قوله تعالى : { ولسليمان الريح } أي : وسخرنا لسليمان الريح ، وقرأ أبو بكر عن عاصم : الريح بالرفع أي : له تسخير الريح ، { غدوها شهر ورواحها شهر } أي : سير غدو تلك الريح المسخرة له مسيرة شهر ، وسير رواحها مسيرة شهر ، وكانت تسير به في يوم واحد مسيرة شهرين . قال الحسن : كان يغدو من دمشق فيقيل باصطخر وبينهما مسيرة شهر ، ثم يروح من اصطخر فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع . وقيل : إنه كان يتغذى بالري ويتعشى بسمرقند . { وأسلنا له عين القطر } أي : أذبنا له عين النحاس ، والقطر : النحاس . قال أهل التفسير : أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء ، وكان بأرض اليمن ، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان . { ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه } بأمر ربه ، قال ابن عباس : سخر الله الجن لسليمان وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به ، { ومن يزغ } أي : يعدل ، { منهم } من الجن ، { عن أمرنا } الذي أمرنا به من طاعة سليمان ، { نذقه من عذاب السعير } في الآخرة ، وقال بعضهم : في الدنيا وذلك أن الله عز وجل وكل بهم ملكاً بيده سوط من نار فمن زاغ منهم عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته .
هذا ما أعطاه الله - تعالى - لنبيه داود من فضل ، أما نبيه سليمان بن داود ، فقد أعطاه - سبحانه - أفضالا أخرى ، عبر عنها فى قوله - تعالى - : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } .
والغدوة والغداة : أول النهار إلى الزوال . والرواح من الزوال إلى الغروب .
والمعنى : وسخرنا لنبينا سليمان بن داود - عليهما السلام - الريح ، تجرى بأمره فى الغدوة الواحدة مسيرة شهر ، وتعود بأمره فى الروحة الواحدة مسيرة شهر . أى : أنها لسرعتها تقطع فى مقدار الغدوة الواحدة ما يقطعه الناس فى شهر من الزامن ، وكذلك الحال بالنسبة للروحة الواحدة ، وهى فى كل مرة تسير بأمر سليمان ، ووفق إرادته التى منحه الله - تعالى - إياها .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا } وقوله - سبحانه - : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } ثم بين - تعالى - نعمة ثانية من النعم التى أنعم بها على سليمان فقال : { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر } .
والقطر : هو النحاس المذاب . مأخوذ من قطَر الشئ يَقْطُر قَطْراً وقطَرانا ، إذا سال .
أى : كما ألنا لداود الحديد ، أسلنا لابنه سليمان النحاس وجعلناه مذابا ، فكان يستعمله فى قضاء مصالحه ، كما يستعمل الماء ، وهذا كله بفضلنا وقدرتنا .
ثم بين - سبحانه - نعمة ثالثة أنعم بها على سليمان - عليه السلام - فقال : { وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } .
أى : وسخرنا له من الجن من يكونون فى خدمته ، ومن يعملون بين يديه ما يريده منهم ، وهذا كله بأمرنا ومشيئتنا وقدرتنا .
{ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا } أى : من ينحرف من هؤلاء الجن عما أمرناه به من طاعة سليمان ، { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير } أى : ننزل به عذابنا الأليم ، الذى يذله ويخزيه فى الدنيا والآخرة .
لما ذكر تعالى ما أنعم به على داود ، عطف بذكر ما أعطى ابنه سليمان{[24175]} ، من تسخير الريح له تحمل بساطه ، غدوها شهر ورواحها شهر .
قال الحسن البصري : كان يغدو على بساطه من دمشق فينزل بإصطخر يتغذّى{[24176]} بها ، ويذهب رائحا من إصطخر فيبيت بكابل ، وبين دمشق وإصطخر شهر كامل للمسرع ، وبين إصطخر وكابل شهر كامل للمسرع .
وقوله : { وَأَسَلْنَا لَهُ{[24177]} عَيْنَ الْقِطْرِ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء الخراساني ، وقتادة ، والسدي ، ومالك عن زيد بن أسلم ، و{[24178]} عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد : القطر : النحاس . قال قتادة : وكانت باليمن ، فكل ما يصنع الناس مما أخرج الله تعالى لسليمان ، عليه السلام .
قال السدي : وإنما أسيلت له ثلاثة أيام .
وقوله : { وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي : وسخرنا له الجن يعملون بين يديه بإذن الله ، أي : بقدره {[24179]} ، وتسخيره لهم بمشيئته ما يشاء من البنايات وغير ذلك . { وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا } أي : ومَنْ يعدل ويخرج منهم عن الطاعة { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ } وهو الحريق .
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبا فقال : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جبير بن نُفَير{[24180]} ، عن أبي ثعلبة الخُشَنيّ ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «الجن على ثلاثة أصناف : صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء ، وصنف حيات وكلاب ، وصنف يحلون ويظعنون » . رفعه غريب جدًا . {[24181]}
وقال{[24182]} أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا حَرْمَلة ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني بكر{[24183]} بن مُضَر ، عن محمد ، عن ابن أنعم أنه قال : الجن ثلاثة : صنف لهم الثواب وعليهم العقاب ، وصنف طيارون فيما بين السماء والأرض ، وصنف حيات وكلاب .
قال بكر بن مضر : ولا أعلم إلا أنه قال : حدثني أن الإنس ثلاثة{[24184]} : صنف يظلهم الله بظل عرشه يوم القيامة . وصنف كالأنعام بل هم أضل سبيلا . وصنف في صُوَر الناس على قلوب الشياطين .
وقال أيضا{[24185]} : حدثنا أبي : حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق حدثنا سلمة - يعني ابن الفضل - عن إسماعيل ، عن الحسن{[24186]} قال : الجن ولد إبليس ، والإنس ولد آدم ، ومن هؤلاء مؤمنون ومن هؤلاء مؤمنون ، وهم شركاؤهم في الثواب والعقاب ، ومَنْ كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولي الله ، ومَنْ كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان .
{ ولسليمان الريح } أي وسخرنا له الريح ، وقرئ { الريح } بالرفع أي ولسليمان الريح مسخرة وقرئ " الرياح " { غدوها شهر ورواحها شهر } جريها بالغداة مسيرة شهر وبالعشي كذلك ، وقرئ " غدوتها " " وروحتها " . { وأسلنا له عين القطر } النحاس المذاب أساله من معدنه فنبع منه نبوع الماء من الينبوع ، ولذلك سماه عينا وكان ذلك باليمن . { ومن الجن من يعمل بين يديه } عطف على { الريح } { ومن الجن } حال مقدمة ، أو جملة { من } مبتدأ وخبر . { بإذن ربه } بأمره . { ومن يزغ منهم } ومن يعدل منهم . { عن أمرنا } عما أمرناه من طاعة سليمان ، وقرئ { يزغ } من أزاغه . { نذقه من عذاب السعير } عذاب الآخرة .
قال الحسن : عقر سليمان الخيل أسفاً على ما فوتته من فضل وقت صلاة العصر فأبدله الله تعالى خيراً منها وأسرع الريح تجري بأمره{[9611]} ، وقرأ جمهور القراء «الريحَ » بالنصب على معنى ولسليمان سخرنا الريح ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر والأعرج «الريحُ » بالرفع على تقديره تسخرت الريح أو على الابتداء والخبر في المجرور ، وذلك على حذف مضاف تقديره ولسليمان تسخير الريح ، وقرأ الحسن «ولسليمان تسخير الرياح » وكذلك جمع في كل القرآن ، وقوله تعالى : { غدوها شهر ورواحها شهر } قال قتادة معناه أنها كانت تقطع به في الغدو إلى قرب الزوال مسيرة وتقطع به في الرواح من بعد الزوال إلى الغروب مسيرة شهر ، فروي عن الحسن البصري أنه قال كان يخرج من الشام من مستقره بتدمر التي بنتها له الجن بالصفاح والعمد فَيقيل في اصطخر ويروح منها فيبيت في كابل من أرض خراسان ونحو هذا ، وكانت الأعصار تقل بساطه وتحمله بعد ذلك الرخاء ، وكان هذا البساط من خشب يحمل فيما روي أربعة آلاف فارس وما يشبهها من الرجال والعدد ويتسع بهم ، وروي أكثر من هذا بكثير ولكن عدم صحته مع بعد شبهه أوجب اختصاره .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خير الجيوش أربعة آلاف »{[9612]} وما كان سليمان ليعدو الخير ، وقرأ ابن أبي عبلة «غدوتها شهر وروحتها شهر »{[9613]} وكان إذا أراد قوماً لم يشعروا به حتى يظلمهم في جو السماء ، وقوله تعالى : { وأسلنا له عين القطر } ، روي عن ابن عباس وقتادة أنه كانت تسيل له باليمن عين جارية من نحاس يصنع له منها جميع ما أحب ، و { القطر } : النحاس ، وقالت فرقة { القطر } الفلز كله النحاس والحديد وما جرى مجراه ، كان يسيل له منه عيون ، وقالت فرقة بل معنى { أسلنا له عين القطر } أذبنا له النحاس عن نحو ما كان الحديد يلين لداود ، قالوا وكانت الأعمال تتأتى منه لسليمان وهو بارد دون نار ، و { عين } على هذا التأويل بمعنى الذات ، وقالوا لم يلن النحاس ولاذاب لأحد قبله ، وقوله { من يعمل } يحتمل أن { من } تكون في موضع نصب على الاتباع لما تقدم بإضمار فعل تقديره وسخرنا من الجن من يعمل ، ويحتمل أن تكون في موضع رفع على الابتداء والخبر في المجرور ، و { يزغ } معناه يمل أي ينحرف عاصياً ، وقال { عن أمرنا } يقل عن إرادتنا لأنه لا يقع في العالم شيء يخالف الإرادة ، ويقع ما يخالف الأمر ، قال الضحاك وفي مصحف عبد الله «ومن يزغ عن أمرنا » بغير { منهم } ، وقوله تعالى : { من عذاب السعير } قيل عذاب الآخرة ، وقيل بل كان قد وكل بهم ملك وبيده سوط من نار السعير ، فمن عصى ضربه فأحرقه به .