معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِيۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ} (54)

قوله تعالى : { وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي } ، أي : أجعله خالصا لنفسي ، { فلما كلمه } ، فيه اختصار تقديره : فجاء الرسول يوسف فقال له : أجب الملك الآن . روي أنه قام ودعا لأهل السجن فقال : اللهم أعطف عليهم قلوب الأخيار ، ولا تعم عليهم الأخبار ، فهم أعلم الناس بالأخبار في كل بلد ، فلما خرج من السجن كتب على باب السجن : هذا قبر الأحياء ، وبيت الأحزان ، وتجربة الأصدقاء ، وشماتة الأعداء ، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس ثيابا حسانا وقصد الملك . قال وهب : فلما وقف بباب الملك قال : حسبي ربي من دنياي ، وحسبي ربي من خلقه ، عز جاره ، وجل ثناؤه ، ولا إله غيره . ثم دخل الدار فلما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره ، وأعوذ بك من شره وشر غيره . فلما نظر إليه الملك سلم عليه يوسف بالعربية فقال : الملك ما هذا اللسان ؟ قال : لسان عمي إسماعيل ، ثم دعا له بالعبرانية فقال الملك : ما هذا اللسان . قال هذا لسان آبائي ، ولم يعرف الملك هذين اللسانين . قال وهب : وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا فكلما تكلم بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان وزاد عليه بلسان العربية والعبرانية ، فأعجب الملك ما رأى منه مع حداثة سنه ، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فأجلسه { قال إنك اليوم لدينا مكين } ، المكانة في الجاه ، { أمين } ، أي : صادق . وروي أن الملك قال له : إني أحب أن أسمع رؤياي منك شفاها . فقال يوسف : نعم أيها الملك ، رأيت سبع بقرات سمان شهب غر حسان ، كشف لك عنهن النيل ، فطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافهن لبنا ، فبينما أنت تنظر إليهم ويعجبك حسنهن إذ نضب النيل فغار ماؤه وبدا يبسه ، فخرج من حمأته سبع بقرات عجاف شعث غبر متقلصات البطون ليس لهن ضروع ولا أخلاف ، ولهن أنياب وأضراس وأكف كأكف الكلاب ، وخراطيم كخراطيم السباع ، فافترسن السمان افتراس السبع ، فأكلن لحومهن ، ومزقن جلودهن ، وحطمن عظامهن ، وتمششن مخهن ، فبينما أنت تنظر وتتعجب إذ سبع سنابل خضر وسبع أخر سود في منبت واحد عروقهن في الثرى والماء ، فبينما أنت تقول في نفسك أي شيء هذا ؟ هؤلاء خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات ، والمنبت واحد وأصولهن في الماء إذ هبت ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات فاشتعلت فيهن النار ، فاحترقن فصرن سودا فهذا ما رأيت ، فانتبهت من نومك مذعورا . فقال الملك : والله ما شأن هذه الرؤيا -وإن كانت عجيبة- بأعجب مما سمعت منك ، فما ترى في رؤياي أيها الصديق ؟ فقال يوسف عليه السلام : أرى أن تجمع الطعام وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة ، وتجعل الطعام في الخزائن بقصبه وسنبله ليكون القصب والسنبل علفا للدواب ، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس ، فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها ، ويأتيك الخلق من النواحي للميرة فتبيع منهم الطعام ، وتأخذ ثمنه ، فيجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد . فقال الملك : ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه ويكفيني الشغل فيه ؟ .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِيۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ} (54)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمّا كَلّمَهُ قَالَ إِنّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } .

يقول تعالى ذكره : وقال الملك ، يعني ملك مصر الأكبر ، وهو فيما ذكر ابن سحاق : الوليد بن الريان .

حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة عنه : حين تبين عذر يوسف ، وعرف أمانته وعلمه ، قال لأصحابه : ائْتُونِي بِهِ أسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي يقول : أجعله من خلصائي دون غيري .

