التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ} (77)

{ أعقبهم نفاقاً } جعل نفَاقاً عَقب ذلك أي إثْرَه ولمّا ضمن أعقب معنى أعطى نصب مفعولين والأصل أعقبهم بنفاق .

والضمير المستتر في أعْقَبهم للمذكور من أحوالهم ، أو للبخل المأخوذ من بَخلوا ، فإسناد الإعقاب مجاز عقلي ، أو يعود إلى اسم الله تعالى في قوله { من عاهد الله } أي جَعل فعلهم ذلك سبباً في بقاء النفاق في قلوبهم إلى مَوتهم ، وذلك جزاء تمرّدهم على النفاق . وهذا يقتضي إلى أنّ ثعلبة أو معتِّبا ماتَ على الكفر وأنّ حرصه على دفع صدقته رياء وتقية وكيف وقد عُدّ كلاهما في الصحابة وأوّلهما فيمن شَهد بدراً ، وقيل : هما آخران غيرهما وافقا في الاسم . فيحتمل أن يكون أطلق النفاق على ارتكاب المعاصي في حالة الإسلام وهو إطلاق موجود في عصر النبوءة كقول حنظلة بن الربيع للنبيء صلى الله عليه وسلم يا رسول الله « نافَق حنظلة » . وذكر ارتكابه في خاصّته ما ظنّه معصية ولم يغيّر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولكن بَيَّن له أنّ ما توهّمه ليس كما توهّمه ، فيكون المعنى أنّهم أسلموا وبقُوا يرتكبون المعاصي خلاف حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد يومىء إلى هذا تنكير { نفاقاً } المفيد أنّه نفاق جديد وإلاّ فقد ذُكروا منافقين فكيف يكون النفاق حاصلاً لهم عقب فعلهم هذا .

واللقاء مصادفة الشيءِ شيئاً في مكان واحد . فمعنى إلى يوم يلقونه إلى يوم الحشر لأنّه يومُ لقاء الله للحساب ، أو إلى يوم الموت لأنّ الموت لقاء الله كما في الحديث " من أحبّ لقاءَ الله أحبَّ الله لقاءه " ، وفسّره بأنّه محبّة تعرض للمؤمن عند الاحتضار . وقال بعض المتقدّمين من المتكلّمين : إنّ اللقاء يقتضي الرؤية ، فاستدلّ على ثبوت رؤية الله تعالى بقوله تعالى : { تحيتهم يوم يلقونه سلام } من سورة الأحزاب ( 44 ) فنقَض عليهم الجُبَّائي بقول : إلى يوم يلقونه } في هذه الآية فإنّ الاتّفاق على أنّ المنافقين لا يَرون الله . وقد تصدّى الفخر لإبطال النقض بما يصيّر الاستدلال ضعيفاً ، والحقّ أنّ اللقاء لا يستلزم الرؤية . وقد ذكر في « نفح الطيب » في ترجمة أبي بكر بن العربي قصةً في الاستدلال بآية الأحزاب على بعض معتزلة الحنابلة ونقض الحنبلي المعتزلي عليه بهذه الآية .

والباء للسببية أو للتعليل ، أي بسبب إخلافهم وعد ربّهم وكذبهم .

وعبّر عن كذبهم بصيغة { كانوا يكذبون } لدلالة كان على أنّ الكذب كائن فيهم ومتمكّن منهم ودلالة المضارع على تكرّره وتجدّده .

وفي هذا دلالة على وجوب الحذر من إحداث الأفعال الذميمة فإنّها تفسد الأخلاق الصالحة ويزداد الفساد تمكّناً من النفس بطبيعة التولّد الذي هو ناموس الوجود .