اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعۡدِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ} (10)

قوله تعالى : { والذين جَاءُوا } . يحتمل الوجهين المتقدمين في «الذين » قبله ، فإن كان معطوفاً على «المهاجرين » ، ف «يقولون » حال ل «يحبون » أي : قائلين أو مستأنف ، وإن كان مبتدأ ف «يقولون » خبره{[55987]} .

فصل

هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين ؛ لأنهم إما المهاجرون أو الأنصار . { والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ } . قال بعض المفسرين : هذا عطف على «المُهَاجرينَ » وهم الذين هاجروا من بعد .

وقيل : التابعون لهم بإحسان ، ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة{[55988]} .

قال ابن أبي ليلى{[55989]} : الناس على ثلاثة منازل : الأولى منازل المهاجرين ، والثانية هي : الذين تبوءوا الدار والإيمان ، والثالثة : والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد ألاَّ تخرج من هذه المنازل .

وقال بعضهم : كن مهاجراً ، فإن قلت : لا أجد ، فكن أنصارياً ، فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم ، فإن لم تستطع فأحبَّهم ، واستغفر لهم كما أمرك الله .

وقال مصعب بن سعد : الناس على ثلاثة منازل ، فمضت منزلتان ، وبقيت منزلة ، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت .

وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جدِّه ، أنه جاءه رجل فقال : يا ابن بنت رسول الله ما تقول في عثمان ؟ فقال له : يا ابن أخي أنت من قوم قال الله فيهم { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ } ؟ الآية ، قال : لا ، قال : فأنت من قوم قال الله فيهم : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } ؟ الآية ، قال : لا ، قال : فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام ، وهي قوله تعالى : { والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } .

وروي أن نفراً من أهل «العراق » جاءوا إلى محمد بن علي بن الحسين فسبُّوا أبا بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - فأكثروا ، فقال لهم : أمن المهاجرين الأولين أنتم ؟ قالوا : لا ، قال : أفمن الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ؟ ، قالوا : لا ، قال : فقد تبرأتم من هذين الفريقين ، أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم : { والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } ، قوموا قد فعل الله بكم وفعل . ذكره النحاس{[55990]} .

فصل في وجوب محبة الصحابة{[55991]} :

هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة - رضي الله عنهم - لأنه جعل لمن بعدهم حظًّا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم ، والاستغفار لهم ، ومن أبغضهم أو واحداً منهم ، أو اعتقد فيه شرًّا أنه لا حقَّ له في الفيء .

قال مالك : من كان يبغضُ أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكان في قلبه لهم غلّ فليس له حق في فيء المسلمين ، ثم قرأ : { والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ } .

فصل :

قال القرطبي{[55992]} : دلت هذه الآية على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول وإبقاء العقار والأرض بين المسلمين أجمعين كما فعل عمر - رضي الله عنه - إلا أن يجتهد الوالي فينفذ أمراً فيمضي عمله فيه لاختلاف الناس فيه ، وإن هذه الآية قاضية بذلك ، لأن الله - تعالى - أخبر عن الفيء وجعله لثلاث طوائف : المهاجرين والأنصار - وهم معلومون - { والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } فهي عامة في جميع التابعين والآتين من بعدهم إلى يوم [ الدين ] {[55993]} .

يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة ، فقال : «السَّلامُ [ عليكم ] دارَ قَوْم مُؤمِنينَ وإنَّا إن شَاءَ اللَّهُ بكم لاحِقُونَ ودِدْتُ لَوْ رأيتُ إخواننا » قالوا : يَا رسُولَ اللَّهِ ، ألَسْنَا إخْوَانَكَ ؟ فقَالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «بَلْ أنتُمْ أصْحَابِي ، وإخْواننا الذين لَمْ يأتُوا بَعْدُ ، وأنَا فَرَطُهمْ على الحوْضِ »{[55994]} .

فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن إخوانهم كلُّ من يأتي بعدهم ، لا كما قال السُّديُّ والكلبي : إنهم الذين هاجروا بعد ذلك .

وعن الحسن أيضاً : أن الذين جاءوا من بعدهم من قصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى «المدينة » بعد انقطاع الهجرة .

قوله : { يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } .

قيل{[55995]} : أمروا أن يستغفروا لمن سبق هذه الأمة من مؤمني أهل الكتاب ، قالت عائشة - رضي الله عنها - : أمرهم أن يستغفروا لهم فَسبُّوهم .

وقيل : أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار .

قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : أمر الله سبحانه بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنهم سيُفْتنُونَ{[55996]} .

وقالت عائشة - رضي الله عنها - : أمرهم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسبوهم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لا تَذْهَبُ هذهِ الأمة حتَّى يلعَنَ آخِرُهَا أوَّلهَا »{[55997]} .

وقال ابن عمر - رضي الله عنهما - : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : «إذا رأيتم الَّذين يسُبُّونَ أصْحَابِي فقُولُوا : لَعَنَ اللَّه شَرَّكُم »{[55998]} .

وقال العوام بن حوشب : أدركت هذه الأمة يقولون : اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تتآلف عليهم القلوب ، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا الناس عليهم{[55999]} .

وقال الشعبي : تفاضلت اليهود والنَّصارى على الرافضة بخصلة ، سئلت اليهود : من خير أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب موسى - صلوات الله وسلامه عليه - ، وسئلت النصارى : من خير أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب عيسى - صلوات الله وسلامه عليه - ، وسئلت الرافضة ، من شرُّ أهلِ ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، فالسيف عليهم مسلولٌ إلى يوم القيامة لا تقوم لهم راية ، ولا يثبت لهم قدم ، ولا تجتمع لهم كلمة ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله بسفكِ دمائهم وإدحاض حجتهم ، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلَّة{[56000]} .

{ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } أي : حسداً وبغضاً ، { رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } .


[55987]:ينظر: الدر المصون 6/297.
[55988]:ينظر: الفخر الرازي 29/250.
[55989]:ينظر: القرطبي 18/21.
[55990]:القرطبي 18/22.
[55991]:ينظر السابق.
[55992]:السابق نفسه.
[55993]:في أ: القيامة.
[55994]:أخرجه مسلم 1/218، كتاب الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل (39/249).
[55995]:ينظر: القرطبي (18/22).
[55996]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/22).
[55997]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/293)، عن عائشة وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في "المصاحف" وابن مردويه عن عائشة.
[55998]:أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" (13/195)، وابن عساكر (6/231 – تهذيب)، من حديث ابن عمر.
[55999]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/23).
[56000]:ينظر: القرطبي 18/23.