البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلِسُلَيۡمَٰنَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهۡرٞ وَرَوَاحُهَا شَهۡرٞۖ وَأَسَلۡنَا لَهُۥ عَيۡنَ ٱلۡقِطۡرِۖ وَمِنَ ٱلۡجِنِّ مَن يَعۡمَلُ بَيۡنَ يَدَيۡهِ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَمَن يَزِغۡ مِنۡهُمۡ عَنۡ أَمۡرِنَا نُذِقۡهُ مِنۡ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ} (12)

سال ، من سال الوادي والدمع : جرى لسرعة ما فيه من الماء والدمع .

القطر : النحاس ، وقيل : الفلز النحاس والحديد وما جرى مجراه .

{ ولسليمان الريح } ، قال الحسن : عقر سليمان الخيل على ما فوتته من صلاة العصر ، فأبدله الله خيراً منها ، وأسرع الريح تجري بأمره .

وقرأ الجمهور : الريح بالنصب ، أي ولسليمان سخرنا الريح ؛ وأبو بكر : بالرفع على الابتداء ، والخبر في المجرور ، ويكون الريح على حذف مضاف ، أي تسخير الريح ، أو على إضمار الخبر ، أي الريح مسخرة .

وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وخالد بن الياس : الرياح ، بالرفع جمعاً .

وقال قتادة : كانت تقطع في الغدو إلى قرب الزوال مسيرة شهر ، وفي الرواح من بعد الزوال إلى الغروب مسيرة شهر .

وقال الحسن : فخرج من مستقره بالشام يريد تدمر التي بنتها الجن بالصفاح والعمد ، فيقيل في أصطخر ويروح منها فيبيت في كابل من أرض خراسان .

والغدو ليس الشهر هو على حذف مضاف ، أي جري غدوها ، أي جريها في الغدو مسيرة شهر ، وجري رواحها ، أي جريها في الرواح مسيرة شهر .

وأخبر هنا في الغدو عن الرواح بالزمان وهو شهر ، ويعني شهراً واحداً كاملاً ، ونصب شهر جائز ، ولكنه لم يقرأ به فيما أعلم .

وقرأ ابن أبي عبلة : غدوتها وروحتها على وزن فعلة ، وهي المرة الواحدة من غدا وراح .

وقال وهب : كان مستقر سليمان ، عليه السلام ، بتدمر ، وكانت الجن قد بنتها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأشقر ، وفيه يقول النابغة :

ألا سليمان قد قال الإله له *** قم في البرية فاصددها عن العبد

وجيش الجن إني قد أذنت لهم *** يبنون تدمر بالصفاح والعمد

ووجدت أبياتاً منقورة في صخرة بأرض يشكر شاهدة لبعض أصحاب سليمان ، عليه السلام ، وهي :

ونحن ولا حول سوى حول ربنا *** نروح من الأوطان من أرض تدمر

إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا *** مسيرة شهر والغدو لآخر

أناس أعز الله طوعاً نفوسهم *** بنصر ابن داود النبي المطهر

لهم في معاني الدين فضل ورفعة *** وإن نسبوا يوماً فمن خير معشر

وإن ركبوا الريح المطيعة أسرعت *** مبادرة عن يسرها لم تقصر

تظلهم طير صفوف عليهم *** متى رفرفت من فوقهم لم تنشر

انتهى ما حكى وهب .

{ وأسلنا له عين القطر } : الظاهر أنه جعله له في معدنه عيناً تسيل كعيون الماء ، دلالة على نبوته .

قال قتادة : يستعملها فيما يريد .

وعن ابن عباس ومجاهد والسدي : أجريت له ثلاثة أيام بلياليهن ، وكانت بأرض اليمن .

قال مجاهد : سالت من صنعاء ، ولم يذب النحاس فيما روي لأحد قبله ، وكان لا يذوب .

وقالت فرقة : المعنى أذبنا له النحاس على نحو ما كان الحديد يلين لداود ، عليه السلام .

قالوا : وكانت الأعمال تتأتى منه ، وهو بارد دون نار ، وعين بمعنى الذات .

وقالوا : لم يكن أولاً ذاب لأحد قبله .

وقال الزمخشري : أراد بها معدن النحاس نبعاً له ، كما ألان الحديد لداود ، فنبع كما ينبع الماء من العين ، فلذلك سماه عين القطر باسم ما آل إليه ، كما قال : { إني أراني أعصر خمراً } انتهى ويحتمل { من يعمل } أن يكون في موضع نصب ، أي وسخرنا من الجن من يعمل ، وأن يكون في موضع رفع على الابتداء ، وخبره في الجار والمجرور قبله { بإذن ربه } لقوله : { ومن يزغ منهم عن أمرنا } .

وقرأ الجمهور : يزغ مضارع زاغ ، أي ومن يعدل عن أمرنا الذي أمرناه به من طاعة سليمان .

وقرىء : يزغ بضم الياء من أزاغ : أي ومن بمل ويصرف نفسه عن أمرنا .

{ وعذاب السعير } : عذاب الآخرة ، قاله ابن عباس .

وقال السدي : كان معه ملك بيده سوط من نار ، كلما استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجني .

ولبعض الباطنية ، أو من يشبههم ، تحريف في هذه الجمل .

إن تسبيح الجبال هو نوع قوله : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } وإن تسخير الريح هو أنه راض الخيل وهي كالريح ، وإن { غدوها شهر } يكون فرسخاً ، لأن من يخرج للتفرج لا يسير في غالب الأمر أشد من فرسخ .

وإلانة الحديد وإسالة القطر هو استخراج ذوبهما بالنار واستعمال الآلات منهما .

{ ومن الجن } : هم ناس من بني آدم أقوياء شبهوا بهم في قواهم ، وهذا تأويل فاسد وخروج بالجملة عما يقوله أهل التفسير في الآية ، وتعجيز للقدرة الإلهية ، نعوذ بالله من ذلك .