قوله تعالى : { فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض } قال مقاتل : قال كفار قريش للمؤمنين : إنا نعطى في الآخرة من الخير ما تعطون ، فنزلت هذه الآية : { أم نجعل المتقين كالفجار } أي المؤمنين كالكفار . وقيل : أراد بالمتقين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، أي : لا نجعل ذلك .
وقوله : ( أمْ نَجْعَلُ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كالمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ ) : يقول : أنجعل الذين صدّقوا الله ورسوله وعملوا بما أمر الله به ، وانتهوا عما نهاهم عنه كالمُفْسِدينَ فِي الأرْضِ يقول : كالذين يشركون بالله ويعصُونه ويخالفون أمره ونهيه . ( أمْ نَجْعَلُ المُتّقِينَ ) : يقول : الذين اتقوا الله بطاعته وراقبوه ، فحذروا معاصيه كالفُجّارِ يعني : كالكفار المنتهكين حرمات الله .
{ أم } منقطعة أفادت إضراباً انتقالياً وهو ارتقاء في الاستدلال على ثبوت البعث وبيان لما هو من مقتضى خلق السماء والأرض بالحق ، بعد أن سيق ذلك بوجه الاستدلال الجُمليّ ، وقد كان هذا الانتقال بناء على ما اقتضاه قوله : { ذلك ظنُّ الذين كفروا } [ ص : 27 ] فلأجْل ذلك بني على استفهام مقدر بعد { أم } وهو من لوازم استعمالها ، وهو استفهام إنكاري . والمعنى : لو انتفى البعث والجزاء كما تزعمون لاستوت عند الله أحوال الصالحين وأحوال المفسدين .
والتشبيه في قوله : { كالمُفْسِدِينَ } للتسوية . والمعنى : إنكار أن يكونوا سواء في جعل الله ، أي إذا لم يُجاز كلَّ فريق بما يستحقه على عمله ، فالمشاهد في هذه الحياة الدنيا خلاَفُ ذلك فتعين أن يكون الجزاء في عالم آخر وهو الذي يسلك له الناس بعد البعث . وقد أُخذ في الاستدلال جانبُ المساواة بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض ، لأنه يوجد كثير من الفريقين متساوِينَ في حالة الحياة الدنيا في النعمة أو في التوسط أو في البؤس والخصاصة ، فحالة المساواة كافية لتكون مناط الاستدلال على إبطال ظن الذين كفروا بقطع النظر عن حالة أخرى أولى بالدلالة ، وهي المقابلة بين فريق المفسدين أولي النعمة وفريق الصالحين أولي البؤس ، وعن حالة دون ذلك وهي فريق المفسدين أصحاب البؤس والخصاصة وفريق الصالحين أولي النعمة لأنها لا تسترعي خاطر الناظر .
و { أم } الثانية منقطعة أيضاً ومفادها إضراب انتقال ثاننٍ للارتقاء في الاستدلال على أن الحكمة الربانية بمراعاة الحق وانتفاع الباطل في الخلق تقتضي الجزاء والبعثَ لأجله .
ومعنى الاستفهام الذي تقتضيه { أم } الثانية : الإِنكار كالذي اقتضته { أم } الأولى . وهذا الارتقاء في الاستدلال لقصد زيادة التشنيع على منكري البعث والجزاء بأن ظنهم ذلك يقتضي أن جعل الله المتقين مُساوين للفجّار في أحوال وجود الفريقين ، وتقريره مِثلَ ما قُرّر به الاستدلال الأول .
والمتّقون : هم الذين كانت التقوى شعارهم . والتقوى : ملازمة اتباع المأمورات واجتناب المنهيات في الظاهر والباطن ، وقد تقدم في أول سورة البقرة .
والفجّار : الذين شعارهم الفجور ، وهو أشد المعصية ، والمراد به : الكفر وأعماله التي لا تراقب أصحابها التقوى كما في قوله تعالى : { أولئك هم الكفرة الفجرة } [ عبس : 42 ] وقد تقدم تفصيل من هذا عند قوله تعالى : { إنه يبدأ الخلق ثم يُعيدُهُ لِيَجْزِي الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ بالقِسْطِ والَّذِينَ كَفَرُوا لَهُم شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وعَذَابٌ أَلِيمٌ بِما كَانُوا يَكْفُرُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمس ضياءَ إلى قوله : { مَا خَلَقَ الله ذلك إلاَّ بِالحَقِّ } [ يونس : 4 - 5 ] .
والمقصود من هذا الإِطناب زيادة التهويل والتفظيع على الذين ظنوا ظنّاً يفضي إلى أن الله خلق شيئاً من السماء والأرض وما بينهما باطلاً فإن في الانتقال من دلالة الأضعف إلى دلالة الأقوى وفي تكرير أداة الإِنكار شأناً عظيماً من فضح أمر الضالين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"أمْ نَجْعَلُ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كالمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ": يقول: أنجعل الذين صدّقوا الله ورسوله وعملوا بما أمر الله به، وانتهوا عما نهاهم عنه "كالمُفْسِدينَ فِي الأرْضِ "يقول: كالذين يشركون بالله ويعصُونه ويخالفون أمره ونهيه. "أمْ نَجْعَلُ المُتّقِينَ "يقول: الذين اتقوا الله بطاعته وراقبوه، فحذروا معاصيه "كالفُجّارِ" يعني: كالكفار المنتهكين حرمات الله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
إذ قد سوى بينهم في هذه الدنيا وجمعهم في لذات هذه الدنيا وشهواتها وفي حسناتها وسيئاتها، وفي الحكمة التفريق بينهم والتمييز، وقد سوى بينهم في الدنيا على ما ذكرنا من جمعهم في المحنة بالخير والشر. فلو كان على ما ظن أولئك أن لا بعث ولا حياة، لكان ذلك جمعا وتسوية بين الولي والعدو. وفي الشاهد من سوى بين ما عاداه وبين من والاه، وجمع بينهم في البر والجزاء كان سفيها غير حكيم. فعلى ذلك الله سبحانه، لو لم يجعل دارا أخرى يفرق بينهم فيها كان غير حكيم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَمْ} منقطعة. ومعنى الاستفهام فيها الإنكار، والمراد: أنه لو بطل الجزاء كما يقول الكافرون لاستوت عند الله أحوال من أصلح وأفسد، واتقى وفجر، ومن سوّى بينهم كان سفيهاً ولم يكن حكيماً...
تقريره أنا نرى في الدنيا من أطاع الله واحترز عن معصيته في الفقر والزمانة وأنواع البلاء، ونرى الكفرة والفساق في الراحة والغبطة، فلو لم يكن حشر ونشر ومعاد فحينئذ يكون حال المطيع أدون من حال العاصي، وذلك لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم، وإذا كان ذلك قادحا في الحكمة، ثبت أن إنكار الحشر والنشر يوجب إنكار حكمة الله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير: أفنحن نخلق ذلك باطلاً؟ فلا يكون له مآل يظهر فيه حكمته ونحن منزهون عن العبث؟ عطف عليه قوله إنكاراً لما يلزم من ترك البعث من التسوية بين ما حقه المفاوتة فيه، وذلك أشد من العبث وإن كان له أن يفعل ذلك؛ لأنه لا يقبح منه شيء: {أم نجعل} أي على عظمتنا {الذين آمنوا} أي امتثالاً لأوامرنا.
{وعملوا} أي تصديقاً لدعواهم الإيمان.
{الصالحات} من الأعمال، كالذين أفسدوا وعملوا السيئات، أم نجعل المصلحين في الأرض {كالمفسدين} أي المطبوعين على الفساد الراسخين فيه.
{في الأرض} بالكفر وغيره، والتسوية بينهم لا يشك عاقل في أنها سفه.
{أم نجعل} على ما لنا من العز والمنعة الذين اتقوا كالذين فجروا أم نصيّر
{المتقين} أي الراسخين من المؤمنين في التقوى الموجبة للتوقف عن كل ما لم يدل عليه دليل.
{كالفجار} أي الخارجين من غير توقف عن دائرة التقوى من هؤلاء الذين كفروا أو من غيرهم في أن كلاًّ من المذكورين يعيش على ما أدى إليه الحال في الدنيا، وفي الأغلب يكون عيش الطالح أرفع من عيش الصالح، ثم يموت ولا يكون شيء بعد ذلك.
وقد علم أن الآية من الاحتباك، وأنه مشير إلى احتباك آخر، فإنه ذكر {الذين أمنوا} أولاً دليلاً على {الذين أفسدوا} ثانياً، وذكر {المفسدين} ثانياً دليلاً {على المؤمنين} أولاً، وأفهم ذلك ذكر {الذين اتقوا} وأضدادهم وسر ما ذكر وما حذف أنه ذكر أدنى أسنان الإيمان تنبيهاً على شرفه وأنه سبب السعادة وإن كان على أدنى الوجوه وذكر أعلى أحوال الفساد، إشارة إلى أنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء وذكر أعلى أحوال التقوى إيماء إلى أنه لا يوصف بها ويستحق جزاءها إلا الراسخ فيها ترغيباً للمؤمن في أن يترقى إلى أوجها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{أم} منقطعة أفادت إضراباً انتقالياً وهو ارتقاء في الاستدلال على ثبوت البعث وبيان لما هو من مقتضى خلق السماء والأرض بالحق، بعد أن سيق ذلك بوجه الاستدلال الجُمليّ، وقد كان هذا الانتقال بناء على ما اقتضاه قوله: {ذلك ظنُّ الذين كفروا} [ص: 27] فلأجْل ذلك بني على استفهام مقدر بعد {أم} وهو من لوازم استعمالها، وهو استفهام إنكاري. والمعنى: لو انتفى البعث والجزاء كما تزعمون لاستوت عند الله أحوال الصالحين وأحوال المفسدين.
والتشبيه في قوله: {كالمُفْسِدِينَ} للتسوية. والمعنى: إنكار أن يكونوا سواء في جعل الله، أي إذا لم يُجاز كلَّ فريق بما يستحقه على عمله، فالمشاهد في هذه الحياة الدنيا خلاَفُ ذلك فتعين أن يكون الجزاء في عالم آخر وهو الذي يسلك له الناس بعد البعث. وقد أُخذ في الاستدلال جانبُ المساواة بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض، لأنه يوجد كثير من الفريقين متساوِينَ في حالة الحياة الدنيا في النعمة أو في التوسط أو في البؤس والخصاصة، فحالة المساواة كافية لتكون مناط الاستدلال على إبطال ظن الذين كفروا بقطع النظر عن حالة أخرى أولى بالدلالة، وهي المقابلة بين فريق المفسدين أولي النعمة وفريق الصالحين أولي البؤس، وعن حالة دون ذلك وهي فريق المفسدين أصحاب البؤس والخصاصة وفريق الصالحين أولي النعمة لأنها لا تسترعي خاطر الناظر.
و {أم} الثانية منقطعة أيضاً ومفادها إضراب انتقال ثاننٍ للارتقاء في الاستدلال على أن الحكمة الربانية بمراعاة الحق وانتفاع الباطل في الخلق تقتضي الجزاء والبعثَ لأجله.
ومعنى الاستفهام الذي تقتضيه {أم} الثانية: الإِنكار كالذي اقتضته {أم} الأولى. وهذا الارتقاء في الاستدلال لقصد زيادة التشنيع على منكري البعث والجزاء بأن ظنهم ذلك يقتضي أن جعل الله المتقين مُساوين للفجّار في أحوال وجود الفريقين، وتقريره مِثلَ ما قُرّر به الاستدلال الأول.
والمتّقون: هم الذين كانت التقوى شعارهم. والتقوى: ملازمة اتباع المأمورات واجتناب المنهيات في الظاهر والباطن، وقد تقدم في أول سورة البقرة.
والفجّار: الذين شعارهم الفجور، وهو أشد المعصية، والمراد به: الكفر وأعماله التي لا تراقب أصحابها التقوى كما في قوله تعالى: {أولئك هم الكفرة الفجرة} [عبس: 42] وقد تقدم تفصيل من هذا عند قوله تعالى: {إنه يبدأ الخلق ثم يُعيدُهُ لِيَجْزِي الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ بالقِسْطِ والَّذِينَ كَفَرُوا لَهُم شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وعَذَابٌ أَلِيمٌ بِما كَانُوا يَكْفُرُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمس ضياءَ إلى قوله: {مَا خَلَقَ الله ذلك إلاَّ بِالحَقِّ} [يونس: 4 -5].
والمقصود من هذا الإِطناب زيادة التهويل والتفظيع على الذين ظنوا ظنّاً يفضي إلى أن الله خلق شيئاً من السماء والأرض وما بينهما باطلاً فإن في الانتقال من دلالة الأضعف إلى دلالة الأقوى وفي تكرير أداة الإِنكار شأناً عظيماً من فضح أمر الضالين.