اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلِسُلَيۡمَٰنَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهۡرٞ وَرَوَاحُهَا شَهۡرٞۖ وَأَسَلۡنَا لَهُۥ عَيۡنَ ٱلۡقِطۡرِۖ وَمِنَ ٱلۡجِنِّ مَن يَعۡمَلُ بَيۡنَ يَدَيۡهِ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَمَن يَزِغۡ مِنۡهُمۡ عَنۡ أَمۡرِنَا نُذِقۡهُ مِنۡ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ} (12)

ثم لما ذكر المنيب الواحد ذكر منيباً آخر وهو سليمانُ كقوله تعالى : { وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } [ ص : 34 ] ذكر ما استفاد من الإنابة وهو قوله تعالى : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح } العامة على النصب بإضمار فعل ، أي سَخَّرنَا لِسُلَيْمانَ ، وأبو بكر بالرفع على الابتداء{[44227]} ، والخبر في الجار قبله أو محذوف{[44228]} ، وجوز أبو البقاء أن يكون فاعلاً يعني{[44229]} بالجار ، وليس بقويّ{[44230]} لعدم اعتماده{[44231]} وكان قد وافقه في الأنبياء{[44232]} غيره{[44233]} ، وقرأ العامة الرِّيحَ بالإفراد . والحَسَنُ وأبو حَيْوَةَ ، وخالدُ بْنُ إلْيَاسَ{[44234]} الرِّيَاح جمعاً . وتقدم في الأنبياء أن الحسن يقرأ مع ذلك بالنصب وهنا لم ينقل له ذلك .

فإن قيلَ : الواو في قوله : «وَلِسُلَيْمَانَ » للعطف فعلى قراءة الرفع يصير عطفاً للجملة الاسمية على فعلية وهو لا يجوز أوْ لاَ يَحْسُنُ ؟

فالجواب : أنه لما بين حال داود فكأنه قال : لما ذكرنا لداود ولسليمان الريح وإما على النصب على قوله : { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } ( كأنه قال وألنا لداودَ الحديدَ ){[44235]} وسخرنا لسليمان الريح{[44236]} .

قوله : { غُدُوُّهَا شَهْرٌ } مبتدأ وخبر ولا بد من حذف مضاف أي غُدُوُّهَا مَسِيرةُ شَهرٍ أو مقدارُ غُدُوِّهَا شَهْرٌ ، ولو نصب لجاز ، إلا أنه لم يُقْرأ بها{[44237]} فيما علمنا{[44238]} ، وقرأ ابن أبي عبلة غَدْوَتُهَا وروحتُها على المرّة{[44239]} ، والجملة إما مستأنفة ، وإما في محلِّ حالٍ{[44240]} .

فصل

المعنى غُدُوُّ تلك الريح المستمرة له مسيرةُ شهر ، وسير{[44241]} رواحها شهر فكانت تسير به في يوم واحد مسيرةَ شهرين . قال الحسن : كان يَغْدُو من دمشقَ فيقيل بإصطخر ( وبينهما مسيرة{[44242]} شهر ، ثم يَرُوحُ من إصطخر فيبيت بكَابُل ) وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع{[44243]} ، وقيل : كان يتغذى بالرِّيِّ ويتعشى بسمرقَنْدَ{[44244]} .

فإن قيل : ما الحكمة في قوله في الجبال معَ داوُودَ الجِبَالَ وفي الأنبياء وفي هذه السورة فقال : يا جبال أوبي معه وقال في الريح هناك وههنا : لسليمان باللام ؟

فالجواب : أن الجبال لما سبَّحت شَرفت بذكر الله فلم يُضِفْها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحب والريح لم يذكر تسبيحها فجعلها كالمملوكة لَهُ{[44245]} .

قوله : { وأسلنا له عين القطر } أي أذبْنَا له عين النُّحاس . والقِطْرُ : النحاسُ{[44246]} ، قال المفسرون : أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليها كجَرْي المياه . وكان بأرضِ اليمن . وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليْمَانَ{[44247]} .

قوله : { مَنْ يَعْمَلُ } يجوز أن يكون مرفوعاً بالابتداء وخبره في الجار قبله أي مِنَ الجِنِِّ مَنْ يَعْمَلُ وأن يكون في موضع نصب بفعل مقدر أي وسَخَّرْنَا لَهُ مَنْ يَعْمَلُ{[44248]} و «مِنَ الجِنِّ » يتعلق بهذا المقدر ، أو بمحذوف على أنه حال أو بيان ، و «بإذن » حال أي مُيسّراً بإذن ربه{[44249]} ، والإذن مصدر مضاف لفاعله ، وقرئ : «وَمَنْ يَزُغْ » بضم الياء من أَزَاغَ ومفعوله محذوف أي يَزُغْ نَفْسَهُ{[44250]} ، أي يُمِيلُها و «مِنْ عَذَابٍ » لابتداء الغاية أو للتبعيض .

فصل

قال ابن عباس : سخر الله الجنَّ لسليمانَ وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به ، ومن يزُغ يعدل منهم من الجن عن أمرنا الذي أمرنا به من طاعة سليمان نُذِقْه مِنْ عَذَابِ السَّعير في الآخرة{[44251]} ، وقيل : في الدنيا{[44252]} وذلك أن الله وكل بهم ملكاً بيده سَوْطٌ من نارٍ فمن زاغ منهم عن أمر سليمان ضربه ضربةً أحْرَقَتْهُ .


[44227]:ذكره في الكشف 2/207 والنشر 2/335 والإتحاف 358 والسبعة 527.
[44228]:ذكره ابن الأنباري في البيان 2/276 وأبو البقاء في التبيان 1064 والزجاج في معاني القرآن وإعرابه 4/245 والفراء في معاني القرآن 2/356 ذكر الرفع قراءة ولم يحدد.
[44229]:المرجع السابق وقد جعله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه فاعلا لفعل محذوف 4/245 قال: "والرفع على معنى ثبت له الريح".
[44230]:الدر المصون 4/418.
[44231]:أي على نفي أو استفهام، كقولنا: أقائم الزيدان، أو ما قائم الزيدان، أو يريد بعدم اعتماده يعني عدم معرفة اللغة والقياس به.
[44232]:يقصد قوله: {ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره} وهي الآية 81 من الأنبياء.
[44233]:لعله ابن هرمز في رواية عنه البحر المحيط 6/332.
[44234]:ويقال: إياس بن صخر بن أبي الجهم عبيد بن حذيفة أبو الهيثم العدوي المدني روى عن ربيعة، وسعد المقري. لم تذكر وفاته انظر: التهذيب 3/80 وانظر القراءة في مختصر ابن خالويه 123 والإتحاف 358 وزاد المسير 6/438.
[44235]:سقط من "ب".
[44236]:قاله الرازي في التفسير الكبير 25/247.
[44237]:في "ب" به بالتذكير وكلتاهما صحيحتان.
[44238]:قاله أبو حيان والمين في تفسيريهما الأول في البحر 7/264، والثاني في الدر 4/418.
[44239]:المرجعان السابقان وجاء بها صاحب الكشاف ولم يعزها إلى معين. انظر: الكشاف 3/282، بينما عزاها الكرماني في شواذ القرآن لابن أبي عبلة. الشواذ 1296، وهي من القراءات الشاذة.
[44240]:ذكر وجه الاستئناف مكي في المشكل 2/204، بينما ذكر وجه الحالية أبو البقاء في التبيان 1064 و 1065 وإنما احتيج إلى تقدير مضاف لأن الغدو والرواح ليسا بالشهر وإنما يكونان فيه.
[44241]:في "ب" مسيرة.
[44242]:ما بين القوسين سقط من "ب".
[44243]:في "ب" المسرح.
[44244]:تفسير البغوي 6/284.
[44245]:الفخر الرازي 25/247.
[44246]:غريب القرآن 354 ومجازه لأبي عبيدة 2/143.
[44247]:انظر: زاد المسير 6/438 والخازن والبغوي 5/284 والقرطبي 14/270.
[44248]:قاله أبو البقاء في التبيان 1065، وابن الأنباري في البيان 2/276 و 277. والأخفش يجيز أن يكون "من يعمل" في موضع رفع بالجار والمجرور، انظر: البيان المرجع السابق، وقيل: "من" في موضع نصب على العطف على معمول "سخرنا له من الجن من يعمل" . انظر مشكل الإعراب لمكي 2/205.
[44249]:الدر المصون 4/419.
[44250]:قال عنهما ابن خالويه في المختصر 121: "ومن يزغ" بعضهم. وأطلقت كلية في البحر 7/265 والكشاف 3/282 دون ضبط.
[44251]:هذا رأي الضحاك.
[44252]:هذا رأي مقاتل انظر: زاد المسير 6/439.