قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } ، أي : محرمون بالحج والعمرة ، وهو جمع حرام ، يقال : رجل حرام وامرأة حرام ، وقد يكون من دخول الحرم ، يقال : أحرم الرجل إذا عقد الإحرام ، وأحرم إذا دخل الحرم . نزلت في رجل يقال له أبو اليسر ، شد على حمار وحش وهو محرم فقتله .
قوله تعالى : { ومن قتله منكم متعمداً } . اختلفوا في هذا العمد فقال قوم : هو العمد لقتل الصيد مع نسيان الإحرام . أما إذا قتله عمداً وهو ذاكر لإحرامه فلا حكم عليه ، وأمره إلى الله لأنه أعظم من أن يكون له كفارة . هذا قول مجاهد والحسن ، وقال الآخرون : أن يعمد المحرم قتل الصيد ذاكرا ً لإحرامه فعليه الكفارة ، واختلفوا فيما لو قتله خطأ ، فذهب أكثر الفقهاء إلى أن العمد والخطأ سواء في لزوم الكفارة ، وقال الزهري : على المتعمد بالكتاب ، وعلى المخطئ بالسنة ، وقال سعيد بن جبير : لا تجب كفارة الصيد بقتل الخطأ ، بل يختص بالعمد .
قوله تعالى : { فجزاء مثل } قرأ أهل الكوفة ويعقوب { فجزاء } منون ، مثل رفع على البدل من الجزاء ، وقرأ الآخرون بالإضافة { فجزاء مثل }
قوله تعالى : { ما قتل من النعم } ، معناه أنه يجب عليه مثل ذلك الصيد من النعم ، وأراد به ما يقرب من الصيد المقتول شبها ، من حيث الخلقة لا من حيث القيمة .
قوله تعالى : { يحكم به ذوا عدل منكم } أي : يحكم بالجزاء رجلان عدلان ، وينبغي أن يكونا فقيهين ، ينظران إلى أشبه الأشياء من النعم فيحكمان به ، وممن ذهب إلى إيجاب المثل من النعم عمر ، وعثمان ، وعلي ، وعبد الرحمن بن عوف ، وابن عمر ، وابن عباس ، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم : حكموا في بلدان مختلفة ، وأزمان شتى بالمثل من النعم . فحكم حاكمهم في النعامة ببدنه وهي لا تساوي بدنة ، وفي حمار الوحش ببقرة وهي لا يساوي بقرة . وفي الضبع بكبش وهو لا يساوي كبشاً ، فدل أنهم نظروا إلى ما يقرب من الصيد شبهاً من حيث الخلقة ، وتجب في الحمام شاة ، وهو كل ما عب وهدر من الطير ، كالفاختة ، والقمري ، والدبسي . وروي عن عمر ، وعثمان ، وابن عباس رضي الله عنهم : أنهم قضوا في حمام مكة بشاة .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي الزبير المكي ، عن جابر ابن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في الضبع بكبش ، وفي الغزال بعنز ، وفي الأرنب بعناق ، وفي اليربوع بجفرة .
قوله تعالى : { هدياً بالغ الكعبة } ، أي : يهدي تلك الكفارة إلى الكعبة ، فيذبحها بمكة ، ويتصدق بلحمها على مساكين الحرم .
قوله تعالى : { أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً } . قال الفراء رحمه الله : العدل بالكسر ، المثل من جنسه ، والعدل بالفتح ، المثل من غير جنسه . وأراد به : أنه في جزاء الصيد مخير بين أن يذبح المثل من النعم ، فيتصدق بلحمه على مساكين الحرم ، وبين أن يقوم المثل دراهم ، والدراهم طعاماً ، فيتصدق بالطعام على مساكين الحرم ، أو يصوم عن كل مد من الطعام يوماً ، وله أن يصوم حيث شاء ، لأنه لا نفع فيه للمساكين . وقال مالك : إن لم يخرج المثل يقوم الصيد ، ثم يجعل القيمة طعاماً فيتصدق به ، أو يصوم ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يجب المثل من النعم ، بل يقوم الصيد ، فإن شاء صرف تلك القيمة إلى شيء من النعم ، وإن شاء إلى الطعام فيتصدق به ، وإن شاء صام عن كل نصف صاع من بر ، أو صاع من شعير يوماً . وقال الشعبي والنخعي : جزاء الصيد على الترتيب ، والآية حجة لمن ذهب إلى التخيير .
