معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ} (77)

{ فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم } ، فأخلفهم . { نفاقاً } في { قلوبهم } ، أي : صبر عاقبة أمرهم النفاق ، يقال : أعقب فلانا ندامة إذا صبر عاقبة أمره ذلك . وقيل : عاقبهم بنفاق قلوبهم . يقال : عاقبته وأعقبته بمعنى واحد . { إلى يوم يلقونه } ، يريد حرمهم التوبة إلى يوم القيامة ، { بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } . أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، ثنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، ثنا عبد الله بن عمر الجوهري ، ثنا أحمد بن علي الكشمهيني ، ثنا علي بن حجر ، ثنا إسماعيل بن جعفر ثنا أبو سهيل نافع عن مالك عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان " .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ} (77)

وقوله : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } تصوير للآثار الذميمة التي ترتبت على بخلهم وإعراضهم عن الحق والخير .

أى : فجعل الله - تعالى - عاقبة فعلهم نفاقا وسوء اعتقاد في قلوبهم إلى يوم يلقونه للحساب ، فيجازيهم بما يستحقون على بخلهم وإعراضهم عن الحق .

فالضمير المستتر في " أعقب " لله - تعالى - وكذا الضمير المنصوف في قوله : " يلقونه " .

ويصح أن يكون الضمير في " أعقب " يعود على البخل والتولى والإِعراض ، فيكون المعنى : فأعقبهم وأورثهم ذلك البخل والإِعراض عن الحق والخير ، نفاقاً راسخا في قلوبهم ، وممتدا في نفوسهم إلى اليوم الذي يلقون فيه ربهم ، فيعاقبهم عقابا أليما على سوء أعمالهم .

والباء في قوله : { بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } للسببية .

أى : أن النفاق قد باض وفرخ في قلوبهم إلى يوم يلقون الله - تعالى - ، بسبب إخلافهم لوعودهم مع خالقهم ، وبسبب استمرارهم على الكذب ، ومداومتهم عليه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ} (77)

وفي قوله تعالى : { فأعقبهم } نص المعاقبة على الذنب بما هو أشد منه ، وقوله : { إلى يوم يلقونه } يقتضي موافاتهم على النفاق ، ولذلك لم يقبل الخلفاء رضي الله عنهم رجوع ثعلبة لشهادة القرآن عليه بالموافاة ، ولولا الاحتمال في أنه نفاق معصية لوجب قتله ، وقرأ الأعمش «لنصدقن » بالنون الثقيلة مثل الجماعة «ولنَكونَن » خفيفة النون ، والضمير الذي في قوله { فأعقبهم } يعود على الله عز وجل .

ويحتمل أن يعود على «البخل » المضمن في الآية ، ويضعف ذلك الضمير في { يلقونه } ، وقوله { نفاقاً في قلوبهم } ، يحتمل أن يكون نفاق كفر ويكون تقرير ثعلبة بعد هذا النص والإبقاء عليه لمكان إظهاره الإسلام وتعلقه بما فيه احتمال .

ويحتمل أن يكون قوله { نفاقاً } يريد به نفاق معصية وقلة استقامة ، فيكون تقريره صحيحاً ويكون ترك في أول الزكاة عقاباً له ونكالاً .

وهذا نحو ما روي أن عاملاً كتب إلى عمر بن عبد العزيز أن فلاناً يمنع الزكاة ، فكتب إليه أن دعه واجعل عقوبته أن لا يؤدي الزكاة مع المسلمين ، يريد لما يلحقه من المقت في ذلك ، وقرأ الحسن والأعرج وأبو عمرو وعاصم ونافع وسائرهم { يكذبون } قرأ أبو رجاء «يكذبون » وذكر الطبري في هذه الآية ما يناسبها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً ، إذا وعد أخلف وإذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان »{[5795]} وفي حديث آخر «وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر » ونحو هذا من الأحاديث ، ويظهر من مذهب البخاري وغيره من أهل العلم أن هذه الخلال الذميمة منافق من اتصف بها إلى يوم القيامة .

وروي أن عمرو بن العاص لما احتضر قال زوجوا فلاناً فإني قد وعدته لا ألقى الله بثلث النفاق ، وهذا ظاهر كلام الحسن بن أبي الحسن ، وقال عطاء بن أبي رباح قد فعل هذه الخلال إخوة يوسف ولم يكونوا منافقين بل كانوا أنبياء ، وهذه الأحاديث إنما هي في المنافقين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، الذين شهد الله عليهم ، وهذه هي الخصال في سائر الأمة معاص لا نفاق .

قال القاضي أبو محمد : ولا محالة أنها كانت مع التوحيد والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، معاص لكنها من قبيل النفاق اللغوي ، وذكر الطبري عن فرقة أنها قالت : كان العهد الذي عاهد الله عليه هؤلاء المنافقون شيئاً نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به .

قال القاضي أبو محمد : وهذا فيه نظر{[5796]} .


[5795]:- أخرجه ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وفي آخره: "وتلا هذه الآية {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله} إلى آخر الآية. وأخرج البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، (الدر المنثور) و(تفسير ابن كثير).
[5796]:- للعلماء في هذه القضية رأيان وهي قضية "العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء ولا يفتقر إلى غيره فيه"، قال بعضهم: يلزمه منه ما يلتزمه بقصده وإن لم يلفظ به، قال ابن العربي: والدليل على صحة ما ذبنا إليه ما رواه أشهب عن مالك وقد سئل: إذ نوى الرجل الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه فقال: يلزمه، كما يكون مؤمنا بقلبه وكافرا بقلبه. وقال الشافعي، وأبو حنيفة: لا يلزم أحدا حكم إلا بعد أن يلفظ به، والحجة ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به). ورواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. والعمل على هذا عند أهل العلم، فإن الرجل إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن شيئا حتى يتكلم به، قال أبو عمر: "ومن اعتقد بقلبه الطلاق ولم ينطق به لسانه فليس بشيء، وهذا هو الأشهر عن مالك". راجع تفسير القرطبي.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ} (77)

{ أعقبهم نفاقاً } جعل نفَاقاً عَقب ذلك أي إثْرَه ولمّا ضمن أعقب معنى أعطى نصب مفعولين والأصل أعقبهم بنفاق .

والضمير المستتر في أعْقَبهم للمذكور من أحوالهم ، أو للبخل المأخوذ من بَخلوا ، فإسناد الإعقاب مجاز عقلي ، أو يعود إلى اسم الله تعالى في قوله { من عاهد الله } أي جَعل فعلهم ذلك سبباً في بقاء النفاق في قلوبهم إلى مَوتهم ، وذلك جزاء تمرّدهم على النفاق . وهذا يقتضي إلى أنّ ثعلبة أو معتِّبا ماتَ على الكفر وأنّ حرصه على دفع صدقته رياء وتقية وكيف وقد عُدّ كلاهما في الصحابة وأوّلهما فيمن شَهد بدراً ، وقيل : هما آخران غيرهما وافقا في الاسم . فيحتمل أن يكون أطلق النفاق على ارتكاب المعاصي في حالة الإسلام وهو إطلاق موجود في عصر النبوءة كقول حنظلة بن الربيع للنبيء صلى الله عليه وسلم يا رسول الله « نافَق حنظلة » . وذكر ارتكابه في خاصّته ما ظنّه معصية ولم يغيّر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولكن بَيَّن له أنّ ما توهّمه ليس كما توهّمه ، فيكون المعنى أنّهم أسلموا وبقُوا يرتكبون المعاصي خلاف حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد يومىء إلى هذا تنكير { نفاقاً } المفيد أنّه نفاق جديد وإلاّ فقد ذُكروا منافقين فكيف يكون النفاق حاصلاً لهم عقب فعلهم هذا .

