مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ} (77)

ثم قال تعالى : { فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قوله : { فأعقبهم نفاقا } فعل ولا بد من إسناده إلى شيء تقدم ذكره . والذي تقدم ذكره هو الله جل ذكره ، والمعاهدة والتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض ولا يجوز إسناد أعقاب النفاق إلى المعاهدة أو التصدق أو الصلاح ، لأن هذه الثلاثة أعمال الخير فلا يجوز جعلها مؤثره في حصول النفاق ، ولا يجوز إسناد هذا الإعقاب إلى البخل والتولي والإعراض ، لأن حاصل هذه الثلاثة كونه تاركا لأداء الواجب وذلك لا يمكن جعله مؤثرا في حصول النفاق في القلب ، لأن ذلك النفاق عبارة عن الكفر وهو جهل وترك بعض الواجب لا يجوز أن يكون مؤثرا في حصول الجهل في القلب . أما أولا : فلأن ترك الواجب عدم ، والجهل وجود العدم لا يكون مؤثرا في الوجود . وأما ثانيا : فلأن هذا البخل والتولي والإعراض قد يوجد في حق كثير من الفساق ، مع أنه لا يحصل معه النفاق . وأما ثالثا : فلأن هذا الترك لو أوجب حصول الكفر في القلب لأوجبه سواء كان هذا الترك جائزا شرعا أو كان محرما شرعا ، لأن سبب اختلاف الأحكام الشرعية لا يخرج المؤثر عن كونه مؤثرا . وأما رابعا : فلأنه تعالى قال بعد هذه الآية { بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } فلو كان فعل الأعقاب مسند إلى البخل والتولي ، والإعراض لصار تقدير الآية فأعقبهم بخلهم وإعراضهم وتوليهم نفاقا في قلوبهم بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ، وذلك لا يجوز ، لأنه فرق بين التولي وحصول النفاق بسبب التولي ومعلوم أنه كلام باطل . فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إسناد هذا الإعقاب إلى شيء من الأشياء التي تقدم ذكرها إلا إلى الله سبحانه ، فوجب إسناده إليه ، فصار المعنى أنه تعالى هو الذي يعقب النفاق في قلوبهم ، وذلك يدل على أن خالق الكفر في القلوب هو الله تعالى ، وهذا هو الذي قال الزجاج إن معناه : أنهم لما ضلوا في الماضي ، فهو تعالى أضلهم عن الدين في المستقبل ، والذي يؤكد القول بأن قوله { فأعقبهم نفاقا } مسند إلى الله جل ذكره أنه قال : { إلى يوم يلقونه } والضمير في قوله تعالى : { يلقونه } عائد إلى الله تعالى ، فكان الأولى أن يكون قوله : { فأعقبهم } مسندا إلى الله تعالى . قال القاضي : المراد من قوله : { فأعقبهم نفاقا في قلوبهم } أي فأعقبهم العقوبة على النفاق ، وتلك العقوبة هي حدوث الغم في قلوبهم وضيق الصدر وما ينالهم من الذل والذم ، ويدوم ذلك بهم إلى الآخرة . قلنا : هذا بعيد لأنه عدول عن الظاهر من غير حجة ولا شبهة ، فإن ذكر أن الدلائل العقلية دلت على أن الله تعالى لا يخلق الكفر ، قابلنا دلائلهم بدلائل عقلية ، لو وضعت على الجبال الراسيات لاندكت .

المسألة الثانية : قال الليث : يقال : أعقبت فلانا ندامة إذا صيرت عاقبة أمره ذلك . قال الهذلي :

أودي بني وأعقبوني حسرة *** بعد الرقاد وعبرة لا تقلع

ويقال : أكل فلان أكلة أعقبته سقما ، وأعقبه الله خيرا . وحاصل الكلام فيه أنه إذا حصل شيء عقيب شيء آخر . يقال أعقبه الله .

المسألة الثالثة : ظاهر هذه الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به ، ومذهب الحسن البصري رحمه الله أنه يوجب النفاق لا محالة ، وتمسك فيه بهذه الآية وبقوله عليه السلام : «ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن ، إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن حان » وعن النبي عليه السلام : «تقبلوا لي ستا أتقبل لكم الجنة إذا حدثتم فلا تكذبوا وإذا وعدتم فلا تخلفوا وإذا ائتمنتم فلا تخونوا وكفوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم . أبصاركم عن الخيانة وأيديكم عن السرقة وفروجكم عن الزنا » قال عطاء بن أبي رباح : حدثني جابر بن عبد الله أنه صلى الله عليه وسلم إنما ذكر قوله ثلاث من كن فيه فهو منافق في المنافقين خاصة الذين حدثوا النبي صلى الله عليه وسلم فكذبوه وائتمنهم على سره فخانوه ووعدوا أن يخرجوا معه فأخلفوه ، ونقل أن عمرو بن عبيد فسر الحديث فقال : إذا حدث عن الله كذب عليه وعلى دينه ورسوله وإذا وعد أخلف كما ذكره فيمن عاهد الله وإذا ائتمن على دين الله خان في السر فكان قلبه على خلاف لسانه ونقل أن واصل بن عطاء قال : أتى الحسن رجل فقال له : إن أولاد يعقوب حدثوه في قولهم أكله الذئب وكذبوه ووعدوه في قولهم : { وإنا له لحافظون } فأخلفوه وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه فهل نحكم بكونهم منافقين ؟ فتوقف الحسن رحمه الله .

المسألة الرابعة : { إلى يوم يلقونه } يدل على أن ذلك المعاهد مات منافقا ، وهذا الخبر وقع مخبره مطابقا له ، فإنه روي أن ثعلبة أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته فقال : إن الله تعالى منعني أن أقبل صدقتك ، وبقي على تلك الحالة ، وما قبل صدقته أحد حتى مات ، فدل على أن مخبر هذا الخبر وقع موافقا ، فكان إخبارا عن الغيب فكان معجزا .

المسألة الخامسة : قال الجبائي : إن المشبهة تمسكوا في إثبات رؤية الله تعالى بقوله : { تحيتهم يوم يلقونه سلام } قال واللقاء ليس عبارة عن الرؤية ، بدليل أنه قال في صفة المنافقين : { إلى يوم يلقونه } وأجمعوا على أن الكفار لا يرونه ، فهذا يدل على أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية . قال : والذي يقويه قوله عليه السلام : «من حلف على يمين كاذبة ليقطع بها حق امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان » وأجمعوا على أن المراد من اللقاء ههنا : لقاء ما عند الله من العقاب فكذا ههنا . والقاضي استحسن هذا الكلام . وأقول : أنا شديد التعجب من أمثال هؤلاء الأفاضل كيف قنعت نفوسهم بأمثال هذه الوجوه الضعيفة ؟ وذلك لأنا تركنا حمل لفظ اللقاء على الرؤية في هذه الآية ، وفي هذا الخبر لدليل منفصل ، فلم يلزمنا ذلك في سائر الصور . ألا ترى أنا لما أدخلنا التخصيص في بعض العمومات لدليل منفصل ، لم يلزمنا مثله في جميع العمومات أن نخصصها من غير دليل ، فكما لا يلزم هذا لم يلزم ذلك فإن قال هذا الكلام إنما يقوى لو ثبت أن اللقاء في اللغة عبارة عن الرؤية ، وذلك ممنوع . فنقول : لا شك أن اللقاء عبارة عن الوصول ومن رأى شيئا فقد وصل إليه فكانت الرؤية لقاء ، كما أن الإدراك هو البلوغ . قال تعالى : { قال أصحاب موسى إنا لمدركون } أي لملحقون ، ثم حملناه على الرؤية فكذا ههنا ، ثم نقول : لا شك أن اللقاء ههنا ليس هو الرؤية ، بل المقصود أنه تعالى { فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه } أي حكمه وقضاءه ، وهو كقول الرجل ستلقى عملك غدا ، أي تجازى عليه ، قال تعالى : { بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } والمعنى : أنه تعالى عاقبهم بتحصيل ذلك النفاق في قلوبهم لأجل أنهم أقدموا قبل ذلك على خلف الوعد وعلى الكذب .