اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ} (77)

فصل

" فأعقبهم " فعل ، ولا بد من إسناده إلى شيء تقدَّم ذكره ، والذي تقدَّم ذكره هو الله تعالى ، والمعاهدة والتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض ، ولا يجوزُ إسناد إعقاب النفاق إلى المعاهدة أو التَّصدق أو الصلاح ، لأنَّ هذه الثلاثة أعمال الخير ؛ فلا يجوز جعلها مؤثرة في حصول النفاق في القلب ؛ لأنَّ النفاقَ عبارة عن الكُفْرِ ، وهو جهل وترك بعض الواجب لا يكون مؤثراً في حصول الجهلِ في القلب ؛ لأنَّ ترك الواجب عدمٌ ، والجهل وجود ، والعدم لا يكون مؤثراً في الوجود ؛ لأنَّ البخل والتولي والإعراض ، قد يوجدُ في كثير من الفُسَّاقِ ، مع أنَّهُ لا يحصلُ معه النفاق ؛ ولأنَّ هذا الترك لو أوجب حصول الكفرِ في القلب لأوجبه ، سواء كان هذا الترك جائزاً شرعاً أو محرماً شرعاً ؛ لأنَّ سبب اختلاف الأحكام الشرعية لا يخرج المؤثر عن كونه مؤثراً ؛ ولأنه تعالى قال : { بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } [ التوبة : 77 ] فلو كان فعل الإعقاب مسنداً إلى البخل ، والتولي ، والإعراض لصار تقدير الآية : فأعقبهم ببخلهم وتوليهم وإعراضهم نفاقاً في قلوبهم بما أخلفُوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ، وذلك لا يجوز ؛ لأنَّه فرق بين التَّولي وحصول النفاق في القلب بسبب التولي ، ومعلومٌ أنه كلام باطل ؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّهُ لا يجوز إسناد الإعقاب إلى شيء من الأشياءِ المتقدم ذكرها إلاَّ إلى الله تعالى ؛ فوجب إسناده إليه ؛ فصار المعنى : أنَّ الله تعالى هو الذي يعقب النفاق في قلوبهم ، وذلك يدلُّ على أنَّ خالق الكفر في القلوب هو الله تعالى ، وهذا هو الذي قاله الزجاجُ ، إنَّ معناه : أنَّهُم لمَّا ضلُّوا في الماضي فهو تعالى أضلَّهُم عن الدِّين في المستقبل ، ويؤكدُ ذلك قوله تعالى : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } فالضميرُ في قوله : " يَلقَوْنَهُ " عائد إلى الله تعالى فكان الأولى أن يكون قوله : " فأعْقَبَهُمْ " مسنداً إلى اللهِ تعالى .

قال القاضي " المرادُ من قوله : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ } أي : فأعقبهم العقوبة على النفاق وتلك العقوبة هي : حدوث الغم في قلوبهم وضيق الصدر وما ينالهم من الذُّل والذنب ويدوم بهم ذلك إلى الآخرة " . وهذا بعيدٌ ؛ لأنه عدولٌ عن الظَّاهر من غير دليل فإن ذكروا دليلاً عقلياً ، قوبلوا بدليل عقلي . والله أعلم .

فصل

ظاهرُ الآية يدلُّ على أنَّ نقض العهد ، وخلف الوعد ، يورثُ النِّفاقَ ، فيجب على المسلم الاحتراز عن ذلك ، ويجتهد في الوفاءِ . ومذهب الحسنِ البصري : أنَّه يوجب النفاق لا محالة لهذه الآية ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : " ثلاثٌ من كُنَّ فيه كان مُنافقاً وإن صلَّى وصامَ وزعمَ أنَّهُ مؤمنٌ ، إذا حدَّث كذبَ ، وإذا وعدَ أخلفَ ، وإذا ائْتُمِنَ خَانَ " {[17991]} .

ونقل أن واصل بن عطاء قال : أتى الحسن رجلٌ فقال له : إن أولاد يعقوب حدَّثُوه في قولهم { فَأَكَلَهُ الذئب } [ يوسف : 17 ] فكذبوهُ ، ووعدوه في قولهم : { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ يوسف : 12 ] فأخلفوه ، وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه ، فهل نحكمُ بكونهم منافقين ؟ قيل : فتوقف الحسن في مذهبه .

وفسَّر عمر بن عبيد الحديث فقال " إذا حدَّث عن الله كذب عليه ، وعلى دينه ، وعلى رسوله وإذا وعد أخلف كما ذكر الله فيمن عاهد الله ، وإذا ائتمن على دين الله خان في السرِّ فكان قلبه على خلاف لسانه " .

قوله : { إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } قال الجبائيُّ " تمسَّكُوا في إثبات رُؤية الله بقوله تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } [ الأحزاب : 44 ] قال : واللقاء ليس عبارة عن الرؤية ، بدليل قوله في صفة المنافقين { إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } وأجمعوا على أنَّ الكفَّار لا يرونه ؛ فدلَّ على أنَّ اللقاء ليس عبارة عن الرؤية .

ويؤيدُه قوله عليه الصلاة والسلام " من حلفَ على يمينٍ كاذبةٍ ليقتطع بهَا حق امرئ مُسلمٍ لقيَ الله وهُو عليه غَضبَانُ " {[17992]} وأجمعوا على أنَّ المراد من اللقاء ههنا : لقاء ما عند الله من العقاب فكذا ههنا " .

قال ابن الخطيب " وهذا دليلٌ ضعيفٌ ؛ لأنَّا إذا تركنا حمل لفظ اللقاء على الرُّؤيةِ في هذه الآية ، وفي الخبر لدليل منفصل ؛ فلا يلزمنا ذلك في سائر الصُّور ، كما إذا أدخلنا التَّخصيصَ في بعض العمومات لدليل منفصل ؛ فلا يلزمنا أن نُخَصّصَ جميع العمومات من غير دليل فكما لا يلزمنا هذا لا يلزمنا ذلك " .

قوله : { بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } أي : أنَّ الله أعقبهم ذلك النِّفاق في قلوبهم لأجل إخلافهم الوعد ، وعلى كذبهم . وقرأ الجمهور " يَكْذبُونَ " مخففاً ، وأبو{[17993]} رجاء مثقلاً .


[17991]:تقدم.
[17992]:ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/181) وقال: رواه أحمد والطبراني ورجالهما ثقات.
[17993]:ينظر: الكشاف 2/293، المحرر الوجيز 3/62، البحر المحيط 5/75، الدر المصون 3/485.