قوله تعالى : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب } . وذلك أن المسلمين كانوا إذا قالوا لحلفائهم من اليهود : آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قالوا : ما هذا الذي تدعوننا إليه بخير مما نحن عليه ولوددنا لو كان خيراً ، فأنزل الله تكذيباً لهم ( ما يود الذين ) أي ما يحب ويتمنى الذين كفروا من أهل الكتاب يعني اليهود .
قوله تعالى : { ولا المشركين } . جره بالنسق على " من " .
قوله تعالى : { أن ينزل عليكم من خير من ربكم } . أي خير ونبوة ، و " من " صلة .
قوله تعالى : { والله يختص برحمته } . بنبوته .
قوله تعالى : { من يشاء والله ذو الفضل العظيم } . والفضل ابتداء إحسان بلا علة . وقيل : المراد بالرحمة الإسلام والهداية وقيل معنى الآية : إن الله تعالى بعث الأنبياء من ولد إسحاق فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل لم يقع ذلك بود اليهود ومحبتهم ، وأما المشركون فإنما لم يقع بودهم لأنه جاء بتفضيحهم وعيب آلهتهم . فنزلت الآية فيه .
{ مّا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْكُمْ مّنْ خَيْرٍ مّن رّبّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
يعني بقوله : { ما يَوَدّ } ما يحبّ ، أي ليس يحبّ كثير من أهل الكتاب ، يقال منه : ودّ فلان كذا يَوَدّ وُدّا ووَدّا ومودّةً . وأما «المشركين » فإنهم في موضع خفض بالعطف على أهل الكتاب .
ومعنى الكلام : ما يحبّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم . وأما أنْ في قوله : { أنْ يُنَزّلَ } فنصب بقوله : يَودّ . وقد دللنا على وجه دخول «مِن » في قوله : مِنْ خَيْرٍ وما أشبه ذلك من الكلام الذي يكون في أوله جحد فيما مضى ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
فتأويل الكلام : ما يحبّ الكافرون من أهل الكتاب ولا المشركين بالله من عبدة الأوثان أن ينزل عليكم من الخير الذي كان عند الله ينزلهم عليكم . فتمنى المشركون وكفرة أهل الكتاب أن لا ينزل الله عليهم الفرقان وما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم من حكمه وآياته ، وإنما أحبت اليهود وأتباعهم من المشركين ذلك حسدا وبغيا منهم على المؤمنين .
وفي هذه الآية دلالة بيّنة على أن الله تبارك وتعالى نهى المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين ، والاستماع من قولهم وقبول شيء مما يأتونهم به ، على وجه النصيحة لهم منهم بإطلاعه جلّ ثناؤه إياهم على ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والمشركون من الضغن والحسد وإن أظهروا بألسنتهم خلاف ما هم مستبطنون .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { وَاللّهُ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } والله يختصّ من يشاء بنبوّته ورسالته فيرسله إلى من يشاء من خلقه ، فيتفضل بالإيمان على من أحبّ فيهديه له . واختصاصه إياهم بها إفرادهم بها دون غيرهم من خلقه . وإنما جعل الله رسالته إلى من أرسل إليه من خلقه وهدايته من هدى من عباده رحمة منه له ليصيره بها إلى رضاه ومحبته ، وفوزه بها بالجنة واستحقاقه بها ثناءه وكل ذلك رحمة من الله له .
وأما قوله : { وَاللّهُ ذو الفَضْلِ العَظِيمِ } فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم فإنه من عنده ابتداءً وتفضلاً منه عليهم من غير استحقاق منهم ذلك عليه .
وفي قوله : { وَاللّهُ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ } تعريض من الله تعالى ذكره بأهل الكتاب أن الذي آتى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من الهداية تفضلاً منه ، وأن نعمه لا تدرك بالأماني ولكنها مواهب منه يختصّ بها من يشاء من خلقه .
{ ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } نزلت تكذيبا لجمع من اليهود يظهرون مودة المؤمنين ، ويزعمون أنهم يودون لهم الخير . والود : محبة الشيء مع تمنيه ، ولذلك يستعمل في كل منهما ، ومن للتبيين كما في قوله تعالى : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } { أن ينزل عليكم من خير من ربكم } مفعول يود ، ومن الأولى مزيدة للاستغراق ، والثانية للابتداء ، وفسر الخير بالوحي . والمعنى أنهم يحسدونكم به وما يحبون أن ينزل عليكم شيء منه وبالعلم وبالنصرة ، ولعل المراد به ما يعم ذلك والله يختص برحمته من يشاء يستنبئه ويعلمه الحكمة وينصره لا يجب عليه شيء ، وليس لأحد عليه حق { والله ذو الفضل العظيم } إشعار بأن النبوة من الفضل ، وأن حرمان بعض عباده ليس لضيق فضله ، بل لمشيئته وما عرف فيه من حكمته .
{ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } ( 105 )
التقدير ولا من المشركين ، وعم الذين كفروا ثم بيّن أجناسهم من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان ليبين في الألف واللام في { الذين } أنها ليست للعهد يراد بها معين ، ومعنى الآية أن ما أمرناكم به من أن تعظموا نبيكم خير من الله منحكم إياه ، وذلك لا يودّه الكفار . ثم يتناول اللفظ كل خير غير هذا ، و { أن } مع الفعل بتأويل المصدر ، و { من } زائدة في قول بعضهم ، ولما كان ود نزول الخير منتفياً ، قام ذلك مقام الجحد الذي يلزم أن يتقدم { من } الزائدة على قول سيبويه والخليل( {[1055]} ) ، وأما الأخفش فيجيز زيادتها في الواجب ، وقال قوم : { من } للتبعيض ؛ لأنهم يريدون أن لا ينزل على المؤمنين من الخير قليل ولا كثير ، ولو زال معنى التبعيض لساغ لقائل أن يقول : نريد أن لا ينزل خير كامل ولا نكره أن ينزل بعض ، فإذا نفي ود نزول البعض فذلك أحرى في نزول خير كامل( {[1056]} ) ، والرحمة في هذه الآية عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديماً وحديثاً ، وقال قوم : الرحمة هي القرآن ، وقال قوم : نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذه أجزاء الرحمة العامة التي في لفظ الآية .
فصله عما قبله لاختلاف الغرضين ، لأن الآية قبله في تأديب المؤمنين مع التعريض باليهود وهذه الآية لبيان حسد اليهود وغيرهم للمسلمين . ووجه المناسبة بين الآيتين ظاهر لاتحاد المآل ولأن الداعي للسب والأذى هو الحسد .
وهذه الآية رجوع إلى كشف السبب الذي دعا لامتناع اليهود من الإيمان بالقرآن لما قيل لهم { آمنوا بما أنزل الله } فقالوا : { نؤمن بما أنزل علينا } [ البقرة : 91 ] أي ليس الصارف لهم تمسكهم بما أنزل إليهم بل هو الحسد على ما أنزل على النبيء والمسلمين من خير ، فبين أدلة نفي كون الصارف لهم هو التصلب والتمسك بدينهم بقوله : { قل فلم تقتلون أنبئاء الله } [ البقرة : 91 ] وما تخلل ذلك ونشأ عنه من المجادلات وبيان إعراضهم عن أوامر دينهم واتباعهم السحر وبين الآن حقيقة الصارف عن الإيمان بالقرآن والموجب للشتم وقول البهتان ليتخلص من ذلك إلى بيان النسخ .
و ( الود ) بضم الواو المحبة ومن أحب شيئاً تمناه فليس الود هو خصوص التمني ولا المحبة المفرطة كما حققه الراغب .
وذكر { الذين كفروا } هنا دون اليهود لقصد شمول هذا الحكم اليهود والنصارى معاً تمهيداً لما يأتي من ذكر حكمة النسخ ومن قوله : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } [ البقرة : 111 ] الآيات . ونبه بقوله : { الذين كفروا من أهل الكتاب } دون ما يود أهل الكتاب على أنهم لم يتبعوا كتابهم لأن كتبهم تأمرهم باتباع الحق حيثما وجدوه وبالإيمان بالنبيء المقفي على آثارهم وفي التوراة والإنجيل مواضع كثيرة فيها أخذ الميثاق على ذلك فلما حسدوا النبيء صلى الله عليه وسلم على النبوءة وحسدوا المسلمين فقد كفروا بما أمرت به كتبهم وبهذا تخلص الكلام إلى الجمع بين موعظة النصارى مع موعظة اليهود .
