البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَلَا ٱلۡمُشۡرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ خَيۡرٖ مِّن رَّبِّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَخۡتَصُّ بِرَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ} (105)

ولما نهى أوّلاً ، وأمر ثانياً ، وأمر بالسمع وحض عليه ، إذ في ضمنه الطاعة ، أخذ يذكر لمن خالف أمره وكفر ،

ذو : يكون بمعنى صاحب ، وتثنى ، وتجمع ، وتؤنث ، وتلزم الإضافة لاسم جنس ظاهر .

وفي إضافتها إلى ضمير الجنس خلاف ، المشهور : المنع ، ولا خلاف أنه مسموع ، لكن من منع ذلك خصه بالضرورة .

وإضافته إلى العلم المقرون به في الوضع ، أو الذي لا يقرن به في أول الوضع مسموع .

فمن الأول قولهم : ذو يزن ، وذو جدن ، وذو رعين ، وذو الكلاع .

فتجب الإضافة إذ ذاك .

ومن الثاني قولهم : في تبوك ، وعمرو ، وقطرى : ذو تبوك ، وذو عمرو ، وذو قطرى .

والأكثر أن لا يعتد بلفظ ذو ، بل ينطق بالاسم عارياً من ذو .

وما جاء من إضافته لضمير العلم ، أو لضمير مخاطب لا ينقاس ، كقولهم : اللهم صل على محمد وعلى ذويه ، وقول الشاعر :

وإنا لنرجو عاجلاً منك مثل ما *** رجوناه قدماً من ذويك الأفاضل

ومذهب سيبويه : أن وزنه فعل ، بفتح العين ، ومذهب الخليل : أن وزنه فعل ، بسكونها .

واتفقوا على أنه يجمع في التكسير على أفعال .

قالوا : أذواء وذو من الأسماء الستة التي تكون في الرفع بالواو ، وفي النصب بالألف ، وفي الجر بالياء .

وإعراب ذو كذا لازم بخلاف غيرها من تلك الأسماء ، فذلك على جهة الجواز .

وفيما أعربت به هذه الأسماء عشرة مذاهب ذكرت في النحو ، وقد جاءت ذو أيضاً موصولة ، وذلك في لغة طيء ، ولها أحكام ، ولم تقع في القرآن .

{ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } { ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } : ذكر المفسرون أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود : آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : وددنا لو كان خيراً مما نحن عليه فنتبعه ، فأكذبهم الله بقوله : { ما يود الذين كفروا } ، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب : الذين بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والظاهر ، العموم في أهل الكتاب : وهم اليهود والنصارى ، وفي المشركين : وهم مشركو العرب وغيرهم ، ونفى بما ، ونها لنفي الحال ، فهم ملتبسون بالبغض والكراهة أن ينزل عليكم .

ومن ، في قوله : من أهل الكتاب ، تبعيضية ، فتتعلق بمحذوف ، أي كائنين من أهل الكتاب .

ومن أثبت أن من تكون لبيان الجنس قال ذلك هنا ، وبه قال الزمخشري ، وأصحابنا لا يثبتون كونها للبيان .

{ ولا المشركين } ، معطوف على : { من أهل الكتاب } .

ورأيت في كتاب لأبي إسحاق الشيرازي ، صاحب ( التنبيه ) ، كلاماً يرد فيه على الشيعة ، ومن قال بمقالتهم : في أن مشروعية الرجلين في الوضوء هي المسح ، للعطف في قوله : { وأرجلكم } ، على قوله : { برؤوسكم } ، خرج فيه أبو إسحاق قوله : وأرجلكم بالجر ، على أنه من الخفض على الجوار ، وأن أصله النصب فخفض عطفاً على الجوار .

وأشار في ذلك الكتاب إلى أن القرآن ولسان العرب يشهدان بجواز ذلك ، وجعل منه قوله : ولا المشركين ، في هذه الآية ، وقوله : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين } وأن الأصل هو الرفع ، أي ولا المشركون ، عطفاً على الذين كفروا ، وهذا حديث من قصر في العربية ، وتطاول إلى الكلام فيها بغير معرفة ، وعدل عن حمل اللفظ على معناه الصحيح وتركيبه الفصيح .

ودخلت لا في قوله : ولا المشركين ، للتأكيد ، ولو كان في غير القرآن لجاز حذفها .

ولم تأت في قوله : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين } لمعنى يذكر هناك ، إن شاء الله تعالى

{ أن ينزل عليكم } : في موضع المفعول بيود ، وبناؤه للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، وللتصريح به في قوله : { من ربكم } .

ولو بني للفاعل لم يظهر في قوله : { من ربكم } .

{ من خير } ، من : زائدة ، والتقدير : خير من ربكم ، وحسن زيادتها هنا ، وإن كان ينزل لم يباشره حرف النفي ، فليس نظير : ما يكرم من رجل ، لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى ، لأنه إذا نفيت الودادة ، كان كأنه نفى متعلقها ، وهو الإنزال ، وله نظائر في لسان العرب ، من ذلك قوله تعالى : { أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهنّ بقادر } فلما تقدّم النفي حسن دخول الباء ، وكذلك قول العرب : ما ظننت أحداً يقول ذلك إلا زيد ، بالرفع على البدل من الضمير المستكن في يقول ، وإن لم يباشره حرف النفي ، لأن المعنى : ما يقول ذلك أحد إلا زيد ، فيما أظن .

وهذا التخريج هو على قول سيبويه والخليل .

وأما على مذهب الأخفش والكوفيين في هذا المكان ، فيجوز زيادتها ، لأنهم لا يشترطون انتفاء الحكم عما تدخل عليه ، بل يجيزون زيادتها في الواجب وغيره .

ويزيد الأخفش : أنه يجيز زيادتها في المعرفة .

وذهب قوم إلى أن من للتبعيض ، ويكون على هذا المفعول الذي لم يسم فاعله هو عليكم ، ويكون المعنى : أن ينزل عليكم بخير من الخير من ربكم .

{ من ربكم } : من : لابتداء الغاية ، كما تقول : هذا الخير من زيد .

ويجوز أن تكون للتبعيض .

المعنى من خير كائن من خيور ربكم ، فإذا كانت لابتداء الغاية تعلقت بقوله : ينزل ، وإذا كانت للتبعيض تعلقت بمحذوف ، وكان ذلك على حذف مضاف ، كما قدّرناه .

والخير هنا : القرآن ، أو الوحي ، إذ يجمع القرآن وغيره ، أو ما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التعظيم ؛ أو الحكمة والقرآن والظفر ؛ أو النبوة الإسلام ، أو العلم والفقه والحكمة ؛ أو هنا عام في جميع أنواع الخير ، فهم يودون انتفاء ذلك عن المؤمنين ، سبعة أقوال ، أظهرها الآخر .

وسبب عدم ودهم ذلك : أما في اليهود ، فلكون النبوّة كانت في بني إسماعيل ، ولخوفهم على رئاستهم ، وأما النصارى ، فلتكذيبهم في إدعائهم ألوهية عيسى ، وأنه ابن الله ، ولخوفهم على رئاستهم ، وأما المشركون ، فلسبّ آلهتهم وتسفيه أحلامهم ، ولحسدهم أن يكون رجل منهم يختص بالرسالة ، واتباع الناس له .

{ والله يختصّ برحمته من يشاء } : أي يفرد بها ، وضد الاختصاص : الاشتراك .

ويحتمل أن يكون يختصّ هنا لازماً ، أي ينفرد ، أو متعدّياً ، أي يفرد ، إذ الفعل يأتي كذلك .

يقال : اختصّ زيد بكذا ، واختصصته به ، ولا يتعين هنا تعديه ، كما ذكر بعضهم ، إذ يصح ، والله يفرد برحمته من يشاء ، فيكون من فاعلة ، وهو افتعل من : خصصت زيداً بكذا .

فإذا كان لازماً ، كان لفعل الفاعل بنفسه نحو : اضطررت ، وإذا كان متعدياً ، كان موافقاً لفعل المجرّد نحو : كسب زيد مالاً ، واكتسب زيد مالاً .

والرحمة هنا عامة بجميع أنواعها ؛ أو النبوّة والحكمة والنصرة ، اختص بها محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله عليّ والباقر ومجاهد والزجاج ؛ أو الإسلام ، قاله ابن عباس ؛ أو القرآن ، أو النبي صلى الله عليه وسلم ، { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } هو نبي الرحمة ، أقوال خمسة ، أظهرها الأول

{ والله ذو الفضل العظيم } : قد تقدّم أن ذو بمعنى صاحب .

وذكر جملة من أحكام ذو ، والوصف بذو ، أشرف عندهم من الوصف بصاحب ، لأنهم ذكروا أن ذو أبداً لا تكون إلا مضافة لاسم ، فمدلولها أشرف .

ولذلك جاء ذو رعين ، وذو يزن ، وذو الكلاع ، ولم يسمعوا بصاحب رعين ، ولا صاحب يزن ونحوها .

وامتنع أن يقول في صحابي أبي سعيد أو جابر : ذو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاز أن يقول : صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ولذلك وصف الله تعالى نفسه بقوله : { ذو الجلال } { ذو الفضل } ، وسيأتي الفرق بين قوله تعالى : { وذا النون إذ ذهب مغاضباً } ، وقوله تعالى : { ولا تكن كصاحب الحوت } إن شاء الله تعالى .

وتقدّم تفسير { الفضل العظيم } ويجوز أن يراد به هنا : جميع أنواع التفضلات ، فتكون أل للاستغراق ، وعظمه من جهة سعته وكثرته ، أو فضل النبوّة .

وقد وصف تعالى ذلك بالعظم في قوله :

{ وكان فضل الله عليك عظيماً } أو الشريعة ، فعظمها من جهة بيان أحكامها ، من حلال ، وحرام ، ومندوب ، ومكروه ، ومباح ؛ أو الثواب والجزاء ، فعظمه من جهة السعة والكثرة ، { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .

وعلى هذه التأويلات تكون أل للعهد ، والأظهر القول الأول .

/خ113