الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{كَلَّآۖ إِنَّا خَلَقۡنَٰهُم مِّمَّا يَعۡلَمُونَ} (39)

" كلا " لا يدخلونها . " إنا خلقناهم مما يعلمون " ثم ابتدأ فقال : " إنا خلقناهم مما يعلمون " أي إنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ، كما خلق سائر جنسهم . فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة ، وإنما تستوجب بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى . وقيل : كانوا يستهزئون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم . فقال : " إنا خلقناهم مما يعلمون " من القذر ، فلا يليق بهم هذا التكبر . وقال قتادة في هذه الآية : إنما خلقت يا ابن آدم من قذر فاتق الله . وروي أن مطرف بن عبدالله بن الشخير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مُِطْرَف{[15369]} خز وجبة خز فقال له : يا عبدالله ، ما هذه المشية التي يبغضها الله ؟ فقال له : أتعرفني ؟ قال نعم ، أولك نطفة مذرة{[15370]} ، وآخرك جيفة قذرة ، وأنت فيما بين ذلك{[15371]} تحمل العذرة . فمضى المهلب وترك مشيته . نظم الكلام محمود الوراق فقال :

عَجِبْتُ من مُعْجِبٍ بِصُورَتِه *** وكان في الأصل نطفةً مَذِرَهْ

وهو غدا بعد حسن صورته *** يصير في اللَّحْدِ جيفةً قَذِرَهْ

وهو على تِيهه ونخوته *** ما بين ثوبيه يحمل العَذِرَهْ

وقال آخر :

هل في ابن آدم غير الرأس مكرمة *** وهو بخمسٍ من الأوساخ مضروب

أنف يسيل وأذنٌ ريحها سَهِكٌ{[15372]} *** والعين مُرْمَصة والثغر ملهوب

يا ابن التراب ومأكول التراب غدا *** قَصِّرْ فإنك مأكول ومشروب

وقيل : معناه من أجل ما يعلمون ، وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب . كقول الشاعر وهو الأعشى :

أأزمعت من آل ليلى ابتكارا *** وشطت على ذي هوىً أن تُزَارَا

أي من أجل ليلى .


[15369]:المطرف (بكسر الميم وضمها): واحد المطارف، وهي أردية من خز مربعة لها أعلام.
[15370]:المذر: الفساد.
[15371]:زيادة عن الخطيب الشربيني.
[15372]:السهك ـ محركة ـ ريح كريهة تجدها من الإنسان إذا عرق.