الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَيَعۡلَمَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (142)

قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ } : في " أم " هذه أوجهٌ أظهرُها : أنها منقطعةٌ مقدَّرة ب " بل " وهمزةِ الاستفهام ، ويكون معناه الإِنكارَ . وقيل : " أم " بمعنى الهمزةِ وحدَها ، ومعناه كما تقدَّم : التوبيخُ والإِنكارُ ، وقيل : هذا استفهامٌ معناه النهيُ قاله أبو مسلم الأصفهاني . وقيل : هي متصلةٌ . قال ابن بحر : " هي عديلةُ همزةٍ تتقدَّر مِنْ معنى ما تقدَّم ، وذلك أنَّ قولَه : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا } إلى آخر القصةِ يقتضي أن يَتَبَع ذلك : أتعلمون أنَّ التكليف يُوجِبُ ذلك أم حسبتم . و " حَسِبَ " هنا على بابها من ترجيحِ أحد الطرفين . و { أَن تَدْخُلُواْ } سادٌّ مسدَّ المفعولين على رأيِ سيبويه ومسدَّ الأولِ ، والثاني محذوفٌ على رأيِ الأخفش .

قوله : { وَلَمَّا يَعْلَمِ } جملةٌ حالية . وقال الزمخشري : " ولَمَّا بمعنى " لم " إلاَّ أنَّ فيه ضَرْباً من التوقع ، فدل على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يُستقبل . وتقول : " وعدني أن يفعل كذا ولَمَّا " تريد : " ولَمْ يَفْعَلُ وأنا أتوقع فِعْلَه " . قال الشيخ : " وهذا الذي قاله في " لَمَّا " : أنها تَدُلُّ على توقُّع الفعلِ المنفيِّ بها فيما يُستقبل لا أَعْلَمُ أحداً من النحويين ذَكَره ، بل ذكروا أنك إذا قلتَ : " لَمَّا يخرج زيد " دَلَّ ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلاً نَفْيُه إلى وقت الإِخبار ، أمَّا أنَّها تدلُّ على توقُّعِهِ في المستقبل فلا ، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئاً يقارب ما قاله الزمخشري ، قال : " لَمَّا " لتعريضِ الوجودِ بخلافِ " لم " . قلت : " والنَّحْويون إنما فَرَّقوا بينهما مِنْ جهة أنَّ المنفيَّ ب لَمْ " هو فعلٌ غيرُ مقرونٍ ب " قد " و " لَمَّا " نفيٌ له مقروناً بها ، وقد تَدُلُّ على التوقع ، فيكونُ كلامُ الزمخشري صحيحاً من هذه الجهةِ ، ويَدُلُّ على ما قلته من كونِ " لم " لنَفْيِ فَعَل ، و " لَمَّا " لنفي قد فَعَل نصُّ النحاة على ذلك : سيبويه فَمَنْ دونَه . وقد تقدم نظير هذه الآية في البقرة وتحقيقُ القول فيها بما يُغْني عن إعادتِه فعليك بالالتفات إليه .

وقوله : " منكم " حالٌ " من " الذين " . و { وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ } بكسرِ الميمِ على أصلِ التقاء الساكنين . وقرأ النخعي وابن وثاب بفتحها . وفيها وجهان ، أحدهما : أنَّ الفتحةَ فتحةُ إتباعٍ ، أتبعَ الميمَ للام قبلها والثاني : أنه على إرادةِ النونِ الخفيفةِ ، والأصلُ : " ولَمَّا يَعْلَمَنْ " والمنفيُّ ب لَمَّا قد جاء مؤكداً بها كقوله :

يَحْسَبُه الجاهلُ ما لم يَعْلما *** شيخاً على كُرْسِيِّه مُعَمَّماً

فلمَّا حَذَفَ النونَ بقي آخرُ الفعل مفتوحاً كقوله :

لا تُهِينَ الفقيرَ عَلَّك أَنْ تَرْ *** كَعَ يوماً والدهرُ قد رَفَعَهْ

[ وعليه تُخَرَّج قِراءةُ : " ألم نشرحَ ] بفتح الحاء ، وقولُ الآخر :

في أيِّ يَوميَّ من الموتِ أفِرْ *** أيومَ لم يُقْدَرَ أم يومَ قُدِرْ

قوله : " ويَعْلَم " العامةُ على فتحِ الميم وفيها تخريجان ، أشهرهما : أنَّ الفعلَ منصوبٌ . ثم هل نصبُه ب " أَنْ " مقدرةً بعد الواوِ المقتضيةِ للجمع كهي في قولِك : " لا تأكلِ السمكَ وتَشْربَ اللبن " أي : لا تجمع بينهما وهو مذهب البصريين ، أو بواو الصرف ، وهو مذهب الكوفيين ، يَعْنُون أنه كان مِنْ حَقِّ هذا الفعل أن يُعْرَبَ بإعراب ما قبله ، فلمَّا جاءت الواو صَرَفَتْه إلى وجهٍ آخرَ من الإِعراب . وتقرير المذهبين في غيرِ هذا الموضوع .

والثاني : أنَّ الفتحةَ فتحةُ التاء ساكنين والفعلُ مجزومٌ ، فلمَّا وقع بعده ساكنٌ آخرُ احتيج إلى تحريك آخره فكانت الفتحةُ أَوْلَى لأنها أخف وللإِتباع لحركة اللام ، كما قيل ذلك في أحدِ التخريجين لقراءةِ : { وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ } بفتح الميم ، والأولُ هو الوجه .

وقرأ الحسن وابن يعمر وأبو حيوة بكسرِ الميم عطفاً على " يَعْلَمِ " المجزوم ب " لم " .

وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو بن العلاء : " وَيَعْلَمُ " بالرفع ، وفيه وجهان ، أظهرهما : أنه مستأنفٌ ، أخبر تعالى/ بذلك . وقال الزمخشري : " على أن الواو للحال ، كأنه [ قال ] : ولَمَّا يُجاهِدوا وأنتم صابرون . قال الشيخ : " ولا يَصِحُّ ما قال ، لأنَّ واوَ الحال لا تدخل على المضارعِ ، لا يجوزُ : " جاء زَيدٌ ويضحك " وأنت تريد : جاء زيد يضحك ، لأنَّ المضارع واقع موقع اسم الفاعل ، فكما لا يجوز " جاء زيد وضاحكاً " كذلك لا يجوز : جاء زيد ويضحك ، فإنْ أُوِّلَ على أنَّ المضارعَ خبرُ مبتدأ محذوف أَمْكَنَ ذلك التقديرُ أي : وهو يعلمُ الصابرين كما أَوَّلُوا قولَ الشاعر : . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** نَجَوْتُ وَأَرْهُنُهمْ مالِكا

ِأي : وأنا أَرْهُنُهم " قلت : قولُه : " لا تَدْخُل على المضارعِ " هذا ليس على إطلاقِه ، بل ينبغي أن يقولَ : على المضارعِ المثبت أو المنفي ب " لا " لأنها تدخُل على المضارع المنفيِّ ب لم ولما ، وقد عُرِف ذلك غير مرة .