الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَلَا ٱلۡمُشۡرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ خَيۡرٖ مِّن رَّبِّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَخۡتَصُّ بِرَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ} (105)

قوله تعالى : { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } : في " مِنْ " قولان : أحدهُما : أنها للتبعيضِ فتكونُ هي ومجرورُها في محلِّ نصبٍ على الحال ويتعلَّقُ بمحذوف أي : ما يَوَدُّ الذين كفروا كائنين من أهلِ الكتابِ . الثاني : أنها لبيانِ الجنسِ وبه قالَ الزمخشري .

قوله : { وَلاَ الْمُشْرِكِينَ } عطفٌ على " أَهْلِ " المجرورِ بمِنْ و " لا " زائدةٌ للتوكيد لأنَّ المعنى : ما يَوَدُّ الذين كفروا مِنْ أهلِ الكتابِ والمشركين كقولِه : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ } [ البينة : 1 ] بغيرِ زيادة " لا " . وزعَمَ بعضُهم أنه مخفوضٌ على الجِوار وأنَّ الأصلَ : ولا المشركون ، عطفاً على الذين وإنما خُفِض للمجاورة ، نحو : " برؤوسكم وأرجلكِم " في قراءة الجر ، وليس بواضح . وقال النحاس : " ويجوزُ : ولا المشركونَ بعطفِه على " الذين " وقال أبو البقاء : " وإنْ كان قد قرئ " ولا المشركون " بالرفع فهو عطفٌ على الفاعل ، والظاهر أنه لم يُقْرأ بذلك " وهذان القولان يؤيِّدان ادِّعاءَ الخفضِ في الجوار .

قوله : { أَن يُنَزَّلَ } ناصبٌ ومنصوبٌ في تأويلِ مصدرٍ مفعولٌ ب " يَوَدُّ " أي : ما يودُّ إنزالَ خيرٍ ، وبُني الفعلُ للمفعولِ للعلمِ بالفاعلِ وللتصريحِ به في قولِه : " من ربكم " ، وأتى ب " ما " في النفي دونَ غيرِها لأنَّها لنفي الحالِ وهم كانوا متلبِّسين بذلك .

قولُه : { مِّنْ خَيْرٍ } / هذا هو القائمُ مَقَامَ الفاعلِ ، و " مِنْ " زائدةٌ ، أي : أَنْ يُنَزَّل خيرٌ من ربكم . وحَسُنَ زيادتُها هنا وإنْ كان " يُنَزَّل " لم يباشِرْه حرفُ النفي لانسحابِ النفي عليه من حيث المعنى لأنه إذا نُفِيَتِ الوَدادَةُ انتفى مُتَعَلَّقُها .

وهذا له نظائرُ في كلامِهم نحو : " ما أظنُّ أحداً يقولُ ذلك إلا زيدٌ " برفع " زيدٌ " بدلاً من فاعِل " يقول " وإنْ لم يباشر النفيَ ، لكنه في قوةِ : " ما يقولُ أحدٌ ذلك إلا زيدٌ في ظني " وقولِه تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ } [ الأحقاف : 33 ] زيدت الباءُ لأنه في معنى : أَوَلَيس اللهُ بقادرٍ ، وهذا على رأي سيبويه وأتباعِه . وأمَّا الكوفيون والأخفش فلا يَحْتاجون إلى شَيءٍ من هذا . وقيل : " مِنْ " للتبعيض أي : ما يَوَدُّون أَنْ يُنَزَّلُ من الخيرِ قليلٌ ولا كثيرٌ ، فعلى هذا يكونُ القائمُ مقامَ الفاعل : " عليكم " والمعنى : أَنْ يُنَزَّل عليكم بخير من الخُيور .

قوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } في " مِنْ " أيضاً قولان ، أحدُهما : أنَّها لابتداءِ الغايةِ فتتعلَّقُ بِيُنَزَّل . والثاني : أنها للتبعيضِ ، ولا بُدَّ حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضاف تقديرُه : مِنْ خُيورِ ربِّكم ، وتتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ ، لأنَّها ومجرورَها صفةً لقولِه : " مِنْ خيرٍ " أي : مِنْ خيرٍ كائن من خيورِ ربِّكم ، ويكونُ في محلِّها وجهان : الجرُّ على اللفظِ ، والرفعُ على الموضعِ لأنَّ " مِنْ " زائدةٌ في " خير " فهو مرفوعٌ تقديراً لقيامهِ مَقامَ الفاعل كما تقدَّم .

وتلخَّصَ ممَّا تقدم أنَّ في كلِّ واحدةٍ من لفظِ " مِنْ " قولين ، الأولى : قيل إنها للتبعيض ، وقيل : لبيان الجنس ، وفي الثانيةِ قولان : زائدةٌ أو للتبعيضِ ، وفي الثالثة أيضاً قولان ابتداءُ الغايةِ أو التبعيضُ .

قوله : { وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } هذه جملةٌ ابتدائيةٌ تَضَمَّنَتْ رَدُّ ودَادَتِهم ذلك . و " يختصُّ " يَحْتملُ أن يكونَ هنا متعدِّياً وأن يكونَ لازماً ، فإنْ كان متعدِّياً كان فيه ضميرٌ يعودُ على اللهِ تعالى ، وتكون " مَنْ " مفعولاً به أي يختصُّ الله الذي يشاؤه برحمتِه ، ويكونُ معنى افْتَعَلَ هنا معنى المجرد نحو : كَسَب مالاً واكتسَبه ، وإنْ كان لازماً لم يكن فيه ضميرٌ ويكونَ فاعلُه " مَنْ " أي : واللهُ يختصُّ برحمتِه الشخصَ الذي يَشاؤُه ويكون افتعل بمعنى فعل الفاعل بنفسه نحو اضطرب ، والاختصاص ضد الاشتراك ، وبهذا تبين فساد قول مَنْ زعم أنه هنا متعدٍّ ليس إلاَّ . و " مَنْ يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفةً ، وعلى كلا التقديرين فلا بُدُّ من تقديرِ عائدٍ ، أي : يشاءُ اختصاصَه ، ويجوزُ أَنْ يُضَمَّنَ " يشاء " معنى يَخْتار ، فيحنئذٍ لا حاجة إلى حَذْفِ مضاف بل تقدِّره ضميراً فقط أي : يَشاؤه ، و " يشاءُ " على القولِ الأولِ لا محلَّ له لكونِه صلةً ، وعلى الثاني محلُّه النصبُ أو الرفعُ على ما ذُكِرَ في موصوفِه من كونِه فاعلاً أو مفعولاً .