اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لِّيَقُولُوٓاْ أَهَـٰٓؤُلَآءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنۢ بَيۡنِنَآۗ أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِأَعۡلَمَ بِٱلشَّـٰكِرِينَ} (53)

" الكاف " في مَحَلِّ نَصبٍ على أنها نَعْتٌ لمصدر محذوف ، والتقدير : ومثل ذلك الفُتُون المتقدم الذي فُهِمَ من سياقِ أخبار الأمم الماضية فتنَّا بعضَ هذه الