البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيۡتَ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَأَهُۥ زِينَةٗ وَأَمۡوَٰلٗا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَۖ رَبَّنَا ٱطۡمِسۡ عَلَىٰٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ وَٱشۡدُدۡ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ} (88)

لما بالغ موسى عليه السلام في إظهار المعجزات وهم مصرون على العناد واشتد أذاهم عليه وعلى من آمن معه ، وهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفراً ، وعلى الإنذار إلا استكباراً .

أو علم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلا الغي والضلال ، أو علم ذلك بوحي من الله تعالى ، دعا الله تعالى عليهم بما علم أنه لا يكون غيره كما تقول : لعن الله إبليس وأخزى الكفرة .

كما دعا نوح على قومه حين أوحى إليه { أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } وقدم بين يدي الدعاء ما آتاهم الله من النعمة في الدنيا وكان ذلك سبباً للإيمان به ولشكر نعمه ، فجعوا ذلك سبباً لجحوده ولكفر نعمه .

والزينة عبارة عما يتزين به ويتحسن من الملبوس والمركوب والأثاث والمال ، ما يزيد على ذلك من الصامت والناطق .

قال المؤرخون والمفسرون : كان لهم فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزبرجد والياقوت .

وفي تكرار ربنا توكيد للدعاء والاستغاثة ، واللام في ليضلوا الظاهر أنها لام كي على معنى : آتيتهم ما آتيتهم على سبيل الاستدراج ، فكان الإتيان لكي يضلوا .

ويحتمل أن تكون لام الصيرورة والعاقبة كقوله : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } وكما قال الشاعر :

وللمنايا تربي كل مرضعة *** وللخراب يجد الناس عمراناً

وقال الحسن : هو دعاء عليهم ، وبهذا بدأ الزمخشري قال : كأنه قال ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال ، وليكونوا ضلالاً ، وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا .

ويبعد أن يكون دعاء قراءة من قرأ ليضلوا بضم الياء ، إذ يبعد أن يدعو بأن يكونوا مضلين غيرهم ، وهي قراءة الكوفيين ، وقتادة والأعمش ، وعيسى ، والحسن ، والأعرج بخلاف عنهما .

وقرأ الحرميان ، والعربيان ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، والأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر ، وأهل مكة : بفتحها .

وقرأ الشعبي بكسرها ، ولى بين الكسرات الثلاث .

وقيل : لا محذوفة ، التقدير لئلا يضلوا عن سبيلك قاله : أبو علي الجبائي .

وقرأ أبو الفضل الرقاشي : أإنك آتيت على الاستفهام .

ولما تقدم ذكر الأموال وهي أعز ما ادخر دعا بالطموس عليها وهي التعفية والتغيير أو الإهلاك .

قال ابن عباس ، ومحمد بن كعب : صارت دراهمهم حجارة منقوشة صحاحاً وأثلاثاً وأنصافاً ، ولم يبق لهم معدن إلاطمس الله عليه فلم ينتفع بها أحد بعد .

وقال قتادة : بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة .

وقال مجاهد وعطية : أهلكها حتى لا ترى .

وقال ابن زيد : صارت دنانيرهم ودراهمهم وفرشهم وكل شيء لهم حجارة .

قال محمد بن كعب : سألني عمر بن عبد العزيز فذكرت ذلك له ، فدعا بخريطة أصيبت بمصر فأخرج منها الفواكه والدراهم والدنانير ، وأنها الحجارة .

وقال قتادة ، والضحاك ، وأبو صالح ، والقرطبي : جعل سكرهم حجارة .

وقال السدي : مسخ الله الثمار والنخل والأطعمة حجارة .

وقال شيخنا أبو عبد الله محمد بن سليمان المقدسي عرف بابن النقيب وهو جامع كتاب التحرير والتحبير في هذا الكتاب : أخبرني جماعة من الصالحين كان شغلهم السياحة أنهم عاينوا بجبال مصر وبراريها حجارة على هيئة الدنانير والدراهم ، وفيها آثار النقش ، وعلى هيئة الفلوس ، وعلى هيئة البطيخ العبد لاويّ ، وهيئة البطيخ الأخضر ، وعلى هيئة الخيار ، وعلى هيئة القثاء ، وحجارة مطولة رقيقة معوجة على هيئة النقوش ، وربما رأوا على صورة الشجر .

واشدد على قلوبهم : وقال ابن عباس ومقاتل والفراء والزجاج اطبع عليها وامنعها من الإيمان .

وقال ابن عباس أيضاً والضحاك : أهلكهم كفاراً .

وقال مجاهد : اشدد عليها بالضلالة .

وقال ابن قتيبة : قس قلوبهم .

وقال ابن بحر : اشدد عليها بالموت .

وقال الكرماني : أي لا يجدوا سلواً عن أموالهم ، ولا صبراً على ذهابها .

وقرأ الشعبي وفرقة : اطمُس بضم الميم ، وهي لغة مشهورة .

فلا يؤمنوا مجزوم على أنه دعاء عند الكسائي والفراء ، كما قال الأعشى :

فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى *** ولا تُلْفينّ إلا وأنفك راغم

ومنصوب على أنه جواب اشدد بدأ به الزمخشري ، ومعطوف على ليضلوا على أنه منصوب قاله : الأخفش وغيره .

وما بينهما اعتراض ، أو على أنه مجزوم على قول من قال : إن لام ليضلوا لام الدعاء ، وكان رؤية العذاب غاية ونهاية ، لأن الإيمان إذ ذاك لا ينفع ولا تخرج من الكفر ، وكان العذاب الأليم غرقهم .

وقال ابن عباس : قال محمد بن كعب : كان موسى يدعو وهارون يؤمن ، فنسبت الدعوة إليهما .

ويمكن أن يكونا دعوا ، ويبعد قول من قال : كنى عن الواحد بلفظ التثنية ، لأن الآية تضمنت بعد مخاطبتهما في غير شيء .

وروي عن ابن جريج ، ومحمد بن علي ، والضحاك : أن الدعوة لم تظهر إجابتها إلا بعد أربعين سنة ، وأعلما أن دعاءهما صادف مقدوراً ، وهذا معنى إجابة الدعاء .

وقيل لهما : لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون أي في أن تستعجلا قضائي ، فإن وعدي لا خلف له .

وقرأ السلمي والضحاك : دعواتكما على الجمع .