معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَيَعۡلَمَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (142)

قوله تعالى : { أم حسبتم } . أي أحسبتم .

قوله تعالى : { أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله } . أي ولم يعلم الله .

قوله تعالى : { الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَيَعۡلَمَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (142)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ }

يعني بذلك جلّ ثناؤه : أم حسبتم يا معشر أصحاب محمد ، وظننتم أن تدخلوا الجنة ، وتنالوا كرامة ربكم ، وشرف المنازل عنده¹ { وَلمّا يَعلَمِ اللّهُ الّذِينَ جاهَدُوا مِنَكُمْ } يقول : ولما يتبين لعبادي المؤمنين ، المجاهد منكم في سبيل الله ، على ما أمره به . وقد بينت معنى قوله : { وَلمّا يَعلَمِ اللّهُ } : وليعلم الله ، وما أشبه ذلك بأدلته فيما مضى بما أغنى عن إعادته وقوله : { وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ } يعني : الصابرين عند البأس على ما ينالهم في ذات الله من جرح وألم ومكروه . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنّةَ } وتصيبوا من ثوابي الكرامة ، ولم أختبركم بالشدّة ، وأبتليكم بالمكاره ، حتى أعلم صدق ذلك منكم الإيمان بي ، والصبر على ما أصابكم فيّ .

ونصب { وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ } على الصرف ، والصرف أن يجتمع فعلان ببعض حروف النسق ، وفي أوله ما لا يحسن إعادته مع حرف النسق ، فينصب الذي بعد حرف العطف على الصرف ، لأنه مصروف عن معنى الأوّل ، ولكن يكون مع جحد أو استفهام أو نهي في أول الكلام ، وذلك كقولهم : لا يسعني شيء ويضيق عنك ، لأن «لا » التي مع «يسعني » لا يحسن إعادتها مع قوله : «ويضيق عنك » ، فلذلك نصب . والقراء في هذا الحرف على النصب¹ وقد روى عن الحسن أنه كان يقرأ : «وَيَعْلَمِ الصّابِرِينَ » فيكسر الميم من «يعلم » ، لأنه كان ينوي جزمها على العطف به على قوله : { وَلمّا يَعْلَمِ اللّهُ } .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَيَعۡلَمَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (142)

{ أم } هنا منقطعة ، هي بمعنى ( بل ) الانتقالية ، لأنّ هذا الكلام انتقال من غرض إلى آخر ، وهي إذا استعملت منقطعة تؤذن بأنّ ما بعدها استفهام ، لملازمتها للاستفهام ، حتَّى قال الزمخشري والمحقّقون : إنَّها لا تفارق الدلالة على الاستفهام بعدها ، وقال غيره : ذلك هو الغالب وقد تفارقه ، واستشهدوا على مفارقتها للاستفهام بشواهد تقبل التَّأويل .

فقوله : { أم حسبتم } عطف على جملة { ولا تهنوا } [ آل عمران : 139 ] وذلك أنَّهم لمّا مسّهم القرح فحزنوا واعتراهم الوهن حيث لم يشاهدوا مثل النَّصر الَّذي شاهدوه يوم بدر ، بيّن الله أنّ لا وجه للوهن للعلل الَّتي تقدّمت ، ثُمّ بيّن لهم هنا : أن دخول الجنَّة الَّذي هو مرغوبهم لا يحصل إذا لم يبذلوا نفوسهم في نصر الدّين فإذا حسبوا دخول الجنَّة يحصل دون ذلك ، فقد أخطأوا .

والاستفهام المقدّر بعد ( أم ) مستعمل في التَّغليط والنَّهي ، ولذلك جاء ب ( أم ) للدلالة على التغليط : أي لا تحسبوا أن تدخلوا الجنَّة دون أن تجاهدوا وتصبروا على عواقب الجهاد .

ومن المفسّرين من قدّر لِ ( أمْ ) هنا معادِلاً محذوفاً ، وجعلها متَّصلة ، فنقل الفخر عن أبي مسلم الأصفهاني أنَّه قال : عادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً لأنَّه لمّا قال : { ولا تهنوا ولا تحزنوا } [ آل عمران : 139 ] كأنَّه قال : أفتعلمون أنّ ذلك كما تؤمرون أم حسبتم أن تدخلوا الجنَّة .

وجملة { ولما يعلم الله } إلخ في موضع الحال ، وهي مصبّ الإنكار ، أي لا تحسبوا أن تدخلوا الجنَّة حين لا يعلم الله الَّذين جاهدوا .

و ( لَمَّا ) حرف نفي أختُ ( لم ) إلاّ أنَّها أشدّ نفياً من ( لم ) ، لأنّ ( لم ) لِنفي قول القائل فَعَل فلان ، و ( لمّا ) لنفي قوله قد فعل فلان . قاله سيبويه ، كما قال : إنّ ( لا ) لنفي يفعل و ( لن ) لنفي سيفعل و ( ما ) لنفي لقد فعل و ( لا ) لنفي هو يفعل . فتدلّ ( لَمَّا ) على اتِّصال النَّفي بها إلى زمن التكلّم ، بخلاف ( لم ) ، ومن هذه الدلالة استفيدت دلالة أخرى وهي أنّها تؤذن بأنّ المنفي بها مترقّب الثبوت فيما يستقبل ، لأنَّها قائمة مقام قولك استمرّ النَّفي إلى الآن ، وإلى هذا ذهب الزمخشري هنا فقال : و ( لمّا ) بمعنى ( لم ) إلاّ أنّ فيها ضرباً من التوقُّع وقال في قوله تعالى : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } سورة [ الحجرَات : 14 ] : فيه دلالة على أنّ الأَعراب آمنوا فيما بعد .

والقول في علم الله تقدّم آنفاً في الآية قبل هذه .

وأريد بحالة نفي علم الله بالَّذين جاهدوا والصَّابرين الكناية عن حالة نفي الجهاد والصّبر عنهم ، لأنّ الله إذا علم شيئاً فذلك المعلوم محقّق الوقوع فكما كنّى بعلم الله عن التّحقق في قوله : { وليعلم الله الذين آمنوا } [ آل عمران : 140 ] كنّى بنفي العلم عن نفي الوقوع . وشرط الكناية هنا متوفّر وهو جواز إرادة المعنى الملزوم مع المعنى اللازم لِجواز إرادة انتفاء علم الله بجهادهم مع إرادة انتفاء جهادهم .

ولا يرد ما أورده التفتزاني ، وأجاب عنه بأنّ الكناية في النفي بنيت على الكناية في الإثبات ، وهو تكلّف ، إذ شأن التراكيب استقلالها في مفادها ولوازمها .

وعقّب هذا النفي بقوله : { ويعلم الصابرين } معطوفاً بواو المعية فهو في معنى المفعول معه ، لتنتظم القيود بعضها مع بعض ، فيصير المعنى : أتحسبون أن تدخلوا الجنَّة في حال انتفاء علم الله بجهادكم مع انتفاء علمه بصبركم ، أي أحسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يجتمع العلمان . والجهاد يستدعي الصّبر ، لأنّ الصّبر هو سبب النَّجاح في الجهاد ، وجالب الانتصار ، وقد سئل عليّ عن الشَّجاعة ، فقال : صبر ساعة . وقال زفر بن الحارث الكلابي ، يعتذر عن انتصار أعدائهم عليهم :

سَقَيْنَاهُمُ كأْساً سَقَوْنا بمثلها *** ولكنَّهم كانُوا على الموْتِ أصبرا

وقد تسبّب في هزيمة المسلمين يومَ أُحُد ضعفُ صبر الرماة ، وخفّتهم إلى الغنيمة ، وفي الجهاد يُتطلّب صبر المغلوب على الغلب حتَّى لا يهن ولا يستسلم .