تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ كَٱلۡمُفۡسِدِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلۡمُتَّقِينَ كَٱلۡفُجَّارِ} (28)

قوله عز وجل : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } هو صلة قوله عز وجل : { ذلك ظن الذين كفروا } كان ظنهم أن لا بعث ولا نشور .

فيقول ، والله أعلم : إنه لو كان على ما ظن أولئك الكفرة أن لا بعث لكان في ذلك جعل الذين آمنوا ، وعملوا الصالحات في هذه الدنيا كالمفسدين في الأرض ، وجعل المتقين كالفجار ؛ إذ قد سوى بينهم في هذه الدنيا وجمعهم في لذات هذه الدنيا وشهواتها وفي حسناتها وسيئاتها . وفي الحكمة التفريق بينهم والتمييز ، وقد سوى بينهم في الدنيا على ما ذكرنا من جمعهم في المحنة بالخير والشر .

فلو كان على ما ظن أولئك أن لا بعث ولا حياة لكان ذلك جمعا وتسوية بين الولي والعدو . وفي الشاهد من سوى بين ما عاداه وبين من والاه ، وجمع بينهم في البر والجزاء كان سفيها غير حكيم .

فعلى ذلك الله ، سبحانه ، لو لم يجعل دارا أخرى يفرق بينهم فيها كان غير حكيم ، إذ قد سوى بينهم وجمع ، تعالى الله ، عز وجل عما يقول الظالمون علوا كبيرا .

ثم من الناس من يقول : يجب أن يفرق بينهم في الدارين جميعا في الدنيا والآخرة ، وقد فعل حيث سمى هؤلاء ضلالا وهؤلاء مؤمنين ، وخذل الكفار ، وأذلهم ، ووفق المؤمنين ، وأعزهم ، وهو قول المعتزلة .

ومنهم من يقول : لا يجب ذا في الآخرة لأن الدنيا محنة وابتلاء ؛ يمتحن الفريقان جميعا بالخير مرة والشر ثانيا وبالحسنة تارة وبالسيئة أخرى . ما أخبر حين قال عز وجل { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } [ الأعراف : 168 ] وذكر : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [ الأنبياء : 35 ] أخبر عز وجل أنه يمتحنهم ، ويبتليهم بالخير والشر والسيئة والحسنة ، وذلك للفريقين جميعا على ما ذكرنا من جمعه إياهم جميعا في الحالين . فإنما هي مجعولة للجزاء خاصة . فهنالك يقع التفريق والتمييز بينهما لا في ما فيه المحنة والابتلاء .

وأما قولهم : إنه فرق بينهم حينٍ سمى هؤلاء ضلالا وهؤلاء مؤمنين ، وخذل هؤلاء ، ووفق أولئك ، فليس ذلك بتفريق بينهم لأنه إنما سماهم ضلالا كفرة بفعلهم الذي اختاروه ، وصنعوا أمرا آثروه على غيره . فإنما هو تسمية فعلهم لا جزاء يجزون عليه والله أعلم .

ثم في قوله عز وجل : { ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار } دلالة لزوم الحجة والوعيد على الظن والجهل ، وإن لم يتحقق لهم العلم بذلك بعد أن مكثوا جهلاء ، وقد جعل لهم سبيل الوصول إلى معرفة ذلك .

وإنما لزمهم ذلك الوعيد والحجة بما هم صنعوا لمعرفة ذلك والعلم بها لأنهم لو تأملوا فيه ، ونظروا لوقع لهم علم ذلك ، لكنهم تركوا علم ذلك ، وضيعوه ، فلم يعذروا في ذلك .

وعلى ذلك يقول في القدرة أو من منعت عنه القدرة ، أو حيل بينه وبينها ، كان غير مكلف بها ولا مخاطبا معذورا ، ومن لم تمنع عنه ، ومكن من ذلك ، إلا أنه ترك العمل به ، كان مكلفا به غير معذور ، لأنه هو الذي ضيع ذلك ، وتركه بالاختيار ، والأول غير مضيع لها ولا تارك . لذلك أمر . وذلك على المعتزلة ، والله الموفق .