معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (1)

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : { يُسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

يقول تعالى ذكره : يسجد له ما في السموات السبع وما في الأرض من خلقه ويعظمه .

وقوله : لَهُ المُلْكُ يقول تعالى ذكره : له ملك السموات والأرض وسلطانه ماض قضاؤه في ذلك نافذ فيه أمره .

وقوله : وَلَهُ الحَمْدُ يقول : وله حمد كلّ ما فيها من خلق ، لأن جميع من في ذلك من الخلق لا يعرفون الخير إلا منه ، وليس لهم رازق سواه فله حمد جميعهم وَهُوَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول : وهو على كلّ شيء ذو قدرة ، يقول : يخلق ما يشاء ، ويميت من يشاء ، ويغني من أراد ، ويفقر من يشاء ويعزّ من يشاء ، ويذلّ من يشاء ، لا يتعذرّ عليه شيء أراده ، لأنه ذو القدرة التامة التي لا يعجزه معها شيء .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

سميت هذه السورة { سورة التغابن } ولا تعرف بغير هذا الاسم ولم ترد تسميتها بذلك في خبر مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى ما ذكره ابن عطية عن الثعلبي عن ابن عمر من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من مولود إلا وفي تشابيك مكتوب خمس آيات فاتحة سورة التغابن . والظاهر أن منتهى هذه الآيات قوله تعالى { والله عليم بذات الصدور } فتأمله . ورواه القرطبي عن ابن عمر ولم ينسبه إلى التعليق فلعله أخذه من تفسير ابن عطية .

ووجه التسمية وقوع لفظ { التغابن } فيها ولم يقع في غيرها من القرآن .

وهي مدنية في قول الجمهور وعن الضحاك هي مكية . وروى الترمذي عن عكرمة عن ابن عباس أن تلك الآيات نزلت في رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا الهجرة فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث . وقال مجاهد : نزلت في شأن عوف الأشجعي كما سيأتي .

وهي معدودة السابعة والمائة في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة الجمعة وقبل سورة الصف بناء على أنها مدنية .

وعدد آيها ثمان عشرة .

أغراضها

واشتملت هذه السورة على التذكير بأن من في السماء ومن في الأرض يسبحون لله ، أي تنزهونه عن النقائض تسبيحا متجددا .

وأن الملك لله وحده فهو الحقيق بأفراده بالحمد لأنه خالق الناس كلهم فآمن بوحدانيته ناس وكفر ناس ولم يشكروا نعمة إذ خلقهم في أحسن صورة وتحذيرهم من إنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .

وإنذارهم على ذلك ليعتبروا بما حل بالأمم الذين كذبوا رسلهم وجحدوا بيناتهم تكبرا أن يهتدوا بإرشاد بشر مثلهم .

والإعلام بأن الله عليم بالظاهر والخفي في السماوات والأرض فلا يجري أمر في العالم إلا على ما اقتضته حكمته .

وأنحى عليهم إنكار البعث وبين لهم عدم استحالته وهددهم بأنهم يلقون حين يبعثون جزاء أعمالهم فإن أرادوا النجاة فليؤمنوا بالله وحده وليصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم والكتاب الذي جاء به ويؤمنوا بالبعث فإنهم إن آمنوا كفرت عنهم سيئاتهم وإلا فجزاؤهم النار خالدين فيها .

ثم تثبيت المؤمنين على ما يلاقونه من ضر أهل الكفر بهم فليتوكلوا على الله في أمورهم .

وتحذير المؤمنين من بعض قرابتهم الذين تغلغل الإشراك في نفوسهم تحذيرا من أن يثبطوهم عن الإيمان والهجرة .

وعرض لهم بالصبر على أموالهم التي صادرها المشركون .

وأمرهم بإنفاق المال في وجوه الخير التي يرضون بها ربهم وبتقوى الله والسمع له والطاعة .

لما كان جُلّ ما اشتملت عليه هذه السورة إبطالَ إشراك المشركين وزجرهم عن دين الإِشراك بأسره وعن تفاريعه التي أعظمها إنكارهم البعث وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيب القرآن وتلك أصول ضلالهم ابتُدئت السورة بالإِعلان بضلالهم وكفرانهم المنعم عليهم ، فإن ما في السماوات والأرض يسبح لله تعالى عن النقائص : إما بلسان المقال مثل الملائكة والمؤمنين أو بلسان الحال مثل عبادة المطيعين من المخلوقات المدركة كالملائكة والمؤمنين ، وإما بلسان الحال مثل دلالة حال الاحتياج إلى الإِيجاد والإِمداد كحاجة الحيوان إلى الرزق وحاجة الشجرة إلى المطر وما يشهد به حال جميع تلك الكائنات من أنها مربوبة لله تعالى ومسخرة لما أراده منها . وكل تلك المخلوقات لم تنقض دلالة حالها بنقائض كفر مقالها فلم يخرج عن هذا التسبيح إلا أهل الضلال من الإِنس والشياطين فإنهم حَجبوا بشهادة حالهم لما غشوها به من صرح الكفر .

فالمعنى : يسبح لله ما في السماوات والأرض وأنتم بخلاف ذلك .

وهذا يفيد ابتداء تقرير تنزيه الله تعالى وقوة سلطانه ليزداد الذين آمنوا إيماناً ويكون لهم تعليماً وامتناناً ويفيد ثانياً بطريق الكناية تعريضاً بالمشركين الذين لم ينزهوه ولا وقروه فنسبوا إليه شركاء .

وجيء بفعل التسبيح مضارعاً للدلالة على تجدّد ذلك التسبيح ودوامه وقد سبق نظيره في فاتحة سورة الجمعة .

وجيء به في فواتح سُور : الحديد ، والحشر ، والصف بصيغة الماضي للدلالة على أن التسبيح قد استقر في قديم الأزمان . فحصل من هذا التفنن في فواتح هذه السورة كلا المعنيين زيادة على ما بيناه من المناسبة الخاصة بسورة الجمعة ، وما في هاته السورة من المناسبة بين تجدد التسبيح والأمر بالعفو عن ذوي القربى والأمر بالتقوى بقدر الاستطاعة والسمع والطاعة لكي لا يكتفي المؤمنون بحصول إيمانهم ليجتهدوا في تعزيزه بالأعمال الصالحة .

وإعادة { ما } الموصولة في قوله : { وما في الأرض } لقصد التوكيد اللفظي .

وجملة { له الملك } استئناف واقع موقع التعليل والتسبب لمضمون يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض فإن ملابسة جميع الموجودات لدلائل تنزيه الله تعالى عن الشركاء وعن النقائص لا مقتضى لها إلا انفرادُه بتملكها وإيجادها وما فيها من الاحتياج إليه وتصرفه فيها تصرف المالك المتفرد في ملكه .

وفي هذه الجملة تنويه بإقبال أهل السماوات والأرض على تسبيح الله وتجديد ذلك التسبيح .

فتقديم المسند على المسند إليه لإِفادة تخصيصه بالمسند إليه ، أي قصر تعلق لام الاستحقاق بالملك عليه تعالى فلا ملك لغيره وهو قصر ادعائي مبني على عدم الاعتداد بما لغير الله من ملك لنقصه وعدم خلوّه عن الحاجة إلى غيره من هو له بخلاف ملكه تعالى فهو الملك المطلق الداخل في سلطانه كل ذي ملك .

وجملة { وله الحمد } مضمونها سبب لتسبيح الله ما في السماوات وما في الأرض ، إذ التسبيح من الحمد ، فلا جرم أن كان حمد ذوي الإِدراك مختصاً به تعالى إذ هو الموصوف بالجميل الاختياري المطلق فهو الحقيق بالحمد والتسبيح .

فهذا القصر ادعائي لعدم الاعتداد بحمد غيره لنقصان كمالاتهم وإذا أريد بالحمد ما يشمل الشكر أو يفضي إليه كما في الحديث « الحمد رأس الشكر لم يشكر الله عبد لم يحمده » وهو مقتضى المقام من تسفيه أحلام المشركين في عبادتهم غيره فالشكر أيضاً مقصور عليه تعالى لأنه المنعم الحق بنعم لا قبل لغيره بإسدائها ، وهو المفيض على المنعمين ما ينعمون به في الظاهر ، قال تعالى : { وما بكم من نعمة فمن الله } [ النحل : 53 ] كما تقدم في تفسير أول سورة الفاتحة .

وجملة { وهو على كل شيء قدير } معطوفة على اللتين قبلها وهي بمنزلة التذييل لهما والتبيين لوجه القصرين فيهما ، فإن التقدير على كل شيء هو صاحب الملك الحق وهو المختص بالحمد الحق .

وفي هذا التذييل وعد للشاكرين ووعيد وترهيب للمشركين .

والاقتصار على ذكر وَصف { قدير } هنا لأن المخلوقات التي تسبح الله دالة على صفة القدرة أولاً لأن من يشاهد المخلوقات يعلم أن خالقها قادر .