فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعۡدِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ} (10)

ثم لما فرغ سبحانه من الثناء على المهاجرين والأنصار ، ذكر ما ينبغي أن يقوله من جاء بعدهم ، فقال : { والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ } وهم التابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة ، وقيل : هم الذين هاجروا بعد ما قوي الإسلام ، والظاهر شمول الآية لمن جاء بعد السابقين من الصحابة المتأخر إسلامهم في عصر النبوّة ، ومن تبعهم من المسلمين بعد عصر النبوّة إلى يوم القيامة ، لأنه يصدق على الكلّ أنهم جاءوا بعد المهاجرين الأوّلين والأنصار ، والموصول مبتدأ وخبره { يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } ويجوز أن يكون الموصول معطوفاً على قوله : { والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان } ، فيكون { يقولون } في محل نصب على الحال ، أو مستأنف لا محل له ، والمراد بالأخوّة هنا : أخوة الدّين ، أمرهم الله أن يستغفروا لأنفسهم ولمن تقدّمهم من المهاجرين والأنصار { وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ } أي غشاً وبغضاً وحسداً .

أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغلّ للذين آمنوا على الإطلاق ، فيدخل في ذلك الصحابة دخولاً أوّلياً لكونهم أشرف المؤمنين ، ولكون السياق فيهم ، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية ، فإن وجد في قلبه غلاً لهم فقد أصابه نزغ من الشيطان وحلّ به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه وخير أمة نبيه صلى الله عليه وسلم وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجأ إلى الله سبحانه والاستغاثة به ، بأن ينزع عن قلبه ما طرقه من الغلّ لخير القرون وأشرف هذه الأمة ، فإن جاوز ما يجده من الغلّ إلى شتم أحد منهم ، فقد انقاد للشيطان بزمام ووقع في غضب الله وسخطه ، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمعلم من الرافضة أو صاحب من أعداء خير الأمة الذين تلاعب بهم الشيطان وزين لهم الأكاذيب المختلفة والأقاصيص المفتراة والخرافات الموضوعة ، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور ، فاشتروا الضلالة بالهدى ، واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر ، ومازال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة ومن رتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداء كتاب الله وسنة رسوله وخير أمته وصالحي عباده وسائر المؤمنين ، وأهملوا فرائض الله وهجروا شعائر الدين ، وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي ورموا الدين وأهله بكلّ حجر ومدر ، والله من ورائهم محيط { رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ } أي كثير الرأفة والرحمة بليغهما لمن يستحق ذلك من عبادك .

/خ10