ثم لما ذكر المنيب الواحد ذكر منيباً آخر وهو سليمانُ كقوله تعالى : { وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } [ ص : 34 ] ذكر ما استفاد من الإنابة وهو قوله تعالى : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح } العامة على النصب بإضمار فعل ، أي سَخَّرنَا لِسُلَيْمانَ ، وأبو بكر بالرفع على الابتداء{[44227]} ، والخبر في الجار قبله أو محذوف{[44228]} ، وجوز أبو البقاء أن يكون فاعلاً يعني{[44229]} بالجار ، وليس بقويّ{[44230]} لعدم اعتماده{[44231]} وكان قد وافقه في الأنبياء{[44232]} غيره{[44233]} ، وقرأ العامة الرِّيحَ بالإفراد . والحَسَنُ وأبو حَيْوَةَ ، وخالدُ بْنُ إلْيَاسَ{[44234]} الرِّيَاح جمعاً . وتقدم في الأنبياء أن الحسن يقرأ مع ذلك بالنصب وهنا لم ينقل له ذلك .
فإن قيلَ : الواو في قوله : «وَلِسُلَيْمَانَ » للعطف فعلى قراءة الرفع يصير عطفاً للجملة الاسمية على فعلية وهو لا يجوز أوْ لاَ يَحْسُنُ ؟
فالجواب : أنه لما بين حال داود فكأنه قال : لما ذكرنا لداود ولسليمان الريح وإما على النصب على قوله : { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } ( كأنه قال وألنا لداودَ الحديدَ ){[44235]} وسخرنا لسليمان الريح{[44236]} .
قوله : { غُدُوُّهَا شَهْرٌ } مبتدأ وخبر ولا بد من حذف مضاف أي غُدُوُّهَا مَسِيرةُ شَهرٍ أو مقدارُ غُدُوِّهَا شَهْرٌ ، ولو نصب لجاز ، إلا أنه لم يُقْرأ بها{[44237]} فيما علمنا{[44238]} ، وقرأ ابن أبي عبلة غَدْوَتُهَا وروحتُها على المرّة{[44239]} ، والجملة إما مستأنفة ، وإما في محلِّ حالٍ{[44240]} .
المعنى غُدُوُّ تلك الريح المستمرة له مسيرةُ شهر ، وسير{[44241]} رواحها شهر فكانت تسير به في يوم واحد مسيرةَ شهرين . قال الحسن : كان يَغْدُو من دمشقَ فيقيل بإصطخر ( وبينهما مسيرة{[44242]} شهر ، ثم يَرُوحُ من إصطخر فيبيت بكَابُل ) وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع{[44243]} ، وقيل : كان يتغذى بالرِّيِّ ويتعشى بسمرقَنْدَ{[44244]} .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله في الجبال معَ داوُودَ الجِبَالَ وفي الأنبياء وفي هذه السورة فقال : يا جبال أوبي معه وقال في الريح هناك وههنا : لسليمان باللام ؟
فالجواب : أن الجبال لما سبَّحت شَرفت بذكر الله فلم يُضِفْها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحب والريح لم يذكر تسبيحها فجعلها كالمملوكة لَهُ{[44245]} .
قوله : { وأسلنا له عين القطر } أي أذبْنَا له عين النُّحاس . والقِطْرُ : النحاسُ{[44246]} ، قال المفسرون : أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليها كجَرْي المياه . وكان بأرضِ اليمن . وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليْمَانَ{[44247]} .
قوله : { مَنْ يَعْمَلُ } يجوز أن يكون مرفوعاً بالابتداء وخبره في الجار قبله أي مِنَ الجِنِِّ مَنْ يَعْمَلُ وأن يكون في موضع نصب بفعل مقدر أي وسَخَّرْنَا لَهُ مَنْ يَعْمَلُ{[44248]} و «مِنَ الجِنِّ » يتعلق بهذا المقدر ، أو بمحذوف على أنه حال أو بيان ، و «بإذن » حال أي مُيسّراً بإذن ربه{[44249]} ، والإذن مصدر مضاف لفاعله ، وقرئ : «وَمَنْ يَزُغْ » بضم الياء من أَزَاغَ ومفعوله محذوف أي يَزُغْ نَفْسَهُ{[44250]} ، أي يُمِيلُها و «مِنْ عَذَابٍ » لابتداء الغاية أو للتبعيض .
قال ابن عباس : سخر الله الجنَّ لسليمانَ وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به ، ومن يزُغ يعدل منهم من الجن عن أمرنا الذي أمرنا به من طاعة سليمان نُذِقْه مِنْ عَذَابِ السَّعير في الآخرة{[44251]} ، وقيل : في الدنيا{[44252]} وذلك أن الله وكل بهم ملكاً بيده سَوْطٌ من نارٍ فمن زاغ منهم عن أمر سليمان ضربه ضربةً أحْرَقَتْهُ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.