قوله تعالى : { ليذوق وبال أمره } أي : جزاء معصيته .
قوله تعالى : { عفا الله عما سلف } ، يعني : قبل التحريم ، ونزول الآية ، قال السدي : عفا الله عما سلف في الجاهلية .
قوله تعالى : { ومن عاد فينتقم الله منه } في الآخرة .
قوله تعالى : { والله عزيز ذو انتقام } ، وإذا تكرر من المحرم قتل الصيد فيتعدد عليه الجزاء عند عامة أهل العلم . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا قتل المحرم صيداً متعمداً يسأل : هل قتلت قبله شيئاً من الصيد ؟ فإن قال نعم ، لم يحكم عليه ، وقيل له : اذهب ينتقم الله منك ، وإن قال لم أقتل قبله شيئاً حكم عليه ، فإن عاد بعد ذلك لم يحكم عليه ، ولكن يملأ ظهره وصدره ضرباً وجيعاً ، وكذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وج ، وهو واد بالطائف ، واختلفوا في المحرم ، هل يجوز له أكل لحم الصيد ؟ فذهب قوم إلى أنه لا يحل له بحال ، ويروى ذلك عن ابن عباس ، وهو قول طاووس ، وبه قال سفيان الثوري ، واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عبد الله بن عباس ، عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً ، وهو بالأبواء أو بودان ، فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي ، قال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ، وذهب الأكثرون إلى أنه يجوز للمحرم أكله إذا لم يصطد بنفسه ، ولا اصطيد لأجله أو بإشارته ، وهو قول عمر ، وعثمان ، وأبي هريرة ، وبه قال عطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وهو مذهب مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي ، وإنما رد النبي صلى الله عليه وسلم على الصعب بن جثامة لأنه ظن أنه صيد من أجله . والدليل على جوازه ما أخبرنا أبو الحسن ابن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله التيمي ، عن نافع مولى أبي قتادة ، عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى كان ببعض طريق مكة ، تخلف مع أصحاب له محرمين ، وهو غير محرم ، فرأى حماراً وحشياً ، فاستوى على فرسه وسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا ، فأخذه ثم شد على الحمار فقتله ، فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وأبى بعضهم فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك ، فقال : " إنما هي طعمة أطعمكموها الله تعالى " . أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن المطلب بن حنطب ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لحم الصيد لكم في الإحرام حلال ، ما لم تصيدوه أو يصطاد لكم ) ، قال أبو عيسى : المطلب لا نعرف له سماعاً من جابر ابن عبد الله رضي الله عنه .
وإذا أتلف المحرم شيئاً من الصيد لا مثل له من النعم مثل بيض ، أو طائر دون الحمام ، ففيه قيمة يصرفها إلى الطعام ، فيتصدق به أو يصوم عن كل مد يوما ، واختلفوا في الجراد : فرخص فيه قوم للمحرم وقالوا : هو من صيد البحر ، روي ذلك عن كعب الأحبار ، والأكثرون على أنها لا تحل ، فإن أصابها فعليه صدقة ، قال عمر : في الجراد تمرة ، وروي عنه وعن ابن عباس : قبضة من طعام .
ثم حرج بالنهي عن قتل الصيد في حال الإحرام ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } أي : محرمون في الحج والعمرة ، والنهي عن قتله يشمل النهي عن مقدمات القتل ، وعن المشاركة في القتل ، والدلالة عليه ، والإعانة على قتله ، حتى إن من تمام ذلك أنه ينهى المحرم عن أكل ما قُتل أو صيد لأجله ، وهذا كله تعظيم لهذا النسك العظيم ، أنه يحرم على المحرم قتل وصيد ما كان حلالا له قبل الإحرام .
وقوله : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } أي : قتل صيدا عمدا { ف } عليه { جزاء مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } أي : الإبل ، أو البقر ، أو الغنم ، فينظر ما يشبه شيئا من ذلك ، فيجب عليه مثله ، يذبحه ويتصدق به . والاعتبار بالمماثلة أن { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي : عدلان يعرفان الحكم ، ووجه الشبه ، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم ، حيث قضوا بالحمامة شاة ، وفي النعامة بدنة ، وفي بقر الوحش -على اختلاف أنواعه- بقرة ، وهكذا كل ما يشبه شيئا من النعم ، ففيه مثله ، فإن لم يشبه شيئا ففيه قيمته ، كما هو القاعدة في المتلفات ، وذلك الهدي لا بد أن يكون { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } أي : يذبح في الحرم .
{ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } أي : كفارة ذلك الجزاء طعام مساكين ، أي : يجعل مقابلة المثل من النعم ، طعام يطعم المساكين .
قال كثير من العلماء : يقوم الجزاء ، فيشترى بقيمته طعام ، فيطعم كل مسكين مُدَّ بُرٍّ أو نصفَ صاع من غيره . { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ } الطعام { صِيَامًا } أي : يصوم عن إطعام كل مسكين يوما . { لِيَذُوقَ } بإيجاب الجزاء المذكور عليه { وَبَالَ أَمْرِهِ } { وَمَنْ عَادَ } بعد ذلك { فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } وإنما نص الله على المتعمد لقتل الصيد ، مع أن الجزاء يلزم المتعمد والمخطيء ، كما هو القاعدة الشرعية -أن المتلف للنفوس والأموال المحترمة ، فإنه يضمنها على أي حال كان ، إذا كان إتلافه بغير حق ، لأن الله رتب عليه الجزاء والعقوبة والانتقام ، وهذا للمتعمد . وأما المخطئ فليس عليه عقوبة ، إنما عليه الجزاء ، [ هذا جواب الجمهور من هذا القيد الذي ذكره الله . وطائفة من أهل العلم يرون تخصيص الجزاء بالمتعمد وهو ظاهر الآية . والفرق بين هذا وبين التضمين في الخطأ في النفوس والأموال في هذا الموضع الحق فيه لله ، فكما لا إثم لا جزاء لإتلافه نفوس الآدميين وأموالهم ]{[278]}
ثم نهى - سبحانه - المؤمنين نهيا صريحا عن قتل الصيد وهم حرم وبين ما يجب على القاتل وكرر تحذيره وتهديده لمن يتعدى حدوده فقال - تعالى :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ . . . }
قال القرطبي : قوله - تعالى - { ياأيها الذين } خطاب عام لكل مسلم ، وهذا النهي هو الابتلاء المذكور في قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد } . . الآية وروى أن أبا اليسر - واسمه عمرو بن مالك الأنصاري - كان محرماً عام الحديبية بعمرة فقتل حمار وحش فنزلت هذه الآية .
والمراد بالصيد هنا المصيد ، لأنه هو الذي يقع عليه القتل .
وقوله { حرم } جمع حرام . وهذا اللفظ المحرم بالحج أو بالعمرة أو بهما وإن كان في الحل ، كما يتناول من كان في الحرم وإن كان حلالا .
قال ابن جرير : والحرم جمع حرام ، يقال : هذا رجل حرام ، وهذه أمرأة حرام ، فإذا قيل محرم ، قيل للمرأة محرمة والإِحرام : هو الدخول فيه . يقال : أحرم القوم : إذا دخلوا في الشهر الحرام أو في الحرم ، فتأويل الكلام : " لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون " .
والصيد المهي عن قتله هنا : صيد البر ، لأن صيد البحر قد أحله الله بعد ذلك بقوله : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ } الآية .
والنهى كما يتناول قتل صيد البر بإزهاق روحه بأي طريق من طرق الإِزهاق ، يتناول - أيضاً - قتله بطريق التسبب كالإِشارة إليه مثلا . ويتناول كذلك حظر الصيد نفسه ، لقوله - تعالى - في مطلع هذه السورة : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ولقوله - تعالى - بعد هذه الآية التي معنا : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً } فالنهي في قوله - تعالى - { لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } يتناول القتل عن طريق المباشرة أو التسبب كما يتناول أي عمل يؤدي إلى صيد الحيوان .
وإنما كان النهي في الآية منصبا على القتل ، لأنه هو المقصود الأعظم من وراء مباشرة عملية الصيد إذ الصائد يريد قتل المصيد لكي يأكله في الغالب .
هذا ، وقد اختلف الفقهاء في المصيد الذي يحرم صيده على المحرم .
