قوله تعالى : { والذين جاؤوا من بعدهم } يعني التابعين وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ، ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان والمغفرة ، فقال : { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً } غشاً وحسداً وبغضاً ، { للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } ، فكل من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية ، لأن الله تعالى رتب المؤمنين على ثلاثة منازل : المهاجرين والأنصار والتابعين الموصوفين بما ذكر ، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجاً من أقسام المؤمنين . قال ابن أبي ليلى : الناس على ثلاثة منازل : المهاجرين ، والذين تبوؤوا الدار والإيمان ، والذين جاؤوا من بعدهم ، فاجتهد أن لا تكون خارجاً من هذه المنازل ، أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا عبد الله بن حامد ، أنبأنا أحمد بن عبد الله بن سليمان حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا أبو إسماعيل بن إبراهيم عن عبد الملك بن عمير عن مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : " أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فسببتموهم سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها " . وقال مالك ابن مغول : قال عامر بن شرحبيل الشعبي : يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة ، سئلت اليهود : من خير أهل ملتكم ؟ فقالت : أصحاب موسى عليه السلام . وسئلت النصارى : من خير أهل ملتكم ؟ فقالوا : حواري عيسى عليه السلام . وسئلت الرافضة : من شر أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، كالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة ، لا تقوم لهم راية ولا يثبت لهم قدم ، ولا تجتمع لهم كلمة ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وإدحاض حجتهم ، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة . قال مالك بن أنس : من يبغض أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين ، ثم تلا : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } حتى أتى على هذه الآية : { للفقراء المهاجرين والذين تبوؤوا الدار والإيمان والذين جاؤوا من بعدهم } إلى قوله : { رؤوف رحيم } .
ثم مدح - سبحانه - كل من سار على نهج المهاجرين والأنصار فى قوة الإيمان ، وفى طهارة القلب ، وسماحة النفس فقال - تعالى - : { والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ . . } عطف عند الأكثرين أيضا على المهاجرين ، والمراد بهؤلاء : قيل : الذين هاجروا حين قوة الإسلام ، فالمجىء حسى ، وهو مجيئهم إلى المدينة ، وضمير من بعدهم ، للمهاجرين الأولين .
وقيل هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة ، فالمجىء إما إلى الوجود أو إلى الايمان وضمير { مِن بَعْدِهِمْ } للفريقين : المهاجرين والأنصار .
وهذا هو الذى يدل عليه كلام عمر - رضى الله عنه - وكلام كثير من السلف كالصريح فيه ، فالآية قد استوعبت جميع المؤمنين .
ويبدو لنا أن هذا الرأى الثانى ، وهو كون الذين جاءوا من بعدهم يشمل المؤمنين الصادقين جميعا ، أقرب إلى الصواب ، لأنهم هم التابعون بإحسان للمهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ، كما قال - تعالى - : { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ . . . } وعليه يكون المعنى : والذين جاءوا من بعد المهاجرين والأنصار ، واتبعوهم بإحسان إلى يوم القيامة { يَقُولُونَ } على سبيل الدعاء لأنفسهم ولإخوانهم فى العقيدة ، { رَبَّنَا اغفر لَنَا } أى : يا ربنا اغفر لنا ذنوبنا ، واغفر ، لإخواننا فى الدين { الذين سَبَقُونَا بالإيمان } فهم أسبق منا إلى الخير والفضل . . { وَلاَ تَجْعَلْ } يا ربنا { فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ } أى : حسدا وحقدا { لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } أى : يا ربنا لا تجعل فى قلوبنا أى غل أو حسد لإخواننا المؤمنين جميعا .
{ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } أى : يا ربنا إنك شديد الرأفة بعبادك واسع الرحمة بهم . وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، أن من حق الصحابة - رضى الله عنهم - على من جاءوا بعدهم ، أن يدعوا لهم ، وأن ينزلوهم فى قلوبهم منزلة الاحترام والتبجيل والتكريم . .
ورحم الله الإمام القرطبي فقد أفاض فى بيان هذا المعنى ، فقال ما ملخصه : قوله - تعالى - : { والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ . . . } يعنى التابعين ، ومن دخل فى الإسلام إلى يوم القيامة .
قال ابن أبى ليلى : الناس على ثلاثة منازل : المهاجرون ، والذين تبوأوا الدار والإيمان ، والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد ألا تخرج من هذه المنازل .
وهذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة . .
وقال الإمام الرازي : واعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين لأنهم إما المهاجرون ، أو الأنصار ، أو الذين جاءوا من بعدهم ، وبين أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار ، أن يذكر السابقين ، وهم المهاجرون والأنصار بالدعاء والرحمة ، فمن لم يكن كذلك ، بل ذكرهم بسوء كان خارجا من جملة أقسام المؤمنين ، بحسب نص هذه الآية .
وبعد أن رسمت السورة الكريمة ، تلك الصورة الوضيئة للمهاجرين والأنصار والذين ابتعوهم بإحسان . . . بعد كل ذلك أخذت فى رسم صورة أخرى ، متباينة تمام المباينة مع صورة هؤلاء الصادقين ، ألا وهى صورة المنافقين ، الذين انضموا إلى كل مناوئ للدعوة الإسلامية ، فقال - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ . . . } .
وقوله : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء ، وهم المهاجرون ثم الأنصار ، ثم التابعون بإحسان ، كما قال في آية براءة : { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ } [ التوبة : 100 ] فالتابعون لهم بإحسان هم : المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة ، الداعون لهم في السر والعلانية ؛ ولهذا قال في هذه الآية الكريم : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ } أي : قائلين : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا } أي : بغضًا وحسدًا { لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } وما أحسن ما استنبط الإمام مالك من هذه الآية الكريمة : أن الرافضي الذي يسبّ الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت : أمروا أن يستغفروا لهم ، فسبوهم ! ثم قرأت هذه الآية : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ } الآية .
وقال إسماعيل بن عُلَية ، عن عبد الملك بن عمير ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فسببتموهم . سمعتُ نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها " . رواه البغوي{[28592]} . .
وقال أبو داود : حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا أيوب ، عن الزهري قال : قال عمر ، رضي الله عنه : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ } قال الزهري : قال عمر : هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، قُرى [ عربية : فَدَك وكذا ]{[28593]} وكذا ، فما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وللفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ، { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ } { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } فاستوعبت هذه الآية الناس ، فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق - قال أيوب : أو قال : حظ - إلا بعض من تملكون من أرقائكم . كذا رواه أبو داود ، وفيه انقطاع{[28594]} .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن مَعْمَر ، عن أيوب ، عن عكرمة ابن خالد ، عن مالك بن أوس بن الحَدَثان قال : قرأ عمر بن الخطاب : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } حتى بلغ { عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 60 ] ، ثم قال هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ] } {[28595]} [ الأنفال : 41 ] ، ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } حتى بلغ للفقراء { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ } { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } ثم قال : استوعبت هذه الآية المسلمين عامة ، وليس أحد إلا له فيها حق{[28596]} ، ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي - وهو بَسرو حِمير - نصيبه فيها ، لم يعرق فيها جبينه .
والذين جاؤوا من بعدهم هم الذين هاجروا حين قوي الإسلام أو التابعون بإحسان وهم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة ولذلك قيل أن الآية قد استوعبت جميع المؤمنين يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان أي لإخواننا في الدين ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا حقدا لهم ربنا إنك رؤوف رحيم فحقيق بأن تجيب دعاءنا .