا وتجويزه يفتح باب أن لا يبقى الاعتماد على القرآن لا في نفيه ولا في إثباته وحينئذ يبطل القرآن بالكلية هذا بعينه هو الجواب عن قوله المراد منه الاستفهام بمعنى الإنكار ، فإن تجويزه يوجب تجويز مثله في سائر المواطن ، فلعله تعالى إنما قال { أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } على سبيل الإنكار والتعجب . وأما بقية الجوابات فلا يخفى ضعفها .

ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه قال : { ربنا اطمس على أموالهم } وذكرنا معنى الطمس عند قوله تعالى : { من قبل أن نطمس وجوها } والطمس هو المسخ . قال ابن عباس رضي الله عنهما : بلغنا أن الدراهم والدنانير ، صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا ، وجعل سكرهم حجارة .

ثم قال : { واشدد على قلوبهم } ومعنى الشد على القلوب الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان . قال الواحدي : وهذا دليل على أن الله تعالى يفعل ذلك بمن يشاء ، ولولا ذلك لما حسن من موسى عليه السلام هذا السؤال .

ثم قال : { فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } وفيه وجهان : أحدهما : أنه يجوز أن يكون معطوفا على قوله : { ليضلوا } والتقدير : ربنا ليضلوا عن سبيلك فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم وقوله : { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم } يكون اعتراضا . والثاني : يجوز أن يكون جوابا لقوله : { واشدد } والتقدير : اطبع على قلوبهم وقسها حتى لا يؤمنوا ، فإنها تستحق ذلك .