وقوله : فَلَمّا كَلّمَهُ يقول : فلما كلم الملك يوسف ، وعَرَف براءته وعِظَم أمانته ، قال له : إنك يا يوسف لدينا مكين أمين أي متمكن مما أردت ، وعرضَ لك من حاجةٍ قِبلَنا ، لرفعة مكانك ومنزلتك لدينا ، أمين على ما اؤتمنت عليه من شيء .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : لما وَجَدَ الملك له عُذرا ، قال : ائْتُونِي بِهِ أسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي يقول : أتخذه لنفسي .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل : قالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي قال : قال له الملك : إني أريد أن أُخلّصك لنفسي ، غير أني آنف أن تأكل معي فقال يوسف : أنا أحقّ أن آنَف ، أنا ابن إسحاق أو أنا ابن إسماعيل ، أبو جعفر شكّ ، وفي كتابي : ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل بنحوه ، غير أنه قال : أنا ابن إبراهيم خليل الله ابن إسماعيل ذبيح الله .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن أبي الهذيل قال : قال العزيز ليوسف : ما من شيء إلا وأنا أحبّ أن تشركني فيه ، إلا أني أحبّ أن لا تشركني في أهلي ، وأن لا يأكل معي عبدي قال : أتأنف أن آكل معك ؟ فأنا أحقّ أن آنَف منك ، أنا ابن إبراهيم خليل الله ، وابن إسحاق الذبيح ، وابن يعقوب الذي ابيضت عيناه من الحزن .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا سفيان بن عقبة ، عن حمزة الزيات ، عن ابن إسحاق ، عن أبي ميسرة ، قال : لما رأى العزيز لَبَق يوسف وكَيْسَه وظُرْفه ، دعاه فكان يتغدى ويتعشى معه دون غلمانه فلما كان بينه وبين المرأة ما كان ، قالت له : تدني هذا ؟ مره فليتغدّ مع الغلمان قال له : اذهب فتغدّ مع الغلمان فقال له يوسف في وجهه : ترغب أن تأكل معي ، أو تَنْكَف ؟ أنا والله يوسف بن يعقوب نبيّ الله ، ابن إسحاق ذبيح الله ، ابن إبراهيم خليل الله .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِيۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ} (54)

السين والتاء في { أستخلصه } للمبالغة ، مثلها في استجاب واستأجر . والمعنى أجْعَلْه خالصاً لنفسي ، أي خاصّاً بي لا يشاركني فيه أحد . وهذا كناية عن شدة اتصاله به والعمل معه . وقد دلّ الملكَ على استحقاق يوسف عليه السلام تقريبَهُ منه ما ظهر من حكمته وعلمه ، وصبره على تحمّل المشاق ، وحسن خلقه ، ونزاهته ، فكل ذلك أوجب اصطفاءه .

وجملة { فلما كلمه } مفرّعة على جملة محذوفة دل عليها { وقال الملك ائتوني به } . والتقدير : فأتوه به ، أي بيوسف عليه السلام فحضر لديه وكلّمه { فلما كلمه } .

والضمير المنصوب في { كلمه } عائد إلى الملك ، فالمكلّم هو يوسف عليه السلام . والمقصود من جملة { فلما كلمه } إفادة أن يوسف عليه السلام كلم الملك كلاماً أعجب الملك بما فيه من حكمة وأدب . ولذلك فجملة { قال إنك اليوم لدينا مكين أمين } جواب ( لَمّا ) . والقائل هو الملك لا محالة .

والمكين : صفة مشبهة من مكُن بضم الكاف إذا صار ذا مكانة ، وهي المرتبة العظيمة ، وهي مشتقة من المكان .

والأمين : فعيل بمعنى مفعول ، أي مأمون على شيء ، أي موثوق به في حفظه .

وترتّب هذا القول على تكليمه إياه دالّ على أن يوسف عليه السلام كلّم الملك كلام حكيم أديب فلما رأى حسن منطقه وبلاغة قوله وأصالة رأيه رآه أهلاً لثقته وتقريبه منه .

وهذه صيغة تولية جامعة لكل ما يحتاج إليه ولي الأمر من الخصال ، لأن المكانة تقتضي العلم والقدرة ؛ إذ بالعلم يتمكن من معرفة الخير والقصد إليه ، وبالقدرة يستطيع فعل ما يبدو له من الخير ؛ والأمانة تستدعي الحكمة والعدالة ، إذ بالحكمة يوثر الأفعال الصالحة ويترك الشهوات الباطلة ، وبالعدالة يوصل الحقوق إلى أهلها . وهذا التنويه بشأنه والثناء عليه تعريض بأنه يريد الاستعانة به في أمور مملكته وبأن يقترح عليه ما يرجو من خير ، فلذلك أجابه بقوله : { اجعلني على خزائن الأرض } .