ولما كان ما اقتضاه الحال من التعبير بقوله : { الذين كفروا من أهل الكتاب } قد يوهم كون البيان قيداً وأن الكافرين من غير أهل الكتاب لا يحسدون المسلمين عطف عليه قوله : { ولا المشركين } كالاحتراس وليكون جمعاً للحكم بين الجميع فيكون له حظ في التمهيد لقوله فيما يأتي : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه } [ البقرة : 114 ] وقرأ الجمهور ( أن ينزل ) بتشديد الزاي مفتوحة . والتعبير بالتنزيل دون الإنزال لحكاية الواقع إذ القرآن نزل منجماً لتسهيل حفظه وفهمه وكتابته وللتيسير على المكلفين في شرع الأحكام تدريجاً . وقرأه ابن كثير وابن عمرو بتخفيف الزاي مفتوحة أيضاً وذلك على أن نفي ودادتهم متعلق بمطلق إنزال القرآن سواء كان دفعة أو منجماً .
والخير النعمة والفضل ، قال النابغة : *فلست على خير أتاك بحاسد * وأراد به هنا النبوءة وما أيدها من الوحي والقرآن والنصر وهو المعبر عنه بالرحمة في قوله : { والله يختص برحمته } .
وقوله : { والله يختص برحمته من يشاء } عطف على { ما يود } لتضمنه أن الله أراد ذلك وإن كانوا هم لا يريدونه .
والرحمة هنا مثل الخير المنزل عليهم وذلك إدماج للامتنان عليهم بأن ما نزل عليهم هو رحمة بهم ومعنى الاختصاص جعلها لأحد دون غيره لأن أصل الاختصاص والتخصيص راجع إلى هذا المعنى أعني جعل الحكم خاصاً غير عام سواء خص واحداً أو أكثر . ومفعول المشيئة محذوف كما هو الشأن فيه إذا تقدم عليه كلام أو تأخر عنه أي من يشاء اختصاصه بالرحمة .
والمشيئة هي الإرادة ولما كانت إرادة الله تتعلق بالمراد على وفق علمه تعالى كانت مشيئته أي إرادته جارية على وفق حكمته التي هي من كيفيات علم الله تعالى فهي من تعلقات العلم الإلاهي بإبراز الحوادث على ما ينبغي وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { إنك أنت العليم الحكيم } [ البقرة : 32 ] فالله يختص برحمته من علم أنه حقيق بها لا سيما الرحمة المراد منها النبوءة فإن الله يختص بها مَن خلقه قابلاً لها فهو يخلقه على صفاء سريرة وسلامة فطرة صالحة لتلقي الوحي شيئاً فشيئاً قال تعالى : { ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماًوعلماً } [ يوسف : 22 ] وقال : { الله حيث يجعل رسالاته } [ الأنعام : 124 ] ولذلك لم تكن النبوءة حاصلة بالاكتساب لأن الله يخلق للنبوءة من أراده لها لخطر أمرها بخلاف غيرها من الفضائل فهو ممكن الاكتساب كالصلاح والعلم وغيرهما فرب فاسق صلحت حاله ورب جاهل مطبق صار عالماً بالسعي والاكتساب ومع هذا فلا بد لصاحبها من استعداد في الجملة ثم وراء ذلك التوفيق وعناية الله تعالى بعبده . ولما كانت الاستعدادات لمراتب الرحمة من النبوءة فما دونها غير بادية للناس طوى بساط تفصيلها لتعذره ووكل إلى مشيئة الله التي لا تتعلق إلا بما علمه واقتضته حكمته سبحانه رفقاً بأفهام المخاطبين .
وقوله : { والله ذو الفضل العظيم } تذييل لأن الفضل يشمل إعطاء الخير والمعاملة بالرحمة ، وتنبيه على أن واجب مريد الخير التعرض لفضل الله تعالى والرغبة إليه في أن يتجلى عليه بصفة الفضل والرحمة فيتخلى عن المعاصي والخبائث ويتحلى بالفضائل والطاعات عسى أن يحبه ربه وفي الحديث الصحيح " تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة " .