معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (29)

قوله تعالى : { وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً } سبب نزول هذه الآية أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألنه شيئاً من عرض الدنيا ، وطلبن منه زيادة في النفقة ، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض ، فهجرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآلى أن لا يقربهن شهراً ولم يخرج إلى أصحابه ، فقالوا : ما شأنه ؟ وكانوا يقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، فقال عمر : لأعلمن لكم شأنه ، قال : فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أطلقتهن ؟ قال : لا ، قلت : يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن ؟ قال : نعم إن شئت ، فقمت على باب المسجد وناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، فنزلت هذه الآية : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم }قال : فكنت أنا استنبطت ذاك الأمر ، وأنزل الله آية التخيير ، وكانت تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ تسع نسوة خمس من قريش : عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأم سلمة بنت أبي أمية ، وسودة بنت زمعة ، وغير القرشيات : زينب بنت جحش الأسدية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقيه ، رضوان الله عليهن فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة ، وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعنها على ذلك . قال قتادة : فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال : { لا يحل لك النساء من بعد } .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغفار بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنبأنا مسلم بن الحجاج ، أنبأنا زهير بن حرب ، أنبأنا روح بن عبادة ، أنبأنا زكي بن إسحاق ، أنبأنا أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال : " دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد الناس جلوساً ببابه ولم يؤذن لأحد منهم ، قال : فأذن لأبي بكر فدخل ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً ، فقال : لأقولن شيئاً أضحك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة ، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ، كلاهما يقول : لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده ، ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين ، ثم نزلت هذه الآية : { يا أيها النبي قل لأزواجك } حتى بلغ : { للمحسنات منكن أجراً عظيماً } قال : فبدأ بعائشة فقال : يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمراً أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك ، قالت : وما هو يا رسول الله ؟ فتلا عليها الآية ، قالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوي ؟ بل أختار الله ورسوله وأختار الدار الآخرة ، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت ، قال : لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها ، إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً " .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو الحسين بن بشران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنبأنا أحمد بن منصور الرمادي ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن الزهري " أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهراً ، قال الزهري فأخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت : فلما مضت تسع وعشرون أعدهن دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : حين بدأ بي فقلت : يا رسول الله إنك أقسمت ألا تدخل علينا شهراً وإنك دخلت في تسع وعشرين أعدهن ؟ فقال : إن الشهر تسع وعشرون " . واختلف العلماء في هذا الخيار أنه هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن حتى يقع بنفسه الاختيار أم لا ؟ فذهب الحسن ، وقتادة ، وأكثر أهل العلم : إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق ، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا فارقهن ، لقوله تعالى : { فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً } بدليل أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة لا تعجلي حتى تستشيري أبويك ، وفي تفويض للطلاق يكون الجواب على الفور . وذهب قوم إلى أنه كان تفويض الطلاق لو اخترن أنفسهن كان طلاقاً . واختلف أهل العلم في حكم التخيير : فقال عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس : إذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء ، وإن اختارت نفسها يقع طلقة واحدة ، وهو قول عمر بن عبد العزيز ، وابن أبي ليلى ، وسفيان ، والشافعي ، وأصحاب الرأي ، إلا أن عند أصحاب الرأي تقع طلقة بائنة إذا اختارت نفسها ، وعند الآخرين رجعية . وقال زيد بن ثابت : إذا اختارت الزوج تقع طلقة واحدة ، وإذا اختارت نفسها فثلاث ، وهو قول الحسن وبه قال مالك . وروي عن علي أيضاً أنها إذا اختارت زوجها تقع طلقة واحدة وإن اختارت نفسها فطلقة بائنة . وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عمر بن حفص ، أنبأنا أبي ، أنبأنا الأعمش ، أنبأنا مسلم ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : " خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترنا الله ورسوله فلم يعد ذلك علينا شيئاً " .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (29)

{ وَإِن كُنتُنَّ } لا تردن ذلك ، وإنما { تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ والدار الآخرة } .

أى : وإنما تردن ثواب الله - تعالى - والبقاء مع رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإيثار شظف الحياة على زينتها ، وإيثار ثواب الدار الآخرة على متع الحياة الدنيا .

إن كنتن تردن ذلك فاعلمن أن { الله } - تعالى - { أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ } ، بسبب إيمانهن وإحسانهن { أَجْراً عَظِيماً } لا يعلم مقداره إلا الله - تعالى - .

وبهذا التأديب الحكيم ، والإِرشاد القويم ، أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يؤدب نساءه ، وأن يرشدهن إلى ما فيه سعادتهن ، وأن يترك لهن حرية الاختيار .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (29)

{ وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } يستحقر دونه الدنيا وزينتها ومن للتبيين لأنهن كلهن كن محسنات .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (29)

وقوله تعالى : { إن كنتن تردن الحياة الدنيا } أي إن كانت عظم همتكن ومطلبكن الدنيا أي التعمق فيها والنيل من نعيمها . وزينة الدنيا : المال والبنون . { فتعالين } دعاء ، و { أمتعكن } معناه أعطيكن المتاع الذي ندب الله تعالى له في قوله { ومتعوهن }{[9499]} [ البقرة : 236 ] ، وأكثر الناس على أنها من المندوب إليه ، وقالت فرقة هي واجبة ، والسراح الجميل يحتمل أن يكون ما دون بت الطلاق ويحتمل أن يكون في بقاء جميل المعتقد وحسن العشرة وجميل الثناء وإن كان الطلاق باتاً و { أعد } معناه يسر وهيأ و «المحسنات » الطائعات لله والرسول .

قال الفقيه الإمام القاضي : وأزواج النبي صلى اللواتي فيهن تسع ، خمس من قريش ، عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان{[9500]} ، وسودة بنت زمعة ، وأم سلمة بنت أبي أمية{[9501]} ، وأربع من غير قريش ، ميمونة بنت الحارث الهلالية ، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية ، وزينب بنت جحش الأسدية{[9502]} ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية{[9503]} .

قال الفقيه الإمام القاضي : وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من إيلائه الشهر ونزلت عليه هذه الآية بدأ بعائشة وقال : «يا عائشة إني ذاكر لك أمراً ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك » ثم تلا عليها الآية ، فقالت له : وفي أي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ، قالت : وقد علم أن أبوي لا يأمراني بفراقه ثم تتابع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على مثل قول عائشة فاخترن الله ورسوله{[9504]} رضي الله عنهن .


[9499]:من قوله تعالى في الآية(236) من سورة(البقرة):{ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين}.
[9500]:اسمها رملة بنت أبي سفيان.
[9501]:اسمها هند بنت سهيل، لأن اسم أبي أمية هو: سهيل.
[9502]:كان اسمها بَرة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، وكان اسم أبيها بُرة؛ فقالت: يا رسول الله، بدل اسم أبي فإن البُرة حقيرة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:(لو كان أبوك مؤمنا سميناه باسم رجل منا أهل البيت، ولكني قد سميته جحشا، والجحش من البُرّة)، ذكر هذا الحديث الدارقطني.
[9503]:كان اسمها برة، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية.
[9504]:أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن عائشة رضي الله عنها، والرواية على لسانها كما ذكر السيوطي في الدر المنثور، قالت:(فبدأ بي، فقال: إني ذاكر لك أمرا) إلى آخر الحديث-حيث تقول:(وفعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت).(الدر المنثور، وفتح القدير).