البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَيَعۡلَمَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (142)

{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } هذه الآية وما بعدها عتب شديد لمن وقعت منهم الهفوات يوم أحد .

واستفهم على سبيل الإنكار أنْ يظنَّ أحد أنْ يدخل الجنة وهو مخلّ بما افترض عليه من الجهاد والصبر عليه .

والمراد بنفي العلم انتفاء متعلقه ، لأنه منتف بانتفائه كما قال تعالى : { ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم } المعنى : لم يكن فيهم خير ، لأنّ ما لم يتعلق به علم الله تعالى موجوداً لا يكون موجوداً أبداً .

وأمْ هنا منقطعة في قول الأكثرين تتقدر ببل ، والهمزة على ما قرر في النحو .

وقيل : هي بمعنى الهمزة .

وقيل : أم متصلة .

قال ابن بحر : هي عديلة همزة تتقدر من معنى ما تتقدم ، وذلك أنَّ قوله :

{ إن يمسسكم قرح وتلك الأيام نداولها } إلى آخر القصة يقتضي أن يتبع ذلك : أتعلمون أن التكليف يوجب ذلك ، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة من غير اختبار وتحمل مشقة وأن تجاهدوا فيعلم الله ذلك منكم واقعاً .

انتهى كلامه .

وتقدّم لنا إبطال مثل هذا القول .

وهذا الاستفهام الذي تضمنته معناه الإنكار والإضراب الذي تضمنته أيضاً هو ترك لما قبله من غير إبطال وأخذ فيما بعده .

وقال أبو مسلم الأصبهاني : أم حسبتم نهيٌ وقع بلفظ الاستفهام الذي يأتي للتبكيت .

وتلخيصه : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولما يقع منكم الجهاد .

لما قال : { ولا تهنوا ولا تحزنوا } كان في معنى : أتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به ، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر .

وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة ، وأوجب الصبر على تحمل مشاقها ، وبين وجوه مصالحها في الدين والدنيا .

فلما كان كذلك كان من البعد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه القاعدة انتهى كلامه .

وظاهره : أن أم متصلة ، وحسبتم هنا بمعنى ظننتم الترجيحية ، وسدّ مسد مفعوليها أن وما بعدها على مذهب سيبويه ، وسد مسد مفعول واحد والثاني محذوف على مذهب أبي الحسن .

ولما يعلم : جملة حالية ، وهي نفي مؤكد لمعادلته للمثبت المؤكد بقد .

فإذا قلت : قد قام زيد ففيه من التثبيت والتأكيد ما ليس في قولك : قام زيد .

فإذا نفيته قلت : لما يقم زيد .

وإذا قلت : قام زيد كان نفيه لم يقم زيد ، قاله سيبويه وغيره .

وقال الزمخشري : ولما بمعنى لم ، إلا أن فيه ضرباً من التوقع فدلَّ على نفي الجهاد فيما مضى ، وعلى توقعه فيما يستقبل .

وتقول : وعدني أن يفعل كذا ، ولما تريد ، ولم يفعل ، وأنا أتوقع فعله انتهى كلامه .

وهذا الذي قاله في لما أنَّها تدل على توقع الفعل المنهى بها فيما يستقبل ، لا أعلم أحداً من النحويين ذكره .

بل ذكروا أنك إذا قلت : لما يخرج زيد دلَّ ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلاً نفيه إلى وقت الإخبار .

أمّا أنها تدل على توقعه في المستقبل فلا ، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئاً يقارب ما قاله الزمخشري .

قال : لما لتعريض الوجود بخلاف لم .

وقرأ الجمهور بكسر الميم لالتقاء الساكنين .

وقرأ ابن وثاب والنخعي بفتحها ، وخرج على أنه اتباع لفتحة اللام وعلى إرادة النون الخفيفة وحذفها كما قال الشاعر :

لا تهين الفقير علك أن *** تركع يوماً والدهر قد رفعه

وقرأ الجمهور : « ويعلم » برفع الميم فقيل : هو مجزوم ، وأتبع الميم اللام في الفتح كقراءة من قرأ : ولما يعلم بفتح الميم على أحد التخريجين .

وقيل : هو منصوب .

فعلى مذهب البصريين بإضمار أن بعد واو مع نحو ، لا تأكل السمك وتشرب اللبن .

وعلى مذهب الكوفيين بواو الصرف ، وتقرير المذهبين في علم النحو .

وقرأ الحسن وابن يعمر وأبو حيوة وعمرو بن عبيد بكسر الميم عطفاً على ولما يعلم .

وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو ويعلم برفع الميم .

قال الزمخشري : على أن الواو للحال كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون انتهى .

ولا يصلح ما قال ، لأن واو الحال لا تدخل على المضارع ، لايجوز : جاء زيد ويضحك ، وأنت تريد جاء زيد يضحك ، لأن المضارع واقع موقع اسم الفاعل .

فكما لا يجوز جاء زيد وضاحكاً ، كذلك لا يجوز جاء زيد ويضحك .

فإنْ أوّلَ على أن المضارع خبرُ مبتدأ محذوف أمكن ذلك ، التقدير : وهو يعلم الصابرين كما أولوا قوله : نجوت وأرهنهم مالكاً ، أي وأنا أرهنهم .

وخرج غير الزمخشري قراءة الرفع على استئناف الاخبار ، أي : وهو يعلم الصابرين .

وفي إنكار الله تعالى على من ظنّ أنّ دخول الجنة يكون مع انتفاء الجهاد ، والصبر عند لقاء العدوّ دليل على فرضية الجهاد إذ ذاك ، والثبات للعدوّ وقد ذكر في الحديث : « أن التولي عند الزحف من السبع الموبقات »

/خ152