معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{كَلَّآۖ إِنَّا خَلَقۡنَٰهُم مِّمَّا يَعۡلَمُونَ} (39)

{ كلا } لا يدخلونها . ثم ابتدأ فقال : { إنا خلقناهم مما يعلمون } أي : من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ، نبه الناس على أنهم خلقوا من أصل واحد وإنما يتفاضلون ويستوجبون الجنة بالإيمان والطاعة .

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أحمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا بن محمد بن فنجويه ، حدثنا موسى بن محمد بن علي ، حدثنا جعفر بن محمد الفريابي ، حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا جرير ابن عثمان الرحبي ، عن عبد الرحمن بن ميسرة ، عن جبير بن نفير ، عن بشر ابن جحاش القرشي قال : " قال النبي صلى الله عليه وسلم وبصق يوماً في كفه ووضع عليها إصبعه فقال : يقول الله عز وجل : ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ، حتى إذا سويتك وعدلتك ، ومشيت بين بردين ، وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق ، وأنى أوان الصدقة " . وقيل : معناه إنا خلقناهم من أجل ما يعملون وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب . وقيل : ما بمعنى من ، مجازه : إنا خلقناهم ممن يعلمون ويعقلون لا كالبهائم .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{كَلَّآۖ إِنَّا خَلَقۡنَٰهُم مِّمَّا يَعۡلَمُونَ} (39)

وقوله : كَلاّ إنّا خَلَقْناهُمْ مِمّا يَعْلَمُونَ يقول عزّ وجلّ : ليس الأمر كما يطمع فيه هؤلاء الكفار من أن يدخل كلّ امرىء منهم جنة نعيم .

وقوله : إنّا خَلَقْناهُمْ مِمّا يَعْلَمُونَ يقول جلّ وعزّ : إنا خلقناهم من منيّ قذر ، وإنما يستوجب دخول الجنة من يستوجبه منهم بالطاعة ، لا بأنه مخلوق ، فكيف يطمعون في دخول الجنة وهم عصاة كفرة . وقد :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : إنّا خَلَقْناهُمْ مِمّا يَعْلَمونَ إنما خُلقتَ من قَذرٍ يا ابن آدم ، فاتق الله .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{كَلَّآۖ إِنَّا خَلَقۡنَٰهُم مِّمَّا يَعۡلَمُونَ} (39)

كلام مستأنف استئنافاً ابتدائياً للانتقال من إثبات الجزاء إلى الاحتجاج على إمكان البعث إبطالاً لشبهتهم الباعثة على إنكاره ، وهو الإِنكار الذي ذكر إجمالاً بقوله المتقدم آنفاً { إنهم يَرونه بعيداً ونَراه قريباً } [ المعارج : 6 ، 7 ] فاحتج عليهم بالنشأة الأولى ، كما قال تعالى : { ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون } [ الواقعة : 62 ] فالخبر بقوله : { إنّا خلقناهم مما يعلمون } مستعمل في لازم معناه وهو إثبات إعادة خلْقهم بعد فنائهم .

فهذا من تمام الخطاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمقصود منه أن يبلغ إلى أسماع المشركين كما تقدم آنفاً .

والمعنى : أنا خلقنا الإنسان من نطفة حتى صارت إنساناً عاقلاً مناظراً فكذلك نعيد خلقه بكيفية لا يعلمونها .

فما صْدَقُ ( ما يعلمون ) هو ما يعلمه كل أحد من أنه كون في بطن أمه من نطفة وعلقة ، ولكنهم علموا هذه النشاة الأولى فألهاهم التعوّد بها عن التدبر في دلالتها على إمكان إعادة المكوَّن منها بتكوين آخر .

وعُدِل عن أن يقال : إنا خلقناهم من نطفة ، كما قال في آيات أخرى { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج } [ الإنسان : 2 ] وقال : { أو لم يرَ الإِنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم } [ يس : 77 ، 78 ] وغيرها من آيات كثيرة ، عدل عن ذلك إلى الموصول في قوله : { مما يعلمون } توجيهاً للتهكم بهم إذ جادلوا وعاندوا ، وعِلْمُ ما جادلوا فيه قائم بأنفسهم وهم لا يشعرون ، ومنه قوله تعالى : { ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذَّكَّرون } [ الواقعة : 62 ] . وكان في قوله تعالى : { مما يعلمون } إيماء إلى أنهم يُخْلَقون الخلقَ الثاني { مما لا يعلمون كما قال في الآية الأخرى سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون } [ يس : 36 ] وقال : { وننشئكم فيما لا تعلمون } [ الواقعة : 61 ] فكان في الخَلْق الأول سِرٌّ لا يعلمونه .

ومجيء { إنا خلقناهم } موكداً بحرف التأكيد لتنزيلهم فيما صدر منهم من الشبهة الباطلة منزلة من لا يعلمون أنهم خُلقوا من نطفة وكانوا معدومين ، فكيف أحالوا إعادة خلقهم بعد أن عدم بعض أجزائهم وبقي بعضها ثم أتبع هذه الكناية عن إمكان إعادة الخلق بالتصريح بذلك بقوله : { فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدِّل خيراً منهم } مفرعاً على قوله : { إنا خلقناهم مما يعلمون } والتقدير : فإنا لقادرون الآية .