واللقاء مصادفة الشيءِ شيئاً في مكان واحد . فمعنى إلى يوم يلقونه إلى يوم الحشر لأنّه يومُ لقاء الله للحساب ، أو إلى يوم الموت لأنّ الموت لقاء الله كما في الحديث " من أحبّ لقاءَ الله أحبَّ الله لقاءه " ، وفسّره بأنّه محبّة تعرض للمؤمن عند الاحتضار . وقال بعض المتقدّمين من المتكلّمين : إنّ اللقاء يقتضي الرؤية ، فاستدلّ على ثبوت رؤية الله تعالى بقوله تعالى : { تحيتهم يوم يلقونه سلام } من سورة الأحزاب ( 44 ) فنقَض عليهم الجُبَّائي بقول : إلى يوم يلقونه } في هذه الآية فإنّ الاتّفاق على أنّ المنافقين لا يَرون الله . وقد تصدّى الفخر لإبطال النقض بما يصيّر الاستدلال ضعيفاً ، والحقّ أنّ اللقاء لا يستلزم الرؤية . وقد ذكر في « نفح الطيب » في ترجمة أبي بكر بن العربي قصةً في الاستدلال بآية الأحزاب على بعض معتزلة الحنابلة ونقض الحنبلي المعتزلي عليه بهذه الآية .

والباء للسببية أو للتعليل ، أي بسبب إخلافهم وعد ربّهم وكذبهم .

وعبّر عن كذبهم بصيغة { كانوا يكذبون } لدلالة كان على أنّ الكذب كائن فيهم ومتمكّن منهم ودلالة المضارع على تكرّره وتجدّده .

وفي هذا دلالة على وجوب الحذر من إحداث الأفعال الذميمة فإنّها تفسد الأخلاق الصالحة ويزداد الفساد تمكّناً من النفس بطبيعة التولّد الذي هو ناموس الوجود .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ} (77)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه} يعنى إلى يوم القيامة، {بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} لقوله: لئن آتانا الله، يعني أعطاني الله، لأصدقن ولأفعلن، ثم لم يفعل...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 75]

يقول تعالى ذكره: ومِن هؤلاء المنافقين الذين وصفت لك يا محمد صفتهم "مَنْ عَاهَدَ اللّهَ "يقول: أعطى الله عهدا، "لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ" يقول: لئن أعطانا الله من فضله، ورزقنا مالاً، ووسع علينا من عنده "لَنَصّدّقَنّ" يقول: لنخرجنّ الصدقة من ذلك المال الذي رزقنا ربنا، "وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ" يقول: ولنعملنّ فيها بعمل أهل الصلاح بأموالهم؛ من صلة الرحم به وإنفاقه في سبيل الله. يقول الله تبارك وتعالى: فرزقهم الله وأتاهم من فضله = "فلما آتاهم الله من فضله بخلوا به"، بفضل الله الذي آتاهم، فلم يصدّقوا منه، ولم يصلوا منه قرابةً، ولم ينفقوا منه في حق الله. "وَتَوَلّوْا" يقول: وأدبروا عن عهدهم الذي عاهدوه الله، "وهُمْ مُعْرِضُونَ" عنه. "فَأعْقَبَهُمُ" الله "نِفاقا فِي قُلُوبِهِمْ" ببخلهم بحقّ الله الذي فرضه عليهم فيما آتاهم من فضله، وإخلافهم الوعد الذي وعدوا الله، ونقضهم عهده في قلوبهم "إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا الله ما وَعَدُوهُ" من الصدقة والنفقة في سبيله، "وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ" في قيلهم، وحرّمهم التوبة منه لأنه جلّ ثناؤه اشترط في نفاقهم أنه أعقبهموه إلى "يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ" وذلك يوم مماتهم وخروجهم من الدنيا...

في هذه الآية الإبانة من الله جلّ ثناؤه عن علامة أهل النفاق، أعني في قوله: "فأعْقَبَهُم نِفَاقا في قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا الله ما وَعَدُوهُ وبِما كانُوا يَكْذِبُونَ".

وبنحو هذا القول كان يقول جماعة من الصحابة والتابعين، ووردت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم... حدثني القاسم بن بشر بن معروف، قال: حدثنا أسامة، قال: حدثنا محمد المخرمي، قال: سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثٌ مَنْ كُنّ فِيهِ فَهُوَ مُنافِقٌ وَإنْ صَلّى وَصَامَ وَزَعَمَ أنّهُ مُسْلِمٌ: إذَا حَدّثَ كَذَبَ، وإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وإذَا اؤتُمِنَ خانَ»...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وقوله تعالى: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) قال بعضهم: أثابهم نفاقا بما بخلوا إلى يوم القيامة وقال بعضهم: أعقبهم الدوام على النفاق بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون. ينبغي للمسلم أن يجتنب الكذب والخلف في الوعد فإنه سبب النفاق، أو نوع من النفاق...

وفي الآية دلالة ألا ينص بالسؤال في شيء على غير طلب الخيرة في ذلك من الله...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

بين الله تعالى أنه أعقب هؤلاء المنافقين، ومعناه أورثهم وأداهم إلى نفاق في قلوبهم بخلهم بما آتاهم الله من فضله مع الإعراض عن أمر الله، وهو قول الحسن وقال مجاهد: معناه أعقبهم ذلك بحرمان التوبة كما حرم إبليس، وجعل ذلك أمارة ودلالة على أنهم لا يتوبون أبدا لأحد شيئين: من قال: أعقبهم بخلهم رد الضمير إليه. والمعنى يلقون جزاء بخلهم. ومن ذهب إلى أن الله أعقبهم رد الضمير إلى اسم الله. وقوله "بما أخلفوا الله ما وعدوه فالإخلاف نقض ما تقدم به العقد من وعد أو عزم، وأصله الخلاف، لأنه فعل خلاف ما تقدم به العقد. والوعد متى كان بأمر واجب أو ندب أو أمر حسن قبح الإخلاف، وإن كان الوعد وعدا بقبيح كان إخلافه حسنا. وقوله "وبما كانوا يكذبون "يقوي قول من قال: إن الضمير عائد إلى الله لأنه بين أنه فعل ذلك جزاء على إخلافهم وعده وجزاء على ما كانوا يكذبون في إخبارهم عليه.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

أعقبهم بخلهم نفاقاً في قلوبهم، ويصحُّ أعقبهم الله نفاقاً في قلوبهم، وفي الجملة: مَنْ نَقَضَ عهده في نفسه رفض الودَّ من أصله، وكلُّ من أظهر في الجملة خيراً واستبطن شراً فقد نافق بقسطه. والمنافق في الصف الأخير في دنياه، وفي الدَركِ الأسفل من النار في عقباه...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{فأعقبهم نفاقا في قلوبهم} يقال أعقبه الشيء إذا جعله عاقبة أمره وثمرته، أي فأعقبهم الله تعالى أو أعقبهم ذلك البخل وتولي الإعراض، بعد العهد الموثق بأوكد الأيْمان، نفاقاً راسخاً في قلوبهم متمكنا منها ملازماً لها. {إلى يوم يلقونه} للحساب في الآخرة، لأنه بلغ المنتهى الذي لا رجاء معه في التوبة. ذلك {بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} فذكر سببين هما أخص صفات المنافقين وأظهر الآيات الدالة على نفاقهم: إخلاف الوعد والكذب كما تقدم بيانه ونصوص الأحاديث فيه، فكيف إذا كان الوعد لله تعالى مع العهد والقسم، وقد عبر عن إخلافهم الوعد بالفعل الماضي لأنه في حادثة وقعت، وعبر عن كذبهم بصيغة المضارع الدالة على الاستمرار، لأن ذلك شأنهم الدائم الذي هو أخص لوازم النفاق، فالمنافق مضطر إلى الكذب في كل وقت لأن ظاهره يخالف باطنه، ولا بد له من كتمان ما في باطنه وإظهار خلافه دائما لئلا يظهر فيفتضح ويعاقب، ولا يحصل ذلك إلا بالكذب. وإسناد إعقابهم النفاق إلى الله تعالى أو إلى البخل والتولي عن الطاعة قولان للمفسرين مآلهما واحد، إلا أن الثاني آدب. وذلك أن سنته تعالى في البشر أن العمل بما يقتضيه النفاق يمكن النفاق ويقويه في القلب، كما أن العمل بمقتضى الإيمان يزيده قوة ورسوخاً في النفس، وهكذا جميع صفات النفس وأخلاقها وعقائدها، تقوى وترسخ بالعمل الذي يصدر عنها، فإسنادها إلى العمل يكون صحيحاً بهذا الاعتبار... كما أن إسنادها إلى الله تعالى يكون صحيحاً لأنها مقتضى سننه وتقديره... فالمراد من التقديرين واحد...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

