السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أَنِ ٱعۡمَلۡ سَٰبِغَٰتٖ وَقَدِّرۡ فِي ٱلسَّرۡدِۖ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (11)

ثم ذكر سبحانه وتعالى علة الإلانة بصيغة الأمر إشارة إلى أن عمله كان لله تعالى بقوله عز من قائل : { أن اعمل سابغات } أي : دروعاً طوالاً واسعات يجرها لابسها على الأرض ، وذكر الصفة يعلم منها الموصوف ، واختلف في معنى قوله سبحانه وتعالى { وقدر في السرد } أي : نسج الدروع يقال لصانعه : الزراد والسراد فقيل : قدر المسامير في حلق الدروع أي : لا تجعل المسامير غلاظاً فتكسر الحلق ولا دقاقاً فتتقلقل فيها ويقال : السرد المسمار في الحلقة يقال : درع مسرودة أي : مسمورة الحلق { وقدر في السرد } اجعله على القصد وقدر الحاجة وقيل : اجعل كل حلقة مساوية لأختها مع كونها ضيقة لئلاً ينفذ منها سهم ، ولتكن في ثخنها بحيث لا يقطعها سيف ، ولا تثقل على الدرع فتمنعه خفة التصرف وسرعة الانتقال في الكر والفر والطعن والضرب في البرد والحر ، والظاهر كما قال البقاعي أنه لم يكن في حلقها مسامير لعدم الحاجة بإلانة الحديد إليها ، وإلا لم يكن بينه وبين غيره فرق ولا كان للإلانة كبير فائدة ، وقد أخبر بعض من رأى ما نسب إليه بغير مسامير وقال الرازي : يحتمل أن يقال : السرد هو عمل الزرد وقوله تعالى { وقدر في السرد } أي : أنك غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب ، والكسب يكون بقدر الحاجة ، وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشتغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل به القوت فحسب ، ويدل عليه قوله تعالى { واعملوا صالحاً } أي : لستم مخلوقين إلا للعمل الصالح فاعملوا ذلك وأكثروا منه ، وأما الكسب فقدروا فيه ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله تعالى : { إني بما تعملون بصير } أي : مبصر فأجازيكم به يريد بهذا داود وآله .

تنبيه : كما ألان الله تعالى لداود عليه السلام الحديد ألان لنبينا صلى الله عليه وسلم في الخندق تلك الكدية وذلك بعد أن لم تكن المعاول تعمل فيها وبلغت غاية الجهد منهم ، فضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربة واحدة ، وفي رواية رش عليها ماء فعادت كثيباً أهيل لا ترد فأساً ، وتلك الصخرة التي أخبره سلمان عنها أنها كسرت فؤوسهم ومعاولهم وعجزوا عنها فضربها صلى الله عليه وسلم ثلاث ضربات كسر في كل ضربة ثلثاً منها ، وبرقت مع كل ضربة برقة كبر معها تكبيرة وأضاءت للصحابة رضي الله تعالى عنهم ما بين لابتي المدينة بحيث كانت في النهار ، كأنها مصباح في جوف بيت مظلم فسألوه عن ذلك ، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن إحدى الضربات أضاءت له صنعاء من أرض اليمن حتى رأى أبوابها من مكانه ذلك ، وأخبره جبريل عليه السلام أنها ستفتح على أمته ، وأضاءت له الأخرى قصور الحيرة البيض كأنها أنياب الكلاب ، وأخبر أنها مفتوحة لهم ، وأضاءت له الأخرى قصور الشام الحمر كأنها أنياب الكلاب ، وأخبر بفتحها عليهم فصدقه الله تعالى في جميع ما قال ، وأعظم من ذلك تصلب الخشب له عليه السلام حتى صار سيفاً قوىّ المتن جيد الحديدة ، وذلك أن سيف عبد الله بن جحش انقطع يوم أحد فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجوناً فصار في يده سيفاً قائمة منه فقاتل به ، فكان يسمى العرجون ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده حتى قتل ، وهو عنده وعن الواقدي : «أنه انكسر سيف سلمة بن أسلم يوم بدر ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيباً كان في يده من عراجين رطاب فقال : اضرب به فإذا هو سيف جيد ، فلم يزل عنده حتى قتل » وإلحام داود للحديد ليس بأعجب من : «إلحام النبي صلى الله عليه وسلم ليد معوذ بن عفراء لما قطعها أبو جهل يوم بدر فأتى بها يحملها في يده الأخرى فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وألصقها فلصقت وصحت مثل أختها » كما نقله البيهقي

وغيره ومعجزاته صلى الله عليه وسلم لا تنحصر ، وإنما أذكر بعضها تبركاً بذكره صلى الله عليه وسلم وأسأل الله تعالى أن يحشرنا في زمرته ويفعل ذلك بأهلينا ومحبينا .