فذهب بعضهم إلى أن المراد به ما يصاد مطلقاً سواء أكان مأكولا أم غير مأكول ولا يستثنى من ذلك إلا ما جاء النص باستثنائه ، وذلك لأن الصيد اسم عام يتناول كل ما يصاد من المأكول ومن غير المأكول .
وبهذا الرأي قال الأحناف ومن وافقهم من الفقهاء .
ويرى الشافعية أن المراد به المأكول فقط ، لأن الصيد إنما يطلق على ما يحل أكله فحسب .
وقد انبنى على هذا الخلاف أن من قتل وهو محرم سبعاً ، فالأحناف يرون أنه يجب عليه الجزاء الذي فصلته الآية . والشافعية يرون أنه لا يجب عليه ذلك .
قال الإِمام ابن كثير : قوله - تعالى - { لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } .
هذا تحريم منه - تعالى - لقتل الصيد في حال الإِحرام ، ونهي عن تعاطيه فيه . وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول ولو ما تولد منه ومن غيره ، فأما غير المأكول من حيوانات البر ، فعند الشافعي يجوز قتلها ، والجمهور على تحريم قتلها أيضاً ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحدأت والعقرب والفأرة والكلب والعقور " - وفي وراية الحية بدل العقرب - ومن العلماء كمالك وأحمد من ألحق بالكلب العقور : " الذئب والسبع والنمر والفهد ، لأنها أشد ضررا منه " .
وقوله : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } بيان لما يجب على المحرم في حال قتله للصيد .
قال الآلوسي ما ملخصه : والمعنى { وَمَن قَتَلَهُ } كائنا { منكم } حال كونه { متعمدا } أي : ذاكرا لإِحرامه عالما بحرمة قتل ما يقتله ، ومثله من قتله خطأ .
والفاء في قوله { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } جزائية إذا اعتبرنا { من } شرطية وهو الظاهر ، وإذا اعتبرناها موصولة تكون زائدة لشبه المبتدأ بالشرط .
وقد خرجت هذه القراءة بتخريجات منها : أن تعتبر الإِضافة بيانية أي : جزاء هو مثل ما قتل .
وظاهر الآية يفيد ترتيب الجزاء على القتل العمد ، إلا أنهم اختلفوا هنا على أقوال ذكرها القرطبي فقال ما ملخصه :
قوله - تعالى - { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } ذكر - سبحانه - المتعمد ولم يذكر المخخطئ ولا الناسي ، والمتعمد هنا هو القاصد للشيء مع العلم بالإِحرام . والمخطئ هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا . والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه . واختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال :
الأول : ما أسنده الدارقطني عن ابن عباس قال : إنما التكفير في العمد ، وإنما غلظوا في الخطأ لئلا يعودوا .
الثاني : أن قوله { متعمدا } خرج على الغالب ، فألحق به النادر كأصول الشريعة .
الثالث : أنه لا شيء على المخطئ والناسي به قال الطبري وأحمد - في إحدى روايته - وطاووس وداود وأبو ثور .
الرابع : أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان ، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم .
قال الزهري : وجب الجزاء في العمد بالقرآن ، وفي الخطأ والنسيان بالسنة . فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضيع فقال : " هي صيد " وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا ، ولم يقل عمدا ولا خطأ .
الخامس : أن يقتله متعمدا لقتله ناسيا لإِحرامه - وهو قول مجاهد - ، لقوله - تعالى - بعد ذلك { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } قال : ولو كان ذاكرا لإِحرامه لوجبت عليه العقوبة الأول مرة .
قال : فدل على أنه أراد متعمدا لقتله ناسيا لإِحرامه .
ويبدو لنا أن القول الرابع الذي قال به الأئمة أبو حنيفة والشافعي ، ومالك أقرب إلى الصواب ، لأن تخصيص العمد بالذكر في الآية ، لأجل أن يرتب عليه الانتقام عند العود ، لأن العمد هو الذي يترتب عليه ذلك دون الخطأ ، ولأن جزاء الخطأ معروف من الأدلة التي قررت التسوية في ضمان المتلفات ، إذ من المعروف أن من قتل صيد إنسان عمدا أو خطأ في غير الحرم فعليه جزاؤه ، فهذا حكم عام في جميع المتلفات وما دام الأمر كذلك كان الجزاء ثابتا على المحرم متى قتل الصيد سواء أكان قتله له عمدا أم خطأ .
وقد اختلف العلماء - أيضا في المراد بالمثل في قوله - تعالى - { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } .
فجمهور الفقهاء يرون أن المراد بالمثل النظير . أي أن الجزاء يكون بالمماثلة بين الصيد المتقول وبين حيوان يقاربه في الحجم والمنظر من النعم وهي الإِبل والبقر والغنم .
ومن حججهم أن الله أوجب مثل المصيد المقتول مقيد بكونه من النعم ، فلابد أن يكون الجزاء مثلا من النعم ، وعليه فلا تصح القيمة لأنها ليست من النعم .
قال ابن كثير : وفي قوله - تعالى - : { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } دليل لما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم إذا كان له مثل من الحيوان الإِنسي ، خلافا لأبي حنيفة حيث أوجب القيمة سواء أكان الصيد المقتول مثليا أو غير مثلى . قال : وهو خير إن شاء تصدق بثمنه . وإن شاء اشترى به هديا .
والذي حكم به الصحابة في المثل أولى بالاتباع ، فإنهم حكموا في النعامة ببدنه ، وفي بقرة الوحش ببقرة ، وفي الغزال بعنز . وأما إذا لم يكن الصيد مثليا فقد حكم ابن عباس فيه بثمن يحمل إلى مكة .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك طريق معرفة الجزاء ، ومآله ، وأنواعه ، فقال - تعالى - { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الكعبة أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً } .
والضمير في قوله { به } يعود على الجزاء المماثل للمصيد المقتول .
وقوله : { هديا } حال من جزاء ، أو منصوب على المصدرية . أي يهديه هدياً .
والهدى : اسم لما يذبح في الحج لاهدائه إلى فقراء مكة .
وقوله : { بَالِغَ الكعبة } صفة لقوله { هدياً } لأنه إضافته لفظية :
وقوله : { أو كفارة } معطوف على جزاء . وأو للتخيير ، وكذلك في قوله { أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً } .
والعدل - بالفتح - ما عادل الشيء من غير جنسه . وأما بالكسر فما عادله من جنسه . وقيل هما سيان ومعناهما المثل مطلقا .
والمعنى الإِجمالي للآية الكريمة : يأيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا ، لا تقتلو الصيد وأنتم محرمون ، ومن قتل منكم الصيد وهو بهذه الصفة فعلية جزاء من النعم مماثل الصيد المقتول ومقارب له في الخلقة والمنظر ، أو في القيمة ، وهذا الجزاء المماثل للصيد المقتول يحكم به رجلان منكم تتوافر فيهما العدالة والخبرة حتى يكون حكمهما أقرب إلى الحق والصواب ، ويكون هذا الجزاء الواجب على قاتل الصيد { هَدْياً بَالِغَ الكعبة } أي : يصل إلى الحرم فيذبح فيه ويتصدق به على مساكينه ، أو يكون على قاتل الصيد { كَفَّارَةٌ } هي { طَعَامُ مَسَاكِينَ } بأن يطعمهم من غالب قوت البلد ما يساوي قيمة هذا الجزاء المماثل للصيد المقتول بحيث يعطي لكل مسكين نصف صاغ من بر أو صاعا من غيره ، أو يكون عليه ما يعادل هذا الطعام صياما ، بأن يصوم عن طعام كل مسكين يوما ، وما قل عن طعام المسكين يصوم عنه يوما كاملا .
وإذا لم يجد للصيد المقتول مماثلا كالعصفور وما يشبهه فعليه قيمته ، يشتري بها طعاما لكل مسكين مد ، أو يصوم عن كل مد يوما .
وبهذا نرى أن المحرم إذا قتل الصيد فعليه جزاء من النعم مماثل للصيد المقتول في الخلقة والمنظر أو عليه ما يساوي قيمة هذا الجزاء طعاما ، أو عليه ما يعادل هذا الطعام صياما . وهذا ما يقول به جمهور الفقهاء أما أبو حنيفة فيرى - كما سبق أن أشرنا - أن المماثلة إنما تعتبر ابتداء بحسب القيمة ، فيقوم الصيد المقتول من حيث هو ، فإن بلغت قيمته هدى يخير الجاني بين أن يشتري بها هديا يهدي إلى الكعبة ويذبح في الحرم ويتصدق بلحمه على الفقراء ، وبين أن يشتري بها طعاماً للمساكين . وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما .
والمراد من الكعبة هنا الحرم ؛ وإن خصت بالذكر تعظيما لها .
قال بعض العلماء : ولا شك أن التخيير هنا ليس على حقيقته ، إنما هو ترتيب مراتب على حسب القدرة على كل رتبة ، فالأصل بلا ريب شراء هدى وذبحه في الحرام ، فإن تعذر ذلك كان الطعام ، فإن تعذر كان الصيام .
هذا هو الظاهر عند الحنفية ، وروى عنهم أنهم قالوا بالتخيير إذا عرفت القيمة بين الذبح عند الكعبة وبين إطعام المساكين ، وبين الصوم .
وعندي أن الترتيب حسب القدرة أوضح وذلك هو رأى أحمد وزفر .
والمذاهب الأخرى تتلقى في الجملة مع الذهب الحنفي بيد أنها تعتبر المماثلة في الأوصاف .
وعندي أن المذهب الحنفي أوضح وأسهل تطبيقاً ، وأدق في تعرف المثل وقد اضطروا إليه عند استبدال الطعام بالذبح ، إذ لا يعرف مقدار الطعام إلا بمعرفة القيمة .
هذا ، وقوله - تعالى - { لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } تعليل لأيجاب الجزاء السابق على المحرم القاتل للصيد عن تعمد .
وقوله { ليذوق } من الذوق وهو إدراك المطعومات باللسان لمعرفة ما فيها من حلاوة أو مرارة أو غير ذلك .
والمراد به هنا : إدراك ألم العذاب على سبيل الاستعارة .
والوبال في الأصل : الثقل والشدة والوخامة . ومنه طعام وبيل إذا كان ثقيلا على المعدة .
ومرعى وبيل وهو الذي يتأذى به بعد أكله .
والمراد به هنا : سوء عاقبة فعله .
والمعنى : شرعنا ما شعرنا من جزاء على المحرم في حالة قتله للصيد ، ليدرك سوء عاقبة قتله وفعله السيء ، وليعلم أن مخالفته لأمر الله تؤدي إلى الخسارة في الدنيا والآخرة .
قال الإِمام الرازي : وإنما سمي الله - تعالى - ذلك وبالا ، لأنه خيره بيبن ثلاثة أشياء : اثنان منها توجب تنقيص المال - وهو ثقيل على الطبع - وهما : الجزاء بالمثل والإِطعام . والثالث : يوجب إيلام البدن وهو الصوم ، وذلك أيضا ثقيل على الطبع .
والمعنى أنه - تعالى - أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الأشياء التي كل واحد منها ثقيل على الطبع حتى يحترز عن قتل الصيد في الحرم وفي حال الإِحرام .
وقوله : { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله بعباده ولطفه بهم ، لأنه - سبحانه - لم يؤاخذهم على قتلهم للصيد وهم محرمون قبل تحريمها والنهي عنها .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بتهديد شديد لمن تتكرر منه المخالفة لأوامر الله ونواهيه فقال : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } .
أي : ومن عاد وهو محرم إلى قتل الصيد بعد ورود النهي عن ذلك فإن الله - تعالى - ينتقم منه ويعاقبه عقابا شديدا فهو - سبحانه - العزيز الذي لا يغالب ولا يقاوم ، المنتقم الذي لا يدفع انتقامه بأي وسيلة من الوسائل .
هذا وجمهور العلماء على أن المحرم يتكرر الجزاء عليه في قتل الصيد بتكرر وأن عقوبة الآخرة - وهي انتقام الله من الجاني - لا تمنع وجوب الجزاء عليه في الدنيا .
قال ابن كثير . ثم الجمهور من السلف والخلف على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة وإن تكرر ما تكرر سواء الخطأ في ذلك والعمد .
وقال علي بن طلحة عن ابن عباس قال : من قتل شيئا من الصيد خطأ وهو محرم يحكم عليه فيه كلما قتله . فإن قتله عمدا يحكم عليه فيه مرة واحدة . فإن عاد يقال له ينتقم الله منك .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد حذرت المؤمنين من التعرض للصيد في حالة إحرامهم ، وبينت الجزاء المترتب على من يفعل ذلك ، وهددت من يستهين بحدود الله بالعذاب الشديد .