فأعقبهم أي جعل الله عقب فعلهم هذا نفاقا إلى نفاقهم. أي فازدادوا نفاقا وأوغلوا عما كانوا... أي أن البخل بعد العهد الذي عاهدوا الله تعالى عليه، زادهم نفاقا؛ وذاك لأن الاستمرار على المخالفة يزيد النفاق نفاقا ويتراكم بعضهم على بعض حتى يتكاثف، ويمتلئ القلب نفاقا، حتى لا مزيد عليه، وكأنما الأعمال الفاسدة هي الخبث الذي يسقى به نبات النفاق فيزيده، حتى يستغلظ سوقه. والأكثرون على أن الضمير الفاعل في قوله تعالى: {فأعقبهم} يعود على الله؛ لأنه في النفس دائما، ولأنه صاحب العهد الذي عاهدوه على الوفاء به، ومعنى إعقابه سبحانه وتعالى النفاق لهم أنه سبحانه وتعالى وقد ساروا في طريق الغي والضلال أمدهم بما يزيدهم عتوا ونفاقا، وطغيانا، فأمدهم في طغيانهم، وهم الذين ابتدأوه. {إلى يوم يلقونه} سبحانه وتعالى، وعندئذ يكون العذاب الذي أنكروه بعد الحساب بعد أن ترى كل نفس ما فعلت، وبعد أن يأخذوا كتابهم بشمالهم. وقد بين سبحانه ما غدى نفاقهم، وزاده فقال تعالى: {بما أخلفوا الله ما وعدوه} أي أخلفوا الوعد الذي وعدوه لله تعالى، وجعل الإخلاف لله ابتداء لبيان جرمهم فيما فعلوا، إذ إنهم أخلفوا الله تعالى خالقهم وبارئهم ومالك أمرهم، وأي نكر أشد من ذلك، وقوله تعالى: {ما وعدوه} كأنه في مقام البيان لما أخلفوا به رب البرية، فأي أمر تنكره العقول أبلغ من ذلك! وأي نفاق أجرا وأمكن من ذلك!، أي أنهم زادوا نفاقا إلى نفاقهم بسبب إخلافهم الله ما وعدوه، وبسبب كذبهم على الله سبحانه وتعالى، ولذا قال تعالى: {وبما كانوا يكذبون}. أي وبسبب استمرارهم على الكذب، لأن (كان) تدل على الاستمرار، والتعبير بالمضارع (يكذبون) يدل على تجدد كذبهم آنا بعد آن، فحديثهم كذب مستمر متجدد، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى الفسوق، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابا، وإذا وصل الإنسان إلى هذا الحد صار منافقا، وإن كان منافقا ازداد نفاقا على نفاقه. وإنهم يعاهدون ويخلفون، ويكذبون حاسبين أن الله تعالى لا يحصى ما يفعلون، ويدبرون ويعاهدون، والله عليم بهم، ويحسبون أنهم يخدعون الله، والله خادعهم...