الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .
وبعد : فهذا تفسير تحليلي لسورة الأعراف ، توخينا فيه أن نبرز ما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وهدايات شاملة ، وحكم جليلة .
والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه ، ونافعاً لعباده إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول .
[ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا ، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ] .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
1- سورة الأعراف هي السورة السابعة في الترتيب المصحفي ، وهي أطول سورة مكية في القرآن الكريم ، وعدد آياتها ست ومائتا آية .
والرأي الراجح عند العلماء أنها جميعها مكية ، وقيل إن الآيات من 163-170 مدنية ، وكان نزولها بعد سورة " ص " .
2- ومناسبتها لسورة الأنعام التي قبلها أن سورة الأعراف تعتبر كالتفصيل لها ، فإن سورة الأنعام قد تكلمت عن أصول العقائد وكليات الدين كلاما إجمالياً ، ثم جاءت سورة الأعراف فكانت كالشرح والتفصيل لذلك الإجمال ، خصوصاً فيما يتعلق بقصص الأنبياء مع أقوامهم وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم .
3- مقاصدها ومميزاتها : وقد اشتملت سورة الأعراف على المقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها السور المكية ، كإقامة الأدلة على وحدانية الله ، وعلى صدق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أن يوم القيامة حق . . . إلخ .
والذي يتأمل هذه السورة الكريمة يراها تهتم بعرض الحقائق في أسلوبين بارزين فيها ، أحدهما أسلوب التذكير بالنعم ، والآخر أسلوب التخويف من العذاب والنقم .
أما أسلوب التذكير بالنعم فتراه واضحا في لفتها لأنظار الناس إلى ما يلمسونه ويحسونه من نعمة تمكينهم في الأرض ، ونعمة خلقهم وتصويرهم في أحسن تقويم ، ونعمة تمتع الإنسان بما في هذا الكون من خيرات سخرها الله له .
وأما أسلوب التخويف بالعذاب فالسورة الكريمة زاخرة به ، نلمس ذلك في قصص نوح ، وهود ، وصالح . ولوط ، وشعيب ، وموسى –عليهم السلام- مع أقوامهم .
وقد استغرق هذا القصص أكثر من نصفها ، وقد ساقت لنا السورة الكريمة ما دار بين الأنبياء وبين أقوامهم ، وما آل إليه أمر أولئك الأقوام الذين لم يستجيبوا لنصائح المرسلين إليهم .
4- عرض إجمالي لها : ونحن عندما نستعرض سورة الأعراف نراها في الربع الأول منها تطالعنا بالحديث عن عظمة القرآن وتأمرنا باتباعه ، وتحذرنا من مخالفته ، وتحثنا على المسارعة إلى العمل الصالح الذي تثقل به موازيننا يوم القيامة .
قال تعالى : [ كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين* اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ] .
ثم ساقت لنا بأسلوب منطقي بليغ قصة آدم مع إبليس ، وكيف أن إبليس قد خدعه بأن أغراه بالأكل من الشجرة المحرمة ، فلما أكل منها هو وزوجته .
[ بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ] .
ثم وجهت إلى بني آدم نداء في أواخر هذا الربع نهتهم فيه عن الاستجابة لوسوسة الشيطان .
قال تعالى : [ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما ، إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ] .
وفي الربع الثاني منها نراها تأمرنا بأن نأخذ زينتنا عند كل مسجد ، وتخبرنا بأن الله –تعالى- ، قد أباح لنا أن نتمتع بالطيبات التي أحلها لنا ، وتبشرنا بحسن العاقبة متى اتبعنا الرسل الذين أرسلهم الله لهدايتنا ، ثم تسوق لنا في بضع آيات عاقبة المكذبين لرسل الله ، وكيف أن كل أمة من أمم الكفر عندما تقف بين يدي الله للحساب تلعن أختها .
قال تعالى : [ كلما دخلت أمة لعنت أختها ، حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار ، قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون* وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ] .
ثم تبين السورة بعد ذلك عاقبة المؤمنين فتقول : [ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ] .
وفي أواخر هذا الربع وفي أوائل الربع الثالث منها نراها تسوق لنا تلك المحاورات التي تدور بين أصحاب الجنة وأصحاب النار ، وتحكي لنا ما يحصل بينهم من نداءات ومجادلات ، تنتهي بأن يقول أصحاب النار لأصحاب الجنة على سبيل التذلل والتوسل : [ أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ] .
فيجيبهم أصحاب الجنة : [ إن الله حرمهما على الكافرين . الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا ] .
ثم تسوق لنا السورة بعد ذلك جانبا من مظاهر نعم الله على خلقه ، وتدعونا إلى شكره عليها لكي يزيدنا من فضله .
وفي الربع الرابع منها وكذلك في أواخر الثالث ، تحدثنا السورة الكريمة عن قصة نوح مع قومه ، ثم عن قصة هود مع قومه ، ثم عن قصة صالح مع قومه ، ثم عن قصة لوط مع قومه ، ثم عن قصة شعيب مع قومه . ولقد ساقت لنا خلال حديثها عن هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم من العبر والعظات ما يهدي القلوب ، ويشفي الصدور ويحمل العقلاء على الاستجابة لهدي الأنبياء والمرسلين .
أما في الربع الخامس منها فقد بينت لنا سنن الله في خلقه ، ومن مظاهر هذه –السنن أنه –سبحانه- لا يعاقب قوما إلا بعد الابتلاء والاختبار ، وأن الناس لو آمنوا لفتح –سبحانه- عليهم بركات من السماء والأرض وأن الذين يأمنون مكر خالقهم هم القوم الخاسرون .
قال تعالى : [ تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل ، كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين* وما وجدنا لأكثرهم من عهد ، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ] .
ثم عقب على ذلك ببيان أن الله –تعالى- قد ساق قصص السابقين للعظة والاعتبار .
ثم أسهبت السورة في الحديث عن قصة موسى –عليه السلام- فقصت علينا في زهاء سبعين آية –استغرقت الربع السادس والسابع والثامن- ما دار بينه وبين فرعون من محاورات ومناقشات ، وما حصل بينه وبين السحرة من مجادلات ومساجلات انتهت بأن قال السحرة : [ آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ] .
ثم حكت لنا ما لقيه موسى من قومه بني إسرائيل من تكذيب وجهالات ، مما يدل على أصالتهم في التمرد والعصيان ، وعراقتهم في الكفر والطغيان .
وفي الربع التاسع منها حدثتنا عن العهد الذي أخذه الله على البشر بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، ثم حضتنا على التفكر والتدبر في ملكوت السموات والأرض ، وبينت لنا أن موعد قيام الساعة لا يعلمه سوى علام الغيوب ، وأن الرسل الكرام وظيفتهم تبليغ رسالات الله ، ثم هم بعد ذلك لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً .
أما في الربع العاشر والأخير فقد اهتمت السورة الكريمة بإقامة الأدلة على وحدانية الله ، ووبخت المشركين على شركهم ، ودعت الناس إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم [ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ] وأمرتهم بأن يكثروا من التضرع والدعاء .
[ واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين* إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ] .
وبعد : فهذا عرض سريع لما اشتملت عليه سورة الأعراف من توجيهات حكيمة ، وآداب عالية ، وعظات سامية ، ولعلنا بذلك نكون قد أعطينا القارئ الكريم فكرة مجملة عنها قبل أن نفسرها تفسيراً تحليلياً مفصلا . والله نسأل أن يلهمنا جميعاً الرشد والسداد فيما نقول ونعمل .
سورة الأعراف من السور التي ابتدأت ببعض حروف التهجى " ألمص " ولم يسبقها في النزول من هذا النوع من السور سوى ثلاثة وهى سور : ( ن ، ق ، ص ) ويبلغ عدد السور القرآنية التي ابتدئت بالحروف المقطعة تسعاً وعشرين سورة .
هذا ، وقد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود من حروف التهجى التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ويمكن إجمال اختلافهم في رأيين :
الرأى الأول : أن المعنى المقصود منها غير معروف ، فهى من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس - في إحدى الروايات عنه - كما ذهب إليه الشعبى ، وسفيان الثورى ، وغيرهما من العلماء ؛ فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبى أنه سئل عن فواتح السور فقال : " إن لكل كتاب سرّا ، وإن سر هذا القرآن فواتح السور " وروى عن ابن عباس أنه قال : " عجزت العلماء عن إدراكها " وعن على - رضى الله عنه - أنه قال : " إن لكل كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجى " وفى رواية أخرى للشعبى أنه قال : " سر الله فلا تطلبوه " .
ومن الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الرأى أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس لأنه من المتشابه فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل ، أو مثل ذلك كمثل التكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها .
وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإفهام عنها عند لك الناس فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يفهم المراد منها ، وكذلك بعض أصحابه المقربين . ولكن الذي ننفيه أن يكون الناس جميعاً فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة في أوائل بعض السور . وهناك مناقشات للعلماء حول هذا الرأى لا مجال لذكرها هنا .
أما الرأى الثانى : فيرى أصحابه أن المعنى المقصود منها معلوم ، وأنها ليست من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ، وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم في تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها ما يأتى :
1 - أن هذه الحروف أسماء للسور ، بدليل قول النبى صلى الله عليه وسلم : " من قرأ حم السجدة ، حفظ إلى أن يصبح " ، وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها ، كسورة " ص " وسورة " يس " إلخ .
ولا يخلو هذا القول من الضعف ، لأن كثيرا من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح ، فلو كانت أسماء للسور لم تتكر لمعان مختلفة ؛ لأن الغرض من التسمية رفع الاشتباه . وأيضا فالتسمية بها أمر عارض لا يتنافى مع المراد منها في ذاتها .
2 - وقيل إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى .
3 - وقيل إنها حروف مقطعة بعضها من أسماء الله تعالى ، وبعضها من صفاته ، فمثلا : " ألم " أصلها أنا الله أعلم .
4 - وقيل إنها اسم الله الأعظم ، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تخلو من مقال ، والتى أوصلها الإمام السيوطى في كتابه " الإتقان " ، إلى أكثر من عشرين قولا .
5 - ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن هذه الحروف المقطعة قد وردت في بعض سور القرآن على سبيل الإيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن ، فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك العارضين في أن القرآن من عند الله : هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو جنس ما تؤلفون منه كلامكم . ومنوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم في شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، أو ادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونوكم في ذلك .
ومما يشهد بصحة هذا الرأى أن الآيات التي تلى هذه الأحرف المقطعة تتحدث عن الكتاب المنزل معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم وكثيراً ما تبدأ هذه الآيات باسم الإشارة صراحة ، مثل قوله تعالى : { الاما ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ } أو ضمنا مثل قوله - تعالى - : في أول سورة الأعراف { الاماصا كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ } وأيضا فإن هذه السور تجعل هدفها الأول منذ بدئها إلى نهايتها اثبات الرسالة عن طريق هذا الكتاب المنزل .
هذه خلاصة موجزة لآراء العلماء في الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ومن أراد مزيدا لذلك فليردع - مثلا - إلى كتاب " البرهان " للزركشى ، وإلى كتاب " الإتقان " للسيوطى .
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
وهي مكية كلها قاله الضحاك وغيره وقال مقاتل هي مكية إلا قوله ' ?واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ?' إلى قوله '? من ظهورهم ذرياتهم ?فإن هذه الآيات مدنية .
تقدم القول في تفسير الحروف المقطعة التي في أوائل السورة وذكر اختلاف المتأولين فيها ، ويختص هذا الموضع زائداً على تلك الأقوال بما قاله السدي : إن { المص } هجاء اسم الله تبارك وتعالى هو المصور ، وبقول زيد بن علي : إن معناه أنا الله الفاصل .