قوله تعالى : { وكذلك فتنا } ، أي : ابتلينا .
قوله تعالى : { بعضهم ببعض } ، أراد ابتلاء الغني بالفقير ، والشريف بالوضيع ، وذلك أن الشريف إذا نظر إلى الوضيع قد سبقه بالإيمان امتنع من الإسلام بسببه ، فكان فتنة له ، فذلك قوله تعالى : { ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا }
قوله تعالى : { أليس الله بأعلم بالشاكرين } ، فهو جواب لقولهم { أهؤلاء من الله عليهم من بيننا } فهو استفهام بمعنى التقرير ، أي : الله أعلم بمن شكر الإسلام إذ هداه الله عز وجل .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو العباس عبد الله ابن محمد بن هارون الطيسفوني ، أنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي ، ثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو بن بسطام ، ثنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي ، أنا مسدد ، أنا جعفر بن سليمان ، عن المعلي بن زياد ، عن العلاء بن بشير المزني ، عن أبي الصديق الناجي ، عن أبي سعيد الخدري قال : " جلست في نفر من ضعفاء المهاجرين ، وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري ، وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام علينا ، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت القارئ ، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما كنتم تصنعون ؟ قلنا : يا رسول الله ، كان قارئ يقرأ علينا ، فكنا نستمع إلى كتاب الله تعالى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم ) قال : ثم جلس وسطنا ليعدل نفسه فينا ، ثم قال بيده هكذا ، فتحلقوا وبرزت وجوههم له ، قال : فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف منهم أحداً غيري ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة ، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم ، وذلك مقدار خمسمائة سنة ) .
والكاف فى قوله { وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } فى محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف والتقدير : ومثل ذلك الفتون المتقدم الذى فهم من سياق أخبار الأمم الماضية فتنا بعض هذه الأمم ببعض ، ومن مظاهر ذلك أننا ابتلينا الغنى بالفقير ، والفقير بالغنى ، فكل واحد مبتلى بضده ، فكان ابتلاء الأغنياء الشرفاء حسدهم لفقراء الصحابة على كونهم سبقوهم إلى الإسلام وتقدموا عليهم ، فامتنعوا عن الدخول فى الإسلام لذلك ، فكان ذلك فتنة وابتلاء لهم وأما فتنة الفقراء بالأغنياء فلما يرون من سعة رزقهم وخصب عيشهم . فكان ذلك فتنة لهم .
واللام فى قوله { ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ } تعليلية لأنها هى للباعث على الاختبار أى : ومثل ذلك الفتون فتنا ليقولوا هذه المقالة ابتلاء منا وامتحانا .
والاستفهام فى قوله { أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } للتقرير على أكمل وجه لأنه سبحانه محيط بكل صغير وكبير ودقيق وجليل .
وكذلك تكون الآيات الكريمة قد قررت أن الفضل ليس بالغنى ولا بالجاه ولا بالقوة فى الدنيا ، ولكنه بمقدار شكر الله على ما أنعم ، وأنه سبحانه هو العالم وحده بمن يستحق الفضل علماً ليس فوقه علم .
وقوله : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } أي : ابتلينا واختبرنا وامتحنا بعضهم ببعض { لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غالب من اتبعه في أول البعثه ، ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء ، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل ، كما قال قومُ نوح لنوح : { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } الآية [ هود : 27 ] ، وكما قال{[10707]} هرقل ملك الروم لأبي سفيان حين سأله [ عن تلك ]{[10708]} المسائل ، فقال له : فهل{[10709]} اتبعه ضعفاء الناس أو أشرافهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم . فقال : هم أتباع الرسل{[10710]}
والغرض : أن مشركي قريش كانوا يسخرون بمن آمن من ضعفائهم ، ويعذبون من يقدرون عليه منهم ، وكانوا يقولون : { أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } ؟ أي : ما كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير - لو كان ما صاروا إليه خيرا - ويدعنا ، كما قالوا : { لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] ، وكما قال تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا } [ مريم : 73 ] .
قال الله تعالى في جواب ذلك : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا } [ مريم : 74 ] ، وقال في جوابهم حين قالوا : { أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } أي : أليس هو أعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم ، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويهديهم إليه صراطًا مستقيما ، كما قال تعالى { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [ العنكبوت : 69 ] . وفي الحديث الصحيح : " إن الله لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى ألوانكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " {[10711]}
{ وكذلك فتنا بعضهم ببعض } ومثل ذلك الفتن ، وهو اختلاف أحوال الناس في أمور الدنيا . { فتنا } أي ابتلينا بعضهم ببعض في أمر الدين فقدمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش بالسبق إلى الإيمان . { ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا } أي أهؤلاء من أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق لما يسعدهم دوننا ، ونحن الأكابر والرؤساء وهم المساكين والضعفاء . وهو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير كقولهم : { لو كان خيرا ما سبقونا إليه } . واللام للعاقبة أو للتعليل على أن فتنا متضمن معنى خذلنا { أليس الله بأعلم بالشاكرين } بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوقفه وبمن لا يقع منه فيخذله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.