السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعۡدِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ} (10)

ولما أثنى سبحانه وتعالى على المهاجرين والأنصار بما هم عليه وأهله أتبعهم ذكر التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين فقال تعالى : { والذين جاؤوا } أي : من أي طائفة كانوا { من بعدهم } أي بعد المهاجرين والأنصار ، وهم من آمن بعد انقطاع الهجرة بالفتح ، وبعد إيمان الأنصار الذين أسلموا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة { يقولون } على سبيل التجديد والاستمرار تصديقاً لإيمانهم بدعائهم :{ ربنا } أي : أيها المحسن إلينا بإيجاد من مهد الدين قبلنا { اغفر لنا } أي : أوقع ستر النقائص آثارها وأعيانها { ولإخواننا } أي : في الدين فإنهم أعظم أخوة ، وبينوا العلة بقولهم :{ الذين سبقونا بالإيمان } قال ابن أبي ليلى الناس على ثلاثة منازل : المهاجرين ، والذين تبوؤوا الدار والإيمان ، والذي جاؤوا من بعدهم فاجتهد أن لا تخرج من هذه المنازل . وقال بعضهم : كن مهاجراً ، فإن قلت : لا أجد فكن أنصارياً ، فإن لم تجد فاعمل بأعمالهم ، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمر الله تعالى .

وقال مصعب بن سعد : الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت منزلة ، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت . وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه جاءه رجل فقال له : يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقول في عثمان فقال له يا أخي أنت من قوم قال الله تعالى فيهم : { للفقراء المهاجرين } الآية ، قال : لا ، قال : فأنت من قوم قال الله تعالى فيهم : { والذين تبوؤوا الدار والإيمان } الآية ، قال : لا ، قال : فو الله إن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجنّ من الإسلام ، وهي قوله تعالى : { والذين جاؤوا من بعدهم } الآية وروي أنّ نفراً من أهل العراق جاؤوا إلى محمد بن علي بن الحسين فسبوا أبا بكر وعمر وعثمان فأكثروا ، فقال لهم : أمن المهاجرين الأولين أنتم ، فقالوا : لا فقال : من الذين تبوؤوا الدار والإيمان ، قالوا : لا قال : فقد تبرأتم من هذين الفريقين ، أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله تعالى : { والذين جاؤوا من بعدهم } قوموا فعل الله بكم وفعل .

تنبيه : هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، لأنه جعل لمن بعدهم حظاً في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم ، ومن أبغضهم أو واحداً منهم ، أو اعتقد فيهم شراً أنه لا حق له في الفيء .

قال مالك : من كان يبغض أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه لهم غل فليس له حق في فيء المسلمين ، ثم قرأ { والذين جاؤوا من بعدهم } الآية ، وهي عامة في جميع التابعين الآتين بعدهم إلى يوم القيامة . يروى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال : «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، وددت لو رأيت إخواننا ، فقالوا : يا رسول الله ألسنا إخوانك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنتم أصحابي ، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض » فبين صلى الله عليه وسلم أن أخوانه كان من أتى بعدهم كما قال السدي والكلبي : إنهم الذي هاجروا بعد ذلك ، وعن الحسن أيضاً : أنّ الذين جاؤوا من بعدهم من قصد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد انقطاع الهجرة ، وإنما بدؤوا في الدعاء بأنفسهم لقوله صلى الله عليه وسلم «ابدأ بنفسك » وقال الشعبي : تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة ، سألت اليهود من خير أهل ملتكم فقالوا : أصحاب موسى ، وسألت الأنصار من خير أهل ملتكم فقالوا : أصحاب عيسى ، وسألت الرافضة من شر أهل ملتكم فقالوا : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم . وعن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لا تذهب هذه الأمّة حتى يلعن آخرها أوّلها » أعاذنا الله تعالى ومحبينا من الأهواء المضلة { ولا تجعل في قلوبنا غلاً } أي : ضغناً وحسداً وحقداً ، وهو حرارة وغليان يوجب الانتقام { للذين آمنوا } أي : أقروا بالإيمان وإن كانوا في أدنى درجاته وقيدوا بالقلب لأنّ رذائل النفس قل أن تنفك ، وأنها إن كانت مع صحة القلب أو شك أن لا تؤثر { ربنا } أي : أيها المحسن إلينا بتعليم ما لم نكن نعلم ، وأكدوا إعلاماً بأنهم يعتقدون ما يقولون بقولهم : { إنك رؤوف } أي : راحم أشد الرحمة لمن كانت له بك وصلة بفعل من أفعال الخير ، { رحيم } مكرم غاية الإكرام لمن أردت ، ولو لم يكن له وصلة فأنت جدير بأن تجيبنا لأنا بين أن تكون لنا وصلة فنكون من أهل الرأفة ، أو لا فنكون من أهل الرحمة .

فقد أفادت هذه الآية أن من كان في قلبه غلّ على أحد من الصحابة فليس ممن عنى الله تعالى بهذه الآية . وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بكسر الهمزة ، والباقون بمدها .