إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَلَا ٱلۡمُشۡرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ خَيۡرٖ مِّن رَّبِّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَخۡتَصُّ بِرَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ} (105)

{ ما يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ } الوُدُّ حبُّ الشيءِ مع تمنِّيه ، ولذلك يستعمل في كلَ منهما ، ونفيُه كنايةٌ عن الكراهة ، ووضعُ الموصول موضعَ الضمير للإشعار بعلّية ما في حيز الصلةِ لعدم وُدِّهم ، ولعل تعلقَه بما قبله من حيث إن القولَ المنهيَّ عنه كثيراً ما كان يقع عند تنزيل الوحْي المعبَّرِ عنه في هذه الآية بالخير ، فكأنه أُشير إلى أن سببَ تحريفِهم له إلى ما حُكي عنهم لوقوعه في أثناء حصولِ ما يكرهونه من تنزيلِ الخير وقيل : كان فريق من اليهود يُظهرون للمؤمنين محبةً ويزعُمون أنهم يَودُّون لهم الخير فنزلت تكذيباً لهم في ذلك ، و( من ) في قوله تعالى : { مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين } للتبيين كما في قوله عز وعلا : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين } [ البينة ، الآية 1 ] و( لا ) مزيدةٌ لما ستعرفه { أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم } في حيز النصب على أنه مفعولُ ( يود ) ، وبناءُ الفعل للمفعول للثقة بتعيُّن الفاعل ، والتصريحُ الآتي في قوله تعالى : { منْ خَيْرٍ } هو القائمُ مقامَ فاعلِه ومن مزيدة للاستغراق ، والنفيُ وإن لم يباشرْه ظاهراً لكنه منسحبٌ عليه معنىً ، والخيرُ الوحيُ ، وحملُه على ما يعمّه وغيره - من العلم والنُّصرة - كما قيل : يأباه وصفُه فيما سيأتي بالاختصاص ، وتقديم هو عليكم والأصل : أن ينزل من خير عليكم الظرف عليه مع أن حقه التأخرُ عنه لإظهار كمال العنايةِ به ، لأنه المدارُ لعدم ودِّهم ، ومن في قوله تعالى : { من رَّبّكُمْ } ابتدائية ، والتعرُّضُ لعنوان الربوبية للإشعار بعليته لتنزيل الخيرِ والإضافة إلى ضمير المخاطبين لتشريفهم ، وليست كراهتُهم لتنزيله على المخاطبين من حيث تعبُّدُهم بما فيه وتعريضُهم بذلك لسعادة الدارين كيف لا وهم من تلك الحيثية من جملة مَنْ نزَلَ عليهم الخيرُ بل من حيث وقوعُ ذلك التنزيلِ على النبي صلى الله عليه وسلم ، وصيغةُ الجمعِ للإيذان بأن مدارَ كراهتهم ليس معنى خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بل وصفٌ مشترك بين الكل وهو الخلوُّ عن الدراسة عند اليهود وعن الرياسة عند المشركين ، والمعنى أنهم يرَوْن أنفسَهم أحقَّ بأن يوحى إليهم ويكرهونكم فيحسُدونكم أن ينْزِل عليكم شيء من الوحي ، أما اليهودُ فبناءً على أنهم أهلُ الكتاب وأبناءُ الأنبياءِ الناشئون في مهابط الوحي وأنتم أُميِّون ، وأما المشركون فإدلالاً بما كان لهم من الجاه والمال زعماً منهم أن رياسةَ الرسالةِ كسائر الرياساتِ الدنيويةِ منوطةٌ بالأسباب الظاهرة ولذلك قالوا : { لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ منَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف ، الآية 31 ] ولما كانت اليهودُ بهذا الداء أشهرَ لاسيما في أثناء ذكرِ ابتلائِهم به لم يلزَمْ من نفي ودادتِهم لما ذكِرَ نفيُ ودادةِ المشركين له ، فزيدت كلمةُ لا لتأكيد النفي { والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ } جملة ابتدائية سيقت لتقرير ما سبق من تنزيل الخيرِ والتنبيه على حكمتِه وإرغامِ الكارهين له ، والمرادُ برحمته الوحيُ كما في قوله سبحانه : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ } [ الزخرف ، الآية 32 ] عبّر عنه باعتبار نزولِه على المؤمنين بالخير وباعتبار إضافتِه إليه تعالى بالرحمة قال علي رضي الله عنه : بنبوته ، خَصَّ بها محمداً صلى الله عليه وسلم ، فالفعلُ متعدٍ وصيغة الافتعال للإنباء عن الاصطفاء ، وإيثارُه على التنزيل المناسبِ للسياق الموافقِ لقوله تعالى : { أَن يُنَزّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَاء } [ البقرة ، الآية 90 ] لزيادة تشريفِه صلى الله عليه وسلم وإقناطِهم مما علّقوا به أطماعَهم الفارغةَ ، والباءُ داخلةٌ على المقصور أي يؤتي رحمته { مَن يَشَاء } من عباده ويجعلها مقصورةً عليه لاستحقاقه الذاتي الفائضِ عليه بحسب إرادتِه عز وعلا تفضّلاً لا تتعداه إلى غيره ، وقيل : الفعلُ لازمٌ ومَنْ فاعله والضميرُ العائد إلى مَنْ محذوفٌ على التقديرين ، وقوله تعالى : { والله ذُو الفضل العظيم } تذييلٌ لما سبق مقررٌ لمضمونه وفيه إيذان بأن إيتاءَ النبوةِ من فضله العظيم كقوله تعالى : { إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا } [ الإسراء ، الآية 87 ] وأن حِرمان من حُرم ذلك ليس لضيق ساحةِ فضلِه بل لمشيئته الجاريةِ على سَننِ الحِكْمةِ البالغةِ ، وتصديرُ الجملتين بالاسم الجليل للإيذان بفخامة مضمونَيْهما ، وكونِ كلَ منهما مستقلةً بشأنها ، فإن الإضمارَ في الثانية مُنبئ عن توقُّفِها على الأولى .