اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{كَلَّآۖ إِنَّا خَلَقۡنَٰهُم مِّمَّا يَعۡلَمُونَ} (39)

فصل في تعلق الآية بما بعدها

لما قال المستهزئون : إن دخل هؤلاء الجنَّة كما يقولُ محمدٌ فلندخلنَّها قبلهم ، أجابهم الله - تعالى - بقوله : { كَلاَّ } لا يدخلونها ، ثم ابتدأ فقال : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } أي : أنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نُطفةٍ ، ثم من علقة ، ثم كما خلق سائر جنسهم ، فليس لهم فضلٌ يستوجبون به الجنة ، وإنما يستوجب بالإيمان ، والعمل الصالح ، ورحمة الله تعالى .

وقيل : كانوا يستهزئون بفقراء المسلمينَ ويتكبرون عليهم ، فقال : { إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِّمَّا يَعْلَمُونَ } ، أي : من القذر ، فلا يليقُ بهم هذا التكبرُ .

وقال قتادة في هذه الآيةِ : إنَّما خلقت يا ابن آدم من قذرٍ فاتَّقِ اللَّهَ{[57954]} .

وروي أنَّ مطرف بن عبد الله بن الشِّخيرِ ، رأى المهلَّب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خَزّ وجُبة خَزّ ، فقال له : يا عبد الله ، ما هذه المشية التي يبغضها الله ؟ .

فقال له : أتعرفني ، قال : نعم ، أوّلك نطفةٌ مذرةٌ ، وآخرك جيفةٌ قذرةٌ ، وأنت تحمل العذرةَ ، فمضى المهلَّب وترك مشيته{[57955]} .

قال ابن الخطيب{[57956]} : ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً :

أحدها : لما احتج على صحة البعث دل على أنهم كانوا منكرين للبعث ، فكأنه قيل لهم : كلا إنكم منكرون للبعث فمن أين تطمعون بدخولِ الجنَّة .

وثانيها : أنَّ المستهزئين كانوا يستحقرون المؤمنين - كما تقدّم - فقال تعالى : إنَّ هؤلاء المستهزئين مخلوقون مما خلقوا ، فكيف يليق بهم هذا الاحتقار ؟ .

وثالثها : أنَّهم مخلوقون من هذه الأشياء المستقذرة ، ولم يتصفوا بالإيمانِ ، والمعرفةِ ، فكيف يليق بالحكمة إدخالهم الجنة ؟ .

وقيل : معنى قوله : { خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } ، أي : مراحل ما يعلمون وهو الأمر والنَّهي والثوابُ والعقابُ .

كقول الأعشى : [ المتقارب ]

4873 - أأزْمَعْتَ من آلِ لَيْلَى ابْتِكَارا*** وشَطَّتْ على ذِي هَوَى أنْ تُزَارَا{[57957]}

أي : من أجل ليلى .


[57954]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/242) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/421) وعزاه إلى عبد بن حميد.
[57955]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/191).
[57956]:ينظر: الفخر الرازي 30/117.
[57957]:ينظر القرطبي 18/191.