معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَنِ ٱعۡمَلۡ سَٰبِغَٰتٖ وَقَدِّرۡ فِي ٱلسَّرۡدِۖ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (11)

قوله تعالى : { أن اعمل سابغات } دروعاً كوامل واسعات طوالاً تسحب في الأرض ، { وقدر في السرد } والسرد نسج الدروع ، يقال لصانعه : السراد والزراد ، يقول : قدر المسامير في حلق الدرع أي : لا تجعل المسامير دقاقاً فتفلت ولا غلاظاً فتكسر الحلق ، ويقال : السرد المسمار في الحلقة ، يقال : درع مسرودة أي : مسمورة الحلق ، وقدر في السرد اجعله على القصد وقدر الحاجة ، { واعملوا صالحاً } يريد : داود وآله . { إني بما تعملون بصير* }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَنِ ٱعۡمَلۡ سَٰبِغَٰتٖ وَقَدِّرۡ فِي ٱلسَّرۡدِۖ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (11)

و { أَنِ } فى قوله : { أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ } مصدرية على حذف حرف الجر . وسابغات صفة لموصوف محذوف .

أى : ألنا له الحديد ، لكى يعمل منه دروعا سابغات .

والدرع السابغ ، هى الدرع الواسعة التامة . يقال : سبغ الشئ سبوغا ، إذا كان واسعا تاما كاملا . ومنه قولهم : نعمة سابغة ، إذا كانت تامة كاملة .

قال - تعالى - : { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } وقوله : { وَقَدِّرْ فِي السرد } والتقدير هنا بمعنى الإِحكام والإِجادة وحسن التفكير فى عمل الشئ . والسرد : نسج الدروع وتهيئاتها لوظيفتها .

أى : آتينا داود كل هذا الفضل الذى من جملته إلانة الحديد فى ديه ، وقلنا له يا داود : اصنع دروعا سابغات تامات ، وأحكم نسج هذه الدروع ، بحيث تكون فى أكمل صورة ، وأقوى هيئة .

روى ان الدروع قبل عهد داود كانت تعمل بطريقة تثقل الجسم ، ولا تؤدى وظيفتها لا تثقل الجسم ولا تتعبه ، وفى الوقت نفسه تكون محكمة إحكاما تاما بحيث لا تنفذ منها الرماح ، ولا تقطعها السيوف ، وكان الأمر كله من باب الإِلهام والتعليم من الله - تعالى - لعبده داود - عليه السلام - .

ثم أمر - سبحانه - داود وأهله بالعمل الصالح فقال : { واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .

أى : واعملوا عملا صالحا يرضينى ، فإنى مطلع ومحيط ومبصر لكل ما تعملونه من عمل ، وسأجازيكم عليه يوم القيامة بالجزاء الذى تستحقونه .

قال القرطبى : وفى هذه الآية دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع ، وأن التحرف بها لا ينقص من مناصبهم . بل ذلك زيادة فى فضلهم وفضائلهم ، إذ يحصل لهم التواضع فى أنفسهم ، والاستغناء عن غيرهم ، وكسب الحلال الخالى عن الامتنان . وفى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إن خير ما أكل المرء من عمل يده ، وإن نبى الله داود كان يأكل من عمل يده " .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَنِ ٱعۡمَلۡ سَٰبِغَٰتٖ وَقَدِّرۡ فِي ٱلسَّرۡدِۖ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (11)

{ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ }وهي : الدروع . قال قتادة : وهو أول من عملها من الخلق ، وإنما كانت قبل ذلك صفائح .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا ابن سَمَاعة ، حدثنا ابن ضَمْرَة{[24165]} ، عن ابن شَوْذَب قال : كان داود ، عليه السلام ، يرفع في كل يوم درعًا فيبيعها بستة آلاف درهم : ألفين له ولأهله ، وأربعة آلاف درهم يطعم بها بني إسرائيل خبز الحُوّاري .

{ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } : هذا إرشاد من الله لنبيه داود ، عليه السلام ، في تعليمه صنعة الدروع .

قال مجاهد في قوله : { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } : لا تُدِقّ المسمار فَيقلَق في الحلقة ، ولا تُغَلّظه فيفصمها ، واجعله بقدر .

وقال الحكم بن عُتيبة{[24166]} : لا تُغَلظه فيفصم ، ولا تُدِقّه فيقلَق{[24167]} . وهكذا روي عن قتادة ، وغير واحد .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : السرد : حَلَق{[24168]} الحديد . وقال بعضهم : يقال : درع مسرودة : إذا كانت مسمورة الحلق ، واستشهد بقول الشاعر :{[24169]}

وَعَليهما مَسْرُودَتَان قَضَاهُما *** دَاودُ أو صنعَ السَّوابغ تُبّعُ

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود ، عليه والسلام ، {[24170]} من طريق إسحاق بن بشر - وفيه كلام - عن أبي إلياس ، عن وهب بن مُنَبه ما مضمونه : أن داود ، عليه السلام ، كان يخرج متنكرًا ، فيسأل الركبان عنه وعن سيرته ، فلا يسأل أحدًا إلا أثنى عليه خيرًا في عبادته وسيرته ومعدلته ، صلوات الله وسلامه عليه . قال وهب : حتى بعث الله مَلَكًا في صورة رجل ، فلقيه داود فسأله كما كان يسأل غيره ، فقال : هو خير الناس لنفسه ولأمته ، إلا أن فيه خصلة لو لم تكن فيه كان كاملا قال : ما هي ؟ قال : يأكل ويطعم عياله من مال المسلمين ، يعني : بيت المال ، فعند ذلك نصب داود ، عليه السلام ، إلى ربه في الدعاء أن يعلمه عملا بيده يستغني به ويغني به عياله ، فألان له الحديد ، وعلمه صنعة الدروع ، فعمل الدرع{[24171]} ، وهو أول مَنْ عملها ، فقال الله : { أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } يعني : مسامير الحلق ، قال : وكان يعمل الدرع{[24172]} ، فإذا ارتفع من عمله درع باعها ، فتصدق بثلثها ، واشترى بثلثها ما يكفيه وعياله ، وأمسك الثلث يتصدق به يوما بيوم إلى أن يعمل غيرها . وقال : إن الله أعطى داود شيئًا لم يعطه غيره من حسن الصوت ، إنه كان إذا قرأ الزبور تسمع الوحش{[24173]} حتى يؤخذ بأعناقها وما تنفر ، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج إلا على أصناف صوته . وكان شديد الاجتهاد ، وكان إذا افتتح الزبور بالقراءة كأنما ينفخ في المزامير ، وكأن{[24174]} قد أعطي سبعين مزمارًا في حلقه .

وقوله : { وَاعْمَلُوا صَالِحًا } أي : في الذي أعطاكم الله من النعم ، { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : مراقب لكم ، بصير بأعمالكم وأقوالكم ، لا يخفى علي من ذلك شيء .


[24165]:- في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
[24166]:- في س ، أ: "عيينة".
[24167]:- في ت ، أ: "فيفلق".
[24168]:- في ت ، س: "هو".
[24169]:- هو أبو ذؤيب الهذلي، والبيت في اللسان مادة (قضى).
[24170]:- تاريخ دمشق (5/708 المخطوط).
[24171]:- في ت ، أ: "الدروع".
[24172]:- في ت ، أ: "الدروع".
[24173]:- في ت ، س ، أ: "تجتمع الوحوش إليه".
[24174]:- في ت ، س: "وكان".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَنِ ٱعۡمَلۡ سَٰبِغَٰتٖ وَقَدِّرۡ فِي ٱلسَّرۡدِۖ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (11)

وقوله تعالى : { أن اعمل } قيل إن { أن } مفسرة لا موضع لها من الإعراب{[9606]} ، قيل هي في موضع نصب بإسقاط حرف الجر ، و «السابغات » الدروع الكاسيات ذوات الفضول ، قال قتادة داود عليه السلام أول من صنعها ، ودرع الحديد مؤنث ودرع المرأة مذكر ، وقوله تعالى : { وقدر في السرد } اختلف المتأولون في أي شيء هو التقدير من أشياء السرد ، إذ السرد هو اتباع الشيء بالشيء من جنسه ، قال الشماخ :

«كما تابعت سرد العنان الخوارز »{[9607]}

ومنه سرد الحديث{[9608]} ، وقيل للدرع مسرودة لأنها توبعت فيها الحلق بالحلق ومنه قول الشاعر [ القرطبي ] : [ الكامل ]

وعليهما مسرودتان قضاهما . . . داود أو صَنَعُ السوابغ تبع{[9609]}

ومنه قول دريد

بالفارسي المسرد{[9610]} .

فقال ابن زيد : التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة أي لا تعملها صغيرة فتضعف ولا تقوى الدرع على الدفاع ولا تعملها كبيرة فينال لاسبها من خلالها ، وقال ابن عباس التقدير الذي أمر به هو المسمار يريد ثقبه حين يشد نتيرها ، وذكر البخاري في مصنفه ذلك فقال : المعنى لا تدق المسمار فيسلسل ، ويروى فيتسلسل ، ولا تغلظه فيقصم بالقاف ، وبالفاء أيضاً رواية ، وروى قتادة أن الدروع كانت قبله صفائح فكانت ثقالاً ، فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع بين الخفة والحصانة ، أي قدر ما يأخذ هذين المعنيين بقسطه ، أي لا تقصد الحصانة فتثقل ولا الخفة وحدها فتزيل المنعة ، وقوله تعالى : { واعملوا صالحاً } لما كان الأمر لداود وآله حكى وإن كانوا لم يجر لهم ذكر لدلالة المعنى عليهم ، ثم توعدهم تعالى بقوله : { إني بما تعملون بصير } أي لا يخفى علي حسنه من قبيحة وبحسب ذلك يكون جزائي لكم .


[9606]:هذا قول الحوفي، ذكر ذلك أبو حيان في البحر المحيط، ثم عقب عليه بقوله:"ولا يصح؛ لأن من شرطها أن يتقدمها معنى القول، وليس في الكلام هذا، وقدر بعضهم قبلها فعلا محذوفا يحمل معنى القول حتى يصح أن تكون مفسرة، وتقديره: وأمرناه أن اعمل، ولا ضرورة تدعو إلى هذا المحذوف". ا هـ بتصرف.
[9607]:هذا عجز بيت، وهو بتمامه كما في (جمهرة أشعار العرب): ركبن الذنابى فاتبعن به الهوى كما تابعت سرد العنان الخوارز وقيل: بل الشطر الأول هو:(فظلت تباعا خيلنا في بيوتكم)، وهذه رواية القرطبي في تفسيره، وفي الديوان روى الشطر الأول هكذا(شككن بأحشاء الذنابى على هدى). هذا والشماخ لقب للشاعر، واسمه معقل ابن ضرار، وهو أرجز الناس على بديهة، والبيت من قصيدة له قال عنها الأصمعي:"ما قيلت قصيدة على الزاي أجود من قصيدة الشماخ في وصف القوس، ولو طالت قصيدة المتنخل كانت أجود". وهو يقصد أبياتا قالها المتنخل أيضا على الزاي، ومعنى(ركبن الذنابى): فررن، واتبعن به الهوى: أي هوى الحمار الوحشي، والخوارز: جمع خارز، من قولهم: خرز الجلد، أي ثقبه بالمخرز وخاطه، والشاهد أن السرد هو: إتباع الشيء بالشيء من جنسه كما قال المؤلف، وقد روي البيت في الجمهرة:(كما تابعت شد العنان)، وعلى هذا فلا شاهد فيه.
[9608]:في ( اللسان-سرد):"سرد الحديث ونحوه سردا: إذا تابعه، وفي صفة كلامه صلى الله عليه وسلم:(لم يكن يسرد الحديث سردا) أي: يتابعه ويستعجل فيه.
[9609]:البيت لأبي ذؤيب الهذلي، وهو من قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها: أمن المنون وريبها تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع ورواية الديوان في (أشعار الهذليين):(وعليهما ماذيتان)، وفي رواية الأصمعي (وتعاورا مسرودتين)، والسرد: الخرز في الأديم، والمسرد: ما يخرز به، ويقال للدرع: مسرودة لأنها مخروزة ومنظومة. وقضاهما: فرغ من عملهما، والصنع: الحاذق بالعمل، والمراد به هنا تبع، يقال: رجل صنع وامرأة صَنَاع، قال الأصمعي: سمع الشاعر بأن دواود عليه السلام كان سخر له الحديد فكان يصنع منه ما أراد، وسمع بأن تبعا عملها فقال: عملها، والحقيقة أنه أمر بالسوابغ أن تعمل، وتبع أعظم من أن يصنع بيده.
[9610]:هذا جزء من بيت قاله دريد بن الصمة من قصيدة طويلة يرثي بها أخاه رثاء إنسانيا عميقا،والبيت بتمامه مع بيت قبله: وقلت لعراض وأصحاب عارض ورهط بني السوداء والقومشهدي علانية: ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد وعارض هو أخو دريد، والقوم شهدي: شهودي على ما قلته، وعلانية: جهرا امام الجميع، وظنوا: أيقنوا، والمدجج: التام السلاح، وسراتهم: أشرافهم ورؤساؤهم، والفارسي: درع من بلاد فارس، والمسرد: المحكم النسج أو الدقيق الصنع المتتابع الحلقات. والمعنى: لقد نصحت عارضا وأصحابه وجماعة من بني السوداء، ونهيتهم في مشهد من القوم، وكان حديثي لهم علانية وجهرا، وقلت لهم: إن ألفي مقاتل يتربصون بكم، وأشرافهم مدججون ومحصنون بالدروع الفارسية المحكمة الصنع. ثم يصرخ بعد هذين البيتين ببيته الرائع الذي جرى بعد ذلك مجرى الأمثال: أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَنِ ٱعۡمَلۡ سَٰبِغَٰتٖ وَقَدِّرۡ فِي ٱلسَّرۡدِۖ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (11)

و{ سابغات } صفة لموصوف محذوف لظهوره من المقام إذ شاع وصف الدروع بالسابغات والسوابغ حتى استغنوا عند ذكر هذا الوصف عن ذكر الموصوف .

ومعنى { قَدِّر } اجعله على تقدير ، والتقدير : جعل الشيء على مقدار مخصوص .

و { السَّرْد } صنع درع الحديد ، أي تركيب حلقها ومساميرها التي تَشُدّ شقق الدرع بعضها ببعض فهي للحديد كالخياطة للثوب ، والدِرع توصف بالمسرودة كما توصف بالسابغة . قال أبو ذؤيب الهذلي :

وعليهما مَسرودتان قضاهما *** داوُد أو صَنَعُ السوابغ تُبَّعُ

ويقال لناسج الدروع : سَرَّاد وزرّاد بالسين والزاي ، وقال المعري يصف درعاً :

وداوُد قين السابغات أذالها *** وتلك أضاة صانها المرء تبع

فلما سخر الله له ما استصعب على غيره أتبعه بأمره بالشكر بأن يعمل صالحاً لأن الشكر يكون بالعمل الذي يرضي المشك والمنعم .

وضمير { اعملوا } لداود وآله كقوله تعالى : { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها } [ طه : 132 ] أو له وحده على وجه التعظيم .

وقوله : { إني بما تعملون بصير } موقع « إن » فيه موقع فاء التسبب كقول بشار :

إن ذاك النجاحَ في التبكير

وقد تقدم غير مرة .

والبصير : المطلع العليم ، وهو هنا كناية عن الجزاء عن العمل الصالح .