قوله تعالى : { قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمةً } ، نبوة وحكمة ، { فمن ينصرني من الله } ، أي : من يمنعني من عذاب الله ، { إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير } ، قال ابن عباس : معناه غير بصارة في خسارتكم . قال الحسين بن الفضل : لم يكن صالح عليه السلام في خسارة حتى قال : فما تزيدونني غير تخسير ، وإنما المعنى : ما تزيدونني بما تقولون إلا نسبتي إياكم إلى الخسارة . والتفسيق والتفجير في اللغة هو : النسبة إلى الفسق والفجور ، وكذلك التخسير هو : النسبة إلى الخسران .
فانظر كيف قابل هؤلاء السفهاء الدعوة إلى الحق بالتصميم على الباطل ، ولكن صالحا - عليه السلام - لم ييأس بل يرد عليهم بأسلوب حكيم فيقول :
{ قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ } .
أى قال صالح - عليه السلام - لقومه : يا قوم أخبرونى إن كنت على حجة واضحة من ربى ومالك أمرى .
{ وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً } أى : وأعطانى من عنده لا من عند غيره رحمة عظيمة حيث اختارنى لحمل رسالته . وتبليغ دعوته .
وجملة { فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ } جواب الشرط وهو قوله { إِن كُنتُ على بَيِّنَةً } .
أى : إذا كان الله - تعالى - قد منحنى كل هذه النعم ، وأمرنى بأن أبلغكم دعوته فمن ذا الذى يجيرنى ويعصمنى من غضبه ، إذا أنا خالفت أمره أو قصرت فى تبليغ دعوته ، احتفاظا برجائكم فى ، ومسايرة لكم فى باطلكم ؟
لا ، إننى سأستمر فى تبليغ ما أرسلت به إليكم ، ولن يمنعنى عن ذلك ترغيبكم أو ترهيبكم .
وقوله { فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ } تصريح منه بأن ما عليه هو الحق الذى لا يقبل الشك أو الريب ، وأن مخالفته توصل إلى الهلاك والخسران .
والتخسير : مصدر خسر ، يقال خسر فلان فلانا إذا نسبه إلى الخسران : أى : فما تزويدوننى بطاعتكم ومعصية ربى غير الوقوع فى الخسران ، وغير التعرض لعذاب الله وسخطه وحاشاى أن أخالف أمر ربى إرضاء لكم .
فالآية الكريمة تصور تصويرا بليغا ما كان عليه صالح - عليه السلام - من إيمان عميق بالله - تعالى - ومن ثبات على دعوته ومن حرص عليه طاعته - سبحانه
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } فيما أرسلني به إليكم على يقين وبرهان [ من الله ]{[14715]} ، { وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ } وتركت دعوتكم إلى الحق وعبادة الله وحده ، فلو تركته{[14716]} لما نفعتموني ولما زدتموني { غَيْرَ تَخْسِيرٍ } أي : خسارة .
قوله : { أرأيتم } هو من رؤية القلب ، أي أتدبرتم ؟ والشرط الذي بعده وجوابه يسد{[6402]} مسد مفعولي { أرأيتم } ، و «البينة » : البرهان واليقين ، والهاء في «بيّنة » للمبالغة ، ويحتمل أن تكون هاء تأنيث ، و «الرحمة » في هذه الآية : النبوة وما انضاف إليها ، وفي الكلام محذوف تقديره أيضرني شككم أو أيمكنني طاعتكم ونحو هذا مما يليق بمعنى الآية{[6403]} .
وقوله { فما تزيدونني غير تخسير } معناه : فما تعطونني فيما أقتضيه منكم من الإيمان وأطلبكم به من الإنابة غير تخسير لأنفسكم ، وهو من الخسارة ، وليس التخسير في هذه الآية إلا لهم وفي حيزهم ، وأضاف الزيادة إليه من حيث هو مقتض لأقوالهم موكل بإيمانهم ، كما تقول لمن توصيه : أنا أريد بك خيراً وأنت تريد بي شراً{[6404]} .
فكأن الوجه البيّن ؛ وأنت تزيد شراً ولكن من حيث كنت مريد خير به ومقتضي ذلك - حسن أن تضيف الزيادة إلى نفسك .
جواب عن كلامهم فلذلك لم تعطف جملة { قال } وهو الشّأن في حكاية المحاورات كما تقدّم غير مرة .
وابتداء الجواب بالنّداء لقصد التّنبيه إلى ما سيقوله اهتماماً بشأنه .
وخاطبهم بوصف القوميّة له للغرض الذي تقدّم في قصة نوح .
والكلام في قوله : { أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربّي وآتاني منه رحمة } كالكلام على نظيرها في قصة نوح .
وإنّما يتّجه هنا أن يسأل عن موجب تقديم { منه } على { رحمة } هنا ، وتأخير { من عنده } [ هود : 28 ] عن { رحمة } [ هود : 28 ] في قصة نوح السابقة .
فالجواب لأنّ ذلك مع ما فيه من التّفنن بعدم التزام طريقة واحدة في إعادة الكلام المتماثل ، هو أيضاً أسعد بالبيان في وضوح الدّلالة ودفع اللبس . فلمّا كان مجرور ( من ) الابتدائية ظرفاً وهو ( عند ) كان صريحاً في وصف الرّحمة بصفة تدلّ على الاعتناء الربّانيّ بها وبمَن أوتيَهَا . ولمّا كان المجرور هنا ضمير الجلالة كان الأحسن أن يقع عقب فعل { آتاني } ليكون تقييدُ الإيتاء بأنّه من الله مشير إلى إيتاء خاص ذي عناية بالمؤتى إذ لولا ذلك لكان كونه من الله تحصيلاً لما أفيد من إسناد الإيتاء إليه ، فتعيّن أن يكون المراد إيتاءً خاصاً ، ولو أوقع { منه } عقب { رحمة } لتوهّم السامع أنّ ذلك عوض عن الإضافة ، أي عن أن يقال : وآتاني رحمته ، كقوله : { ولنجعله آيةً للنّاس ورحمةً منا } [ مريم : 21 ] أي ورحمتنا لهم ، أي لنعظَهم ونرحَمَهم .
وجملة { فمن ينصرني من الله } جواب الشرط وهو { إن كنت على بيّنة } .
والمعنى إلزام وجدل ، أي إن كنتم تنكرون نبوءتي وتوبّخونني على دعوتكم فأنا مؤمن بأنّي على بيّنة من ربّي ، أفترون أنّي أعدل عن يقيني إلى شكّكم ، وكيف تتوقّعون منّي ذلك وأنتم تعلمون أنّ يقيني بذلك يجعلني خائفاً من عذاب الله إن عصيته ولا أحد ينصرني .
والكلام على قوله : { مَنْ ينصرني من الله إن عصيته } كالكلام على قوله : { من ينصرني من الله إن طردتهم } [ هود : 30 ] في قصة نوح .
وفُرع على الاستفهام الإنكاري جملة : { فما تزيدونني غيرَ تخسير } أي إذ كان ذلك فما دعاؤكم إيّاي إلا سعي في خسراني .
والمراد بالزيادة حدوث حال لم يكن موجوداً لأنّ ذلك زيادة في أحوال الإنسان ، أي فما يحدث لي إن اتّبعتُكم وعصيتُ الله إلاّ الخسرانُ ، كقوله تعالى حكاية عن نوح عليه السّلام : { فلم يزدهم دعائي إلاّ فِرارا } [ نوح : 6 ] ، أي كنت أدعوهم وهم يسمعون فلمّا كرّرت دعوتهم زادوا على ما كانوا عليه ففرُّوا ، وليس المعنى أنّهم كانوا يفرّون فزادوا في الفرار لأنّه لو كان كذلك لقيل هنالك : فلم يزدهم دعائي إلاّ من فرار ، ولقيل هنا : فما تزيدونني إلاّ من تخسير .