قوله تعالى : { والذين جَاءُوا } . يحتمل الوجهين المتقدمين في «الذين » قبله ، فإن كان معطوفاً على «المهاجرين » ، ف «يقولون » حال ل «يحبون » أي : قائلين أو مستأنف ، وإن كان مبتدأ ف «يقولون » خبره{[55987]} .
هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين ؛ لأنهم إما المهاجرون أو الأنصار . { والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ } . قال بعض المفسرين : هذا عطف على «المُهَاجرينَ » وهم الذين هاجروا من بعد .
وقيل : التابعون لهم بإحسان ، ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة{[55988]} .
قال ابن أبي ليلى{[55989]} : الناس على ثلاثة منازل : الأولى منازل المهاجرين ، والثانية هي : الذين تبوءوا الدار والإيمان ، والثالثة : والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد ألاَّ تخرج من هذه المنازل .
وقال بعضهم : كن مهاجراً ، فإن قلت : لا أجد ، فكن أنصارياً ، فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم ، فإن لم تستطع فأحبَّهم ، واستغفر لهم كما أمرك الله .
وقال مصعب بن سعد : الناس على ثلاثة منازل ، فمضت منزلتان ، وبقيت منزلة ، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت .
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جدِّه ، أنه جاءه رجل فقال : يا ابن بنت رسول الله ما تقول في عثمان ؟ فقال له : يا ابن أخي أنت من قوم قال الله فيهم { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ } ؟ الآية ، قال : لا ، قال : فأنت من قوم قال الله فيهم : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } ؟ الآية ، قال : لا ، قال : فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام ، وهي قوله تعالى : { والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } .
وروي أن نفراً من أهل «العراق » جاءوا إلى محمد بن علي بن الحسين فسبُّوا أبا بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - فأكثروا ، فقال لهم : أمن المهاجرين الأولين أنتم ؟ قالوا : لا ، قال : أفمن الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ؟ ، قالوا : لا ، قال : فقد تبرأتم من هذين الفريقين ، أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم : { والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } ، قوموا قد فعل الله بكم وفعل . ذكره النحاس{[55990]} .
فصل في وجوب محبة الصحابة{[55991]} :
هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة - رضي الله عنهم - لأنه جعل لمن بعدهم حظًّا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم ، والاستغفار لهم ، ومن أبغضهم أو واحداً منهم ، أو اعتقد فيه شرًّا أنه لا حقَّ له في الفيء .
قال مالك : من كان يبغضُ أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكان في قلبه لهم غلّ فليس له حق في فيء المسلمين ، ثم قرأ : { والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ } .
قال القرطبي{[55992]} : دلت هذه الآية على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول وإبقاء العقار والأرض بين المسلمين أجمعين كما فعل عمر - رضي الله عنه - إلا أن يجتهد الوالي فينفذ أمراً فيمضي عمله فيه لاختلاف الناس فيه ، وإن هذه الآية قاضية بذلك ، لأن الله - تعالى - أخبر عن الفيء وجعله لثلاث طوائف : المهاجرين والأنصار - وهم معلومون - { والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } فهي عامة في جميع التابعين والآتين من بعدهم إلى يوم [ الدين ] {[55993]} .
يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة ، فقال : «السَّلامُ [ عليكم ] دارَ قَوْم مُؤمِنينَ وإنَّا إن شَاءَ اللَّهُ بكم لاحِقُونَ ودِدْتُ لَوْ رأيتُ إخواننا » قالوا : يَا رسُولَ اللَّهِ ، ألَسْنَا إخْوَانَكَ ؟ فقَالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «بَلْ أنتُمْ أصْحَابِي ، وإخْواننا الذين لَمْ يأتُوا بَعْدُ ، وأنَا فَرَطُهمْ على الحوْضِ »{[55994]} .
فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن إخوانهم كلُّ من يأتي بعدهم ، لا كما قال السُّديُّ والكلبي : إنهم الذين هاجروا بعد ذلك .
وعن الحسن أيضاً : أن الذين جاءوا من بعدهم من قصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى «المدينة » بعد انقطاع الهجرة .
قوله : { يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } .
قيل{[55995]} : أمروا أن يستغفروا لمن سبق هذه الأمة من مؤمني أهل الكتاب ، قالت عائشة - رضي الله عنها - : أمرهم أن يستغفروا لهم فَسبُّوهم .
وقيل : أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : أمر الله سبحانه بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنهم سيُفْتنُونَ{[55996]} .
وقالت عائشة - رضي الله عنها - : أمرهم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسبوهم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لا تَذْهَبُ هذهِ الأمة حتَّى يلعَنَ آخِرُهَا أوَّلهَا »{[55997]} .
وقال ابن عمر - رضي الله عنهما - : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : «إذا رأيتم الَّذين يسُبُّونَ أصْحَابِي فقُولُوا : لَعَنَ اللَّه شَرَّكُم »{[55998]} .
وقال العوام بن حوشب : أدركت هذه الأمة يقولون : اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تتآلف عليهم القلوب ، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا الناس عليهم{[55999]} .
وقال الشعبي : تفاضلت اليهود والنَّصارى على الرافضة بخصلة ، سئلت اليهود : من خير أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب موسى - صلوات الله وسلامه عليه - ، وسئلت النصارى : من خير أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب عيسى - صلوات الله وسلامه عليه - ، وسئلت الرافضة ، من شرُّ أهلِ ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، فالسيف عليهم مسلولٌ إلى يوم القيامة لا تقوم لهم راية ، ولا يثبت لهم قدم ، ولا تجتمع لهم كلمة ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله بسفكِ دمائهم وإدحاض حجتهم ، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلَّة{[56000]} .
{ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } أي : حسداً وبغضاً ، { رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.