قوله تعالى : { ألم تر } ألم تعلم ، وقيل : ألم تر بقلبك { أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب } قال مجاهد : سجودها تحول ظلالها . وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجداً حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له ، فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه . وقيل : سجودها بمعنى الطاعة فإنه ما من جماد إلا وهو مطيع لله خاشع لله مسبح له كما أخبر الله تعالى عن السموات والأرض { قالتا أتينا طائعين } وقال في وصف الحجارة { وإن منها لما يهبط من خشية الله } وقال تعالى : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } وهذا مذهب حسن موافق لأهل السنة . قوله : { وكثير من الناس } أي : من هذه الأشياء كلها تسبح الله عز وجل { وكثير من الناس } يعني المسلمين . { وكثير حق عليه العذاب } وهم الكفار لكفرهم وتركهم السجود وهم مع كفرهم تسجد ظلالهم لله عز وجل . والواو في قوله : { وكثير حق عليه العذاب } واو الاستئناف . { ومن يهن الله } أي : يهنه الله { فما له من مكرم } أي : من يذله الله فلا يكومه أحد ، { إن الله يفعل ما يشاء } أي : يكرم ويهين فالسعادة والشقاوة بإرادته ومشيئته .
ثم بين - سبحانه - أن الكون كله يخضع لسلطانه - تعالى - ويسجد لوجهه فقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ . . . } .
الاستفهام فى قوله { أَلَمْ تَرَ . . . } للتقرير . والرؤية هنا بمعنى العلم وذلك لأن سجود هذه الكائنات لله - تعالى - آمنا به عن طريق الإخبار دون أن نرى كيفيته .
والسجود فى اللغة : التذلل والخضوع مع انخفاض بانحناء وما يشبهه . وخص فى الشرع بوضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة .
والمراد به هنا : دخول الأشياء جميعها تحت قبضة الله - تعالى - وتسخيره وانقيادها لكل ما يريده منا انقيادا تاماً ، وخوضعها له - عز وجل - بكيفية هو الذى يعلمها . فنحن نؤمن بأن هذه الكائنات تسجد لله - تعالى - ونفوض كيفية هذا السجود له - تعالى - .
والمعنى : لقد علمت - أيها العاقل - أن الله - تعالى - يسجد له ، ويخضع لسلطانه جميع من فى السموات وجميع من فى الأرض .
وقوله : { والشمس والقمر والنجوم } عطف خاص على قوله : { مَن فِي السماوات } .
ونص - سبحانه - عليها مفرداً إياها بالذكر ، لشهرتها ، ولاستبعاد بعضهم حدوث السجود منها ، ولأ آخرين كانوا يعبدون هذه الكواكب ، فبين - سبحانه - أنها عابدة وساجدة لله ، وليست معبودة .
وقوله - تعالى - : { والجبال والشجر والدوآب } عطف خاص على { مَن فِي الأرض } ونص - سبحانه - عليها - أيضاً - لأن بعضهم كان يعبدها ، أو يعبد ما يؤخذ منها كالأصنام .
وقوله - تعالى - { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } بيان الذين اهتدوا إلى طريق الحق . أى : ويسجد له - كذلك - كثير من الناس ، وهم الذين خلصت عقولهم من شوائب الشرك والكفر ، وطهرت نفوهسم من الأدناس والأوهام .
وقوله : { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } بيان لحال الذين استحبوا العمى على الهدى .
أى : وكثير من الناس حق وثبت عليهم العذاب ، بسبب إصرارهم على الكفر ، وإيثارهم الغى على الرشد .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يدل على نفاذ قدرته ، وعموم مشيئته فقال : { وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } . و " من " شرطية ، وجوابها : " فما له من مكرم " ومكرم اسم فاعل من أكرم .
أى : ومن يهنه الله ويخزه ، فما له من مكرم يكرمه ، أو منقذ ينقذه مما هو فيه من شقاء ، إن الله - تعالى - يفعل ما يشاء فعله بدون حسيب يحاسبه ، أو معقب يعقب على حكمه .
قال - تعالى - : { والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحساب }
يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له ، فإنه يسجد{[20056]} لعظمته كل شيء طوعا وكرها وسجود [ كل شيء مما ]{[20057]} يختص به ، كما قال : { أَوَلَمْ يَرَوْا{[20058]} إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } [ النحل : 48 ] . وقال هاهنا : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ } أي : من الملائكة في أقطار السموات ، والحيوانات في جميع الجهات ، من الإنس والجن والدواب والطير ، { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] .
وقوله : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ } : إنما ذكر هذه على التنصيص ؛ لأنها قد عُبدت من دون الله ، فبين أنها تسجد لخالقها ، وأنها مربوبة مسخرة { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ فصلت : 37 ] .
وفي الصحيحين عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتدري أين تذهب هذه الشمس ؟ " . قلت : الله ورسوله أعلم . قال : " فإنها تذهب فتسجد تحت العرش ، ثم تستأمر فيوشك أن يقال لها : ارجعي من حيث جئت " {[20059]} .
وفي المسند وسنن أبي داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، في حديث الكسوف : " إن الشمس والقمر خَلْقان من خَلْق الله ، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، ولكن الله عز وجل إذا تَجَلى لشيء من خلقه خشع{[20060]} له " {[20061]} .
وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر ، إلا يقع لله ساجدًا حين يغيب ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له ، فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه .
وأما الجبال والشجر فسجودهما بفَيء ظلالهما{[20062]} عن اليمين والشمائل : وعن ابن عباس قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، إني رأيتني الليلة وأنا نائم ، كأني أصلي خلف شجرة ، فسجدتُ فسجَدَت الشجرة لسجودي ، فسمعتُها وهي تقول : اللهم ، اكتب لي بها عندك أجرًا ، وضع عني بها وزرًا ، واجعلها لي عندك ذخرًا ، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود . قال ابن عباس : فقرأ
النبي{[20063]} صلى الله عليه وسلم سجدة ثم سَجَد ، فسمعته وهو يقولُ مثلَ ما أخبره الرجل عن قول الشجرة .
رواه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبّان في صحيحه{[20064]} .
وقوله : { وَالدَّوَابُّ } أي : الحيوانات كلها .
وقد جاء في الحديث عن الإمام أحمد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ ظهور الدواب{[20065]}منابر{[20066]} فرب مركوبة خير{[20067]} وأكثر ذكرًا لله من راكبها .
وقوله : { وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ } أي : يسجد لله طوعا مختارًا متعبدًا بذلك ، { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } أي : ممن امتنع وأبى واستكبر ، { وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن شيبان الرملي ، حدثنا القداح ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي قال : قيل لعلي : إن هاهنا رجلا يتكلم في المشيئة . فقال له علي : يا عبد الله ، خلقك الله كما يشاء أو كما شئت{[20068]} ؟ قال : بل كما شاء . قال : فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال : بل إذا شاء . قال : فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال : بل إذا شاء . قال : فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء ؟ قال : بل حيث يشاء . قال : والله لو قلت غير ذلك لضربتُ الذي فيه عيناك بالسيف .
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا قرأ ابنُ آدم السجدة اعتزل{[20069]} الشيطان يبكي يقول : يا ويله . أمر ابن آدم بالسجود فسجد ، فله الجنة ، وأمِرتُ بالسجود فأبيتُ ، فلي النار " رواه مسلم{[20070]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم وأبو عبد الرحمن المقرئ قالا حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا مَشْرَح بن هاعان{[20071]} أبو مُصعب المعافري قال : سمعت عقبة بن عامر يقول : قلت يا رسول الله ، أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين ؟ قال : " نعم ، فمن لم يسجد بهما فلا يقرأهما " .
ورواه أبو داود والترمذي ، من حديث عبد الله بن لهيعة ، به{[20072]} . وقال الترمذي : " ليس بقوي{[20073]} " وفي هذا نظر ؛ فإن ابن لَهِيعة قد صَرح فيه بالسماع ، وأكثر ما نَقَموا عليه تدليسه .
وقد قال أبو داود في المراسيل : حدثنا أحمد بن عمرو بن السَّرح ، أنبأنا ابن وَهْب ، أخبرني معاوية بن صالح ، عن عامر بن جَشِب{[20074]} ، عن خالد بن مَعْدان ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فُضِّلت سورة الحج على القرآن بسجدتين " .
ثم قال أبو داود : وقد أسندَ هذا ، يعني : من غير هذا الوجه ، ولا يصح{[20075]} .
وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي : حدثنا ابن أبي داود ، حدثنا يزيد بن عبد الله ، حدثنا الوليد ، حدثنا أبو عمرو ، حدثنا حفص بن عنان ، حدثني نافع ، حدثني أبو الجهم : أن عمر سجد سجدتين في الحج ، وهو بالجابية ، وقال : إن هذه فضلت بسجدتين{[20076]} .
وروى أبو داود وابن ماجه ، من حديث الحارث بن سعيد العُتَقيّ ، عن عبد الله بن مُنَين ، عن عمرو بن العاص ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن ، منها ثلاث في المُفَصّل ، وفي سورة الحج سجدتان{[20077]} . فهذه{[20078]} شواهد يَشُدّ بعضها بعضا .
{ ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض } يستخر لقدرته ولا يتأتى عن تدبيره ، أو يدل بذلته على عظمته مدبره ، ومن يجوز أن يعم أولي العقل وغيرهم على التغليب فيكون قوله : { والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب } إفرادا لها بالذكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها . وقرىء { والدواب } بالتخفيف كراهة التضعيف أو الجمع بين الساكنين . { وكثير من الناس } عطف عليها إن جوز إعمال اللفظ الواحد في كل واحد من مفهوميه ، وإسناده باعتبار أحدهما إلى أمر وباعتبار الآخر إلى آخر ، فإن تخصيص الكثير يدل على خصوص المعنى المسند إليهم ، أو مبتدأ خبره محذوف يدل عليه خبر قسيمه نحو حق له الثواب ، أو فاعل فعل مضمر أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة . { وكثير حق عليه العذاب } بكفره وإبائه عن الطاعة ، ويجوز أن يجعل " وكثيرا " تكريرا للأول مبالغة في تكثير المحقوقين بالعذاب وأن يعطف به على الساجدين بالمعنى العام موصوفا بما بعده . وقرىء { حق } بالضم و " حقا " بإضمار فعله . { ومن يهن الله } بالشقاوة { فما له من مكرم } يكرمه بالسعادة ، وقرىء بالفتح بمعنى الإكرام . { إن الله يفعل ما يشاء } من الإكرام والإهانة .
جملة مستأنفة لابتداء استدلال على انفراد الله تعالى بالإلهية . وهي مرتبطة بمعنى قوله { يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه } إلى قوله : { لبئس المولى ولبئس العشير } [ الحج : 12 ، 13 ] ارتباط الدليل بالمطلوب فإنّ دلائل أحوال المخلوقات كلها عاقِلها وجمادها شاهدة بتفرد الله بالإلهية . وفي تلك الدلالة شهادة على بطلان دعوة من يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه .
وما وقع بين هاتين الجملتين استطرادٌ واعتراضٌ .
والرؤية : علمية . والخطاب لغير معين .
والاستفهام إنكاريّ . أنكر على المخاطبين عدم علمهم بدلالة أحوال المخلوقات على تفرد الله بالإلهية . ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والاستفهام تقريرياً ، لأنّ حصول علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك متقرّر من سورة الرعد وسورة النحل . وقد تقدم الكلام على معنى هذا السجود في السورتين المذكورتين .
وقد استعمل السجود في حقيقته ومجازه ، وهو حسن وإن أباه الزمخشري ، وقد حققناه في المقدمة التاسعة ، لأن السجود المثبت لكثير من الناس هو السجود الحقيقي ، ولولا إرادة ذلك لما احترس بإثباته لكثير من الناس لا لجميعهم .
ووجه هذا التفكيك أن سجود الموجودات غير الإنسانية ليس إلا دلالة تلك الموجودات على أنها مسخرة بخلق الله ، فاستعير السجود لحالة التسخير والانطياع . وأما دلالة حال الإنسان على عبوديته لله تعالى فلما خالطها إعراض كثير من الناس عن السجود لله تعالى ، وتلبّسهم بالسجود للأصنام كما هو حال المشركين غطّى سجودهم الحقيقي على السجود المجازي الدال على عبوديتهم لله لأن المشاهدة أقوى من دلالة الحال فلم يثبت لهم السجود الذي أثبت لبقيّة الموجودات وإن كان حاصلاً في حالهم كحال المخلوقات الأخرى .
وجملة { وكثير حق عليه العذاب } معترضة بالواو .
وجملة { حق عليه العذاب } مكنّى بها عن ترك السجود لله ، أي حق عليهم العذاب لأنهم لم يسجدوا لله ، وقد قضى الله في حكمه استحقاق المشرك لعذاب النار . فالذين أشركوا بالله وأعرضوا عن إفراده بالعبادة قد حق عليهم العذاب بما قضى الله به وأنذرهم به .
وجملة { ومن يهن الله فما له من مكرم } اعتراض ثان بالواو .
والمعنى : أن الله أهانهم باستحقاق العذاب فلا يجدون من يكرمهم بالنصر أو بالشفاعة .
وجملة { إن الله يفعل ما يشاء } في محل العلة للجملتين المعترضتين لأن وجود حرف التوكيد في أول الجملة مع عدم المنكر يمحّض حرفَ التوكيد إلى إفادة الاهتمام فنشأ من ذلك معنى السببية والتعليل ، فتغني ( أنّ ) غناء حرف التعليل أو السببية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألم تر} يعني: ألم تعلم {أن الله يسجد له من في السماوات} من الملائكة وغيرهم {ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم}...
{و} يسجد {والجبال والشجر والدواب}...
ثم قال سبحانه: {و} يسجد {وكثير من الناس} يعني: المؤمنين.
{و} يسجد {وكثير} ممن {حق عليه العذاب} من كفار الإنس والجن، سجودهم هو سجود ظلالهم. {ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} في خلقه، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية فسجد لها هو وأصحابه، رضي الله عنهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تر يا محمد بقلبك، فتعلم أن الله يسجد له من في السموات من الملائكة، ومن في الأرض من الخلق من الجنّ وغيرهم، والشمس والقمر والنجوم في السماء، والجبال، والشجر، والدوابّ في الأرض... وقوله:"وكَثيرٌ منَ النّاسِ" يقول: ويسجد كثير من بني آدم، وهم المؤمنون بالله... وقوله: "وكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ "يقول تعالى ذكره: وكثير من بني آدم حق عليه عذاب الله فوجب عليه بكفره به، وهو مع ذلك يسجد لله ظله... عن مجاهد: "وكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ" وهو يسجد مع ظله.
فعلى هذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد، وقع قوله: "وكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ" بالعطف على قوله: "وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ" ويكون داخلاً في عداد من وصفه الله بالسجود له، ويكون قوله: "حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ" من صلة «كثير». ولو كان «الكثير» الثاني ممن لم يدخل في عداد من وصفه بالسجود، كان مرفوعا بالعائد من ذكره في قوله: "حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ" وكان معنى الكلام حينئذٍ: وكثير أبى السجود، لأن قوله: "حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ" يدلّ على معصية الله وإبائه السجود، فاستحقّ بذلك العذاب.
يقول تعالى ذكره: ومن يهنه الله من خلقه فَيشْقِه، "فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ" بالسعادة يسعده بها لأن الأمور كلها بيد الله، يوفّق من يشاء لطاعته ويخذل من يشاء، ويُشقي من أراد ويسعد من أحبّ.
وقوله: "إنّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ" يقول تعالى ذكره: إن الله يفعل في خلقه ما يشاء من إهانة من أراد إهانته وإكرام من أراد كرامته، لأن الخلق خلقه والأمر أمره. "لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... سجود هذه الأشياء يخرج على وجوه:
أحدها: سجود خلقه، يسجد كل شيء ذكر بخلقته لله على ما ذكرنا في التسبيح.
والثاني: سجود عبادة؛ وهو سجود كل ممكن منه السجود وتركه، وهو سجود الممتحن.
والثالث: سجود بذل؛ فما جعل في هذه الأشياء من المنافع، لا يتأتي بذلها لأحد، من الماء والشمس والشجر والدواب وكل شيء.
والرابع: ما ألهم هذه الأشياء من الطاعة لله والخضوع له. ألا ترى أنه قال: {أتينا طائعين}؟ [فصلت: 11] ألا ترى أنه ألهم الدواب معرفة إتيان الصالح واتقاء المهالك؟ فجائز أن يعرفن طاعته والخضوع له، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ومعناه ألم تعلم "أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض "من العقلاء. ويسجد له "الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب" فسجود الجماد هو ما فيه من ذلة الخضوع التي تدعو العارفين إلى السجود، سجود العبادة لله المالك للأمور، وسجود العقلاء هو الخضوع له تعالى والعبادة له...
"وكثير حق عليه العذاب" يعني لإبائه السجود..
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أهل العرفان يسجدون له سجودَ عبادة، وأربابُ الجحود كُلُّ جزءٍ منهم يسجد له سجودَ دلالة وشهادة...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
وذلك أن كل شيء منقاد لله عز وجل على ما خلقه وعلى ما رزقه وعلى ما أصحه وعلى ما أسقمه، فالبر والفاجر والمؤمن والكافر في هذا سواء...
["ومن يهن الله فما له من مكرم"]... يهين من يشاء بالكفر ويكرم من يشاء بالإيمان...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ألم تر} تنبيه رؤية القلب، وهذه آية إعلام بتسليم المخلوقات جمع لله وخضوعها، وذكر في الآية كل ما عبد الناس إذ في المخلوقات أعظم مما قد ذكر كالرياح والهواء...
قال الزجاج أجود الوجوه في سجود هذه الأمور أنها تسجد مطيعة لله تعالى وهو كقوله: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين}، {أن نقول له كن فيكون}، {وإن منها لما يهبط من خشية الله}، {وإن من شيء إلا يسبح بحمده}، {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن} والمعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع الأعراض التي يحدثها الله تعالى فيها من غير امتناع البتة أشبهت الطاعة والانقياد وهو السجود، فإن قيل هذا التأويل يبطله قوله: {وكثير من الناس} فإن السجود بالمعنى الذي ذكرته عام في كل الناس، فإسناده إلى كثير منهم يكون تخصيصا من غير فائدة،إلا أن بعضهم تمرد وتكبر وترك السجود في الظاهر، فهذا الشخص وإن كان ساجدا بذاته لكنه متمرد بظاهره، أما المؤمن فإنه ساجد بذاته وبظاهره فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر. {إن الله يفعل ما يشاء} أنه الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعا وكرها... وسجود [كل شيء مما] يختص به،...
{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ}: إنما ذكر هذه على التنصيص؛ لأنها قد عُبدت من دون الله، فبين أنها تسجد لخالقها، وأنها مربوبة مسخرة {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان جميع ما تقدم في هذه السورة دالاً على أنه على كل شيء قدير، وأنه يفعل ما يريد، وختم ذلك بأنه بكل شيء عليم لم يغب ولا يغيب شيء عنه، فاقتضى ذلك قيوميته، وكان بحيث يستعظم لكثرة الخلائق فكيف بأحوالهم، قرر ذلك في جواب من كأنه سأل فهي في معنى العلة، فقال: {ألم تر أن الله} أي الحائز لجميع الكمال المبرأ عن كل نقص {يسجد له} أي يخضع منقاداً لأمره مسخراً لما يريد منه تسخير من هو في غاية الاجتهاد في العبادة والإخلاص فيها {من في السماوات}.
ولما كان السياق مقتضياً للإبلاغ في صفة القيومية بشهادة ذكر الفصل بين جميع الفرق، أكد بإعادة الموصول فقال: {ومن في الأرض} إن أخلت غير العاقل فبالتغليب، وإن خصصت فبالعاقل أفهم خضوع غيره من باب الأولى. ولما ذكر ما يعم العاقل وغيره، أتبعه بأشرف ما ذكر مما لا يعقل لأن كلاًّ منهما عبد من دون الله أو عبد شيء منه فقال: {والشمس والقمر والنجوم} من الأجرام العلوية... ثم أتبع ذلك أعلام الذوات السفلية فقال: {والجبال} أي التي تنحت منها الأصنام {والشجر} التي عبد بعضها {والدواب} التي عبد منها البقر، كل هذه الأشياء تنقاد لأمر الله، ومن المعلوم لكون هذه لا تعقل -أن أمره لها هو مراده منها.
ولما كان العقلاء من المكلفين قد دخلوا في قوله {ومن في الأرض} دخولاً أولياً، وكان السجود الممدوحون عليه إنما هو الموافق للأمر، لا الموافق للإرادة المجردة عن الأمر، قال دالاً على إرادته هنا بتكريرهم وتقسيمهم بعد إدخالهم في سجود الإدارة وتعميمهم: {وكثير من الناس} أي يسجد سجوداً هو منه عبادة شرعية فحق له الثواب {وكثير} أي منهم {حق عليه العذاب} بقيام الحجة عليه بكونه لم يسجد، فجحد الأمر الذي من جحده كان كافراً وإن كان ساجداً عابداً بالمعنى اللغوي الذي هو الجري مع المراد، وعلى القول بأن هذا في تقدير عامل من لفظ الأول بغير معناه هو قريب من الاستخدام الذي يعاد فيه ضمير على لفظ مراد منه معنى آخر، والآية من الاحتباك: إثبات السجود في الأول دليل على انتفائه في الثاني، وذكر العذاب في الثاني دليل على حذف الثواب في الأول.
ولما علم بهذا أن الكل جارون مع الإرادة منقادون أتم انقياد تحت طوع المشيئة، وأنه إنما جعل الأمر والنهي للمكلفين سبباً لإسعاد السعيد منهم وإشقاء الشقي، لإقامة الحجة عليهم على ما يتعارفونه من أحوالهم فيما بينهم، كان المعنى: فمن يكرم الله بتوفيقه لا متثال أمره فما له من مهين، فعطف عليه: {ومن يهن الله} أي الذي له الأمر كله بمنابذة أمره {فما له من مكرم} لأنه لا قدرة لغيره أصلاً، ولعله إنما ذكره وطوى الأول لأن السياق لإظهار القدرة، وإظهارها في الإهانة أتم، مع أن أصل السياق للتهديد؛ ثم علل أن الفعل له لا لغيره بقوله: {إن الله} أي الملك الأعظم {يفعل ما يشاء*} أي كله، فلو جاز أن يمانعه غيره ولو في لحظة لم يكن فاعلاً لما يشاء، فصح أنه لا فعل لغيره...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن في السماوات وَمَن في الأرض} الخ، بيان لما يُوجب الفصلَ المذكور من أعمال الفرقِ المذكورةِ مع الإشارةِ إلى كيفيَّتِه وكونه بطريقِ التَّعذيبِ والإثابة والإكرام والإهانة إثرَ بيان ما يُوجبه من كونِه تعالى شهيداً على جميع الأشياء التي من جُملتها أحوالُهم وأفعالُهم والمراد بالرُّؤيةِ العلم عبَّر عنه بها إشعاراً بظهورِ المعلوم والخطاب لكلِّ أحدٍ ممَّن يتأتَّى منه الرُّؤيةُ بناء على أنَّه من الجلاءِ بحيث لا يخفى على أحدٍ.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وفي مفردات الراغب؛ السجود في الأصل: التطامن والتذلل، وجعل ذلك عبارة عن التذلل لله تعالى وعبادته، وهو عام في الإنسان والحيوان والجماد. وذلك ضربان؛ سجود باختيار يكون للإنسان وبه يستحق الثواب، وسجود بتسخير يكون للإنسان وغيره من الحيوانات والنباتات. وخص في الشريعة بالركن المعروف من الصلاة وما جرى مجراه من سجود التلاوة وسجود الشكر.انتهى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإذا كان الناس بتفكيرهم ونزعاتهم وميولهم، فإن الكون كله -فيما عداهم- يتجه بفطرته إلى خالقه، يخضع لناموسه، ويسجد لوجهه...
ويتدبر القلب هذا النص، فإذا حشد من الخلائق مما يدرك الإنسان ومما لا يدرك. وإذا حشد من الأفلاك والأجرام. مما يعلم الإنسان ومما لا يعلم. وإذا حشد من الجبال والشجر والدواب في هذه الأرض التي يعيش عليها الإنسان.. إذا بتلك الحشود كلها في موكب خاشع تسجد كلها لله، وتتجه إليه وحده دون سواه. تتجه إليه وحده في وحدة واتساق. إلا ذلك الإنسان فهو وحده الذي يتفرق: (وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب) فيبدو هذا الإنسان عجيبا في ذلك الموكب المتناسق.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
دلائل أحوال المخلوقات كلها عاقِلها وجمادها شاهدة بتفرد الله بالإلهية. وفي تلك الدلالة شهادة على بطلان دعوة من يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه. والرؤية: علمية. والخطاب لغير معين. والاستفهام إنكاريّ. أنكر على المخاطبين عدم علمهم بدلالة أحوال المخلوقات على تفرد الله بالإلهية. ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والاستفهام تقريرياً، لأنّ حصول علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك متقرّر من سورة الرعد وسورة النحل، وهذا موضع سجود من سجود القرآن باتفاق الفقهاء.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
والصلة كذلك غير منقطعة بين هذه الآية وما قبلها وبخاصة الآية السابقة لها مباشرة كما هو المتبادر. وهي بسبيل التدليل على عظمة الله وشمول حكمه، وخضوع من في الكون له، وتوكيد كون الدعوة النبوية هي المتسقة مع واجب الإنسان بالاعتراف بالله وحده والاتجاه إليه وحده. وهي كذلك بسبيل تطمين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وتثبيتهم، والتنديد بالمنحرفين عن الطريق القويم وإنذارهم بالخزي وسوء العاقبة. وأسلوبها قوي نافذ.
قوله تعالى: {ألم تر} يعني: ألم تعلم، لأن السجود من هذه الأشياء سجود على حقيقته كما نعلمه في السجود من أنفسنا، ولكل جنس من أجناس الكون سجود يناسبه.
وسبق أن تحدثنا عن أجناس الكون وهي أربعة: أدناها الجماد، ثم يليه النبات، حيث يزيد عليه خاصية النمو وخاصية الحركة، ثم يليه الحيوان الذي يزيد خاصية الإحساس، ثم يليه الإنسان ويزيد عليه خاصية الفكر والاختيار بين البدائل...
البعض يقول عن سجود هذه المخلوقات أنه سجود دلالة، لا سجودا على حقيقته، لكن هذا القول يعارضه قول الله تعالى: {كل قد علم صلاته وتسبيحه} [النور 41].
فلكل مخلوق مهما صغر صلاة وتسبيح وسجود، يتناسب وطبيعته، إنك لو تأملت سجود الإنسان بجبهته على الأرض لوجدت اختلافا بين الناس باختلاف الأحوال، وهم نوع واحد، فسجود الصحيح غير سجود المريض الذي يسجد وهو على الفراش، أو جالس على مقعد، وربما يشير بعينه، أو أصبعه للدلالة على السجود، فإن لم يستطع أجرى السجود على خاطره.
فإذا كان السجود يختلف بهذه الصورة في الجنس الواحد حسب حاله وقدرته وطاقته، فلماذا نستبعد أن يكون لكل جنس سجوده الخاص به، والذي يتناسب مع طبيعته؟...
{ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} لأن أحقية العذاب من مساو لك. قد يأتي من هو أقوى منه فيمنعه، أو يأتي شافع يشفع له، وكأن الحق- سبحانه وتعالى- ييئس هؤلاء من النجاة من عذابه، فلن يمنعهم أحد. فمن أراد الله إهانته فلن يكرمه أحد، لا بنصرته ولا بالشفاعة له...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
كيف يريد الله لنا أن نجسّد عظمته في وعينا الفكري والروحي والعملي، لنتمثلها ونعيشها في إيماننا به؟ إنه يريدنا أن نتطلع إلى خلقه، لنرى المخلوقات كلها تمارس العبادة والخشوع أمامه بطرق متنوعة، تختلف أشكالها وأوضاعها تبعاً لاختلاف طبيعة هذه المخلوقات. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن في السَّمَوَاتِ وَمَن في الأرض} من مخلوقات عاقلةٍ وغير عاقلة عبر خضوعها المطلق له، وانفعالها بجلال عظمته، {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} اللذان يجريان وفق النظام الكوني الموضوع لهما من قبل الله، هذا النظام الحاكم حركة الإنسان والحياة، {وَالنُّجُومُ} التي تتلألأ في السماء، فتبدو كما لو أنها مصابيح معلّقة في الفضاء، ولكنها في الواقع أكوان فسيحة تختلف في طبيعتها وأشكالها وخصائصها، ولكنها لا تختلف في خضوعها لله، عبر ما أودعه فيها من قوانين ونظم كونية، يتجلى فيه السجود الكونيّ له، {وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ} الذي يهتز فيه الورق ويخضرّ، وتنمو فيه الثمرة وتنضج، وتعلو فيه الأغصان وتتمدّد، وينطلق فيه جذعها ويرتفع في الفضاء، في موسم معيّن، للاخضرار، وللنموّ، وللقطاف، ضمن تخطيطٍ إِلهيٍّ كامل لا يبتعد عنه ولو مقدار شعرة.. {والدواب} التي يمشي بعضها على أربع، ويزحف بعضها على بطنه، ضمن إلهام إلهيّ حدّد لها حركة الحياة وأخضعها لخط سير محدد يمثل سجوداً واقعياً بأكثر من طريقةٍ وطريقة.. {وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} الذين آمنوا بالله فكراً وشعوراً وحركة حياةٍ، فعفّروا جباههم ووجوههم بالتراب على صورة ما يعنيه السجود في حياة الإنسان. حق العذاب على العاصين {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} ممن تمردوا على الله فلم يؤمنوا به، ولم يطيعوه، ولم يخضعوا له، ولم يسجدوا بين يديه، استكباراً وجهلاً، فأهانهم الله بالعذاب الذي يذيقهم إيّاه يوم القيامة جزاءً على انحرافهم، دون أية حجةٍ لهم في ذلك كله، {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} لأن إكرام الله هو الإكرام، فهو الذي يملك الأمر كله، والقيمة كلها، فلا قيمة لإِكرام غيره في الشكل والمضمون والامتداد، لأن غيره لا يملك لنفسه أيّة قيمةٍ أو كرامةٍ إلا بالله.. {إِ نَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يشاء} في ما يكرم به عباده المؤمنين به المطيعين له، أو في ما يهين به عباده الكافرين به العاصين له.. الذين يرفضون السجود له في كل وجودهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
جاء في القرآن المجيد ذكر «السجود العامّ» لجميع المخلوقات في العالم، وكذا «التسبيح» و «الحمد» و «الصلاة»، وأكّد القرآن الكريم على أنّ هذه العبادات الأربع، لا تختص بالبشر وحدهم، بل يشاركهم فيها حتّى الموجودات التي تبدو عديمة الشعور...
إنّ للموجودات مع ملاحظة ما ورد في الآية موضع البحث شكلين من السجود «سجود تكويني» و «سجود تشريعي». فالسجود التكويني هو الخضوع والتسليم لإرادة الله ونواميس الخلق والنظام المسيطر على هذا العالم دون قيد أو شرط، وهو يشمل ذرّات المخلوقات كلّها، حتّى أنّه يشمل خلايا أدمغة الفراعنة والمنكرين العنودين وذرّات أجسامهم فالجميع يسجدون لله تعالى تكويناً. وحسبما يقوله عدد من الباحثين، فإنّ ذرّات العالم كلّها لها نوع من الإدراك والشعور، ولذا يسبّحون الله ويحمدونه ويسجدون له ويصلّون له بلسانهم الخاص... أمّا «السجود التشريعي» فهو غاية الخضوع من العقلاء المدركين العارفين لله سبحانه ...
... إنّ سجود الشمس والقمر والنجوم والجبال والأشجار والأحياء تكويني، وسجود البشر تشريعي يؤدّيه ناس ويأباه آخرون، فصدق فيهم القول: (و كثير حقّ عليه العذاب)...