الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{كَلَّآۖ إِنَّا خَلَقۡنَٰهُم مِّمَّا يَعۡلَمُونَ} (39)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

يقول الله تعالى: {كلا} لا يدخلها، ثم استأنف فقال: لما كذبوا بالغيب {إنا خلقناهم مما يعلمون} خلقوا من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول عزّ وجلّ: ليس الأمر كما يطمع فيه هؤلاء الكفار من أن يدخل كلّ أمرئ منهم جنة نعيم...

إنا خلقناهم من منيّ قذر، وإنما يستوجب دخول الجنة من يستوجبه منهم بالطاعة، لا بأنه مخلوق، فكيف يطمعون في دخول الجنة وهم عصاة كفرة.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{كلا} رد لاعتقادهم وقطع لأطماعهم، {كلا} أي لا يدخلونها قط. ثم استأنف بقوله: {إنا خلقناهم مما يعلمون} أي من تلك النطف، فيذكرهم بهذا عظيم نعمه وإحسانه إليهم: بما أخرجهم منها، ونقلهم من حال إلى حال حتى صاروا بشرا سويا ليعلموا أنه لا يتركهم سدى، بل ليمتحنهم، ويستأدي منهم شكر ما أنعم عليهم، فيوجب ذلك تصديق الرسل. وفيه تذكير بقدرته وسلطانه وبيان ضعف اقتدائهم ليعلموا إن من قدر على إنشائهم لقادر على أن يحييهم بعد ما أفناهم، والله اعلم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

وقيل: معناه إنا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بني آدم كلهم، ومن حكمنا أن لا يدخل أحد منهم الجنة إلا بالإيمان والعمل الصالح، فلم يطمع أن يدخلها من ليس له إيمان وعمل.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ثم قال: {كلا} وهو ردع لهم عن ذلك الطمع الفاسد. ثم قال: {إنا خلقناهم مما يعلمون} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: الغرض من هذا الاستدلال على صحة البعث، كأنه قال: لما قدرت على أن أخلقكم من النطفة، وجب أن أكون قادرا على بعثكم.

المسألة الثانية: ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها:

(أحدها) أنه لما احتج على صحة البعث، دل على أنهم كانوا منكرين للبعث، فكأنه قيل لهم: كلا إنكم منكرون للبعث، فمن أين تطمعون في دخول الجنة.

(وثانيها) أن المستهزئين كانوا يستحقرون المؤمنين، فقال تعالى: هؤلاء المستهزئون مخلوقون مما خلقوا، فكيف يليق بهم هذا الاحتقار.

(وثالثها) أنهم مخلوقون من هذه الأشياء المستقذرة، فلو لم يتصفوا بالإيمان والمعرفة، فكيف يليق بالحكيم إدخالهم الجنة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري المفيد للنفي: لا يدخل، أكد ذلك مع إفهام الضجر والاستصغار بالإتيان بأم الزواجر والروادع فقال: {كلا} أي لا يكون ما طمعوا فيه أصلاً لأن ذلك تمن فارغ لا سبب له -بما دل عليه التعبير بالطمع دون الرجاء. ولما كان الإنسان إذا أكثر من شيء وجعله ديدنه فساغ عندهم أن يقال: فلان خلق من كذا، علل ذلك بقوله مؤكداً، عدّاً لهم منكرين لأنهم مع علمهم بنقصانهم يدعون الكمال: {إنا} على ما لنا من العظمة {خلقناهم} بالعظمة التي لا يقدر أحد أن يقاويها فيصرف شيئاً من إرادته عن تلك الوجهة التي وجهته إليها إلى غيرها {مما يعلمون} أي مما يستحي من ذكره ذاتاً ومعنى، أما الذات فهو نطفة مذرة أخرجت من مخرج البول وغذيناها بدم الحيض، فهي يتحلب منها البول والعذرة، وأما المعنى فالهلع والجزع والمنع اللاتي هم موافقون على عدها نقائص، فلا يصلحون لدار الكمال إلا بتزكية أنفسهم بما تقدم من هذه الخلال التي حض عليها الملك المتعال...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وهم يعلمون مم خلقوا! من ذلك الماء المهين الذي يعرفون! والتعبير القرآني المبدع يلمسهم هذه اللمسة الخفية العميقة في الوقت ذاته؛ فيمسح بها كبرياءهم مسحا، وينكس بها خيلاءهم تنكيسا، دون لفظة واحدة نابية، أو تعبير واحد جارح. بينما هذه الإِشارة العابرة تصور الهوان والزهادة والرخص أكمل تصوير!

فكيف يطمعون أن يدخلوا جنة نعيم على الكفر وسوء الصنيع؟ وهم مخلوقون مما يعلمون! وهم أهون على الله من أن تكون لهم دالة عليه، وخرق لسنته في الجزاء العادل باللظى وبالنعيم.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

كلام مستأنف للانتقال من إثبات الجزاء إلى الاحتجاج على إمكان البعث إبطالاً لشبهتهم الباعثة على إنكاره، وهو الإِنكار الذي ذكر إجمالاً بقوله المتقدم آنفاً {إنهم يَرونه بعيداً ونَراه قريباً} [المعارج: 6، 7] فاحتج عليهم بالنشأة الأولى، كما قال تعالى: {ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون} [الواقعة: 62] فالخبر بقوله: {إنّا خلقناهم مما يعلمون} مستعمل في لازم معناه وهو إثبات إعادة خلْقهم بعد فنائهم.

فهذا من تمام الخطاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمقصود منه أن يبلغ إلى أسماع المشركين كما تقدم آنفاً.

والمعنى: أنا خلقنا الإنسان من نطفة حتى صارت إنساناً عاقلاً مناظراً فكذلك نعيد خلقه بكيفية لا يعلمونها.

فما صْدَقُ (ما يعلمون) هو ما يعلمه كل أحد من أنه كون في بطن أمه من نطفة وعلقة، ولكنهم علموا هذه النشأة الأولى فألهاهم التعوّد بها عن التدبر في دلالتها على إمكان إعادة المكوَّن منها بتكوين آخر.

وعُدِل عن أن يقال: إنا خلقناهم من نطفة، كما قال في آيات أخرى {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج} [الإنسان: 2] وقال: {أو لم يرَ الإِنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم} [يس: 77، 78] وغيرها من آيات كثيرة، عدل عن ذلك إلى الموصول في قوله: {مما يعلمون} توجيهاً للتهكم بهم إذ جادلوا وعاندوا، وعِلْمُ ما جادلوا فيه قائم بأنفسهم وهم لا يشعرون، ومنه قوله تعالى: {ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذَّكَّرون} [الواقعة: 62]. وكان في قوله تعالى: {مما يعلمون} إيماء إلى أنهم يُخْلَقون الخلقَ الثاني {مما لا يعلمون كما قال في الآية الأخرى سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون} [يس: 36] وقال: {وننشئكم فيما لا تعلمون} [الواقعة: 61] فكان في الخَلْق الأول سِرٌّ لا يعلمونه.

ومجيء {إنا خلقناهم} موكداً بحرف التأكيد لتنزيلهم فيما صدر منهم من الشبهة الباطلة منزلة من لا يعلمون أنهم خُلقوا من نطفة وكانوا معدومين، فكيف أحالوا إعادة خلقهم بعد أن عدم بعض أجزائهم وبقي بعضها ثم أتبع هذه الكناية عن إمكان إعادة الخلق بالتصريح بذلك بقوله: {فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدِّل خيراً منهم} مفرعاً على قوله: {إنا خلقناهم مما يعلمون} والتقدير: فإنا لقادرون.