فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعۡدِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ} (10)

ثم لما فرغ سبحانه من الثناء على المهاجرين والأنصار ، ذكر ما ينبغي أن يقوله من جاء بعدهم فقال :{ والذين جاؤوا من بعدهم } وهم التابعون بإحسان إلى يوم القيامة ، وقيل : هم الذين هاجروا بعد ما قوي الإسلام والظاهر شمول الآية لمن جاء بعد السابقين من الصحابة ، المتأخر إسلامهم في عصر النبوة ، ومن تبعهم من المسلمين بعد عصر النبوة إلى يوم القيامة ، لأنه يصدق على الكل أنهم جاؤوا بعد المهاجرين الأولين والأنصار ، عن سعد بن أبي وقاص قال الناس على ثلاث منازل قد مضت منزلتان وبقيت منزلة ، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ، ثم قرأ : { والذين جاؤوا من بعدهم } الآية .

{ يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } المراد بالأُخوّة هنا أخوة الدين ، أمرهم الله أن يستغفروا لأنفسهم ، ولمن تقدمهم من المهاجرين والأنصار ، قال في المصباح : الأخ لامه محذوفة ، وهي واو ، وترد في التثنية على الأشهر ، فيقال : أخوان ، وفي لغة يستعمل منقوصا فيقال : أخان وجمعه إخوة وإخوان بكسر الهمزة فيهما ، وضمها لغة ، وقيل : جمعه بالواو والنون ، وعلى آخاء وزن آباء أقل : والأنثى أخت ، وجمعها أخوات ، وهو جمع مؤنث سالم .

{ ولا تجعل في قلوبنا غلا } أي غشا وحقدا وبغضا وحسدا { للذين آمنوا ، ربنا إنك رؤوف رحيم } أي كثير الرأفة والرحمة ، بليغهما لمن يستحق ذلك من عبادك ، أمر الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغل للذين آمنوا على الإطلاق ، فيدخل في ذلك الصحابة دخولا أوليا ، لكونهم أشرف المؤمنين ، ولكون السياق فيهم ، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية ، فإن وجد في قلبه غلا لهم فقد أصابه نزع الشيطان ، وحل به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه ، وخير أمة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم ، أن لم يتدارك نفسه بالالتجاء أو باللجإ ( {[1573]} ) إلى الله سبحانه ، والاستغاثة به بأن ينزع عن قلبه ما طوّقه من الغل لخير القرون ، وأشرف هذه الأمة ، فإن جاوز ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم فقد انقاد للشيطان بزمام ، ووقع في غضب الله وسخطه .

وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلى بمعلم من الرافضة ، أو صاحب من أعداء خير الأمة ، الذين تلاعب بهم الشيطان ، وزين لهم الأكاذيب المختلفة ، والأقاصيص المفتراة ، والخرافات الموضوعة ، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور ، فاشتروا الضلالة بالهدى ، واستبدلوا الخسران العظيم ، بالربح الوافر ، وما زال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة ، ومن رتبة إلى رتبة ، حتى صاروا أعداء كتاب الله وسنة رسوله ، وخير أمته وصالحي عباده ، وسائر المؤمنين ، وأهملوا فرائض الله ، وهجروا شعائر الدين ، وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي ، ورموا الدين وأهله بكل حجر ومدر ، والله من ورائهم محيط .

قالت عائشة رضي الله تعالى عنها في الآية : أمروا أن يستغفروا والأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم ، ثم قرأت هذه الآية ، وقيل لسعيد بن المسيب : ما تقول في عثمان وطلحة والزبير ؟ قال : أقول ما قولنيه الله ، وتلا هذه الآية ، واخرج ابن مردويه " عن ابن عمر أنه سمع رجلا وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه :{ للفقراء والمهاجرين } ، ثم قال : هؤلاء المهاجرون أفمنهم أنت ؟ قال : لا ثم قرأ عليه { والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم } الآية ثم قال : هؤلاء الأنصار أفأنت منهم ؟ قال : لا . ثم قرأ عليه : { والذين جاؤوا من بعدهم } الآية ، ثم قال : أفمن هؤلاء أنت ؟ قال : أرجو ، قال ليس من هؤلاء من سبب هؤلاء .


[1573]:لجأ من باب منع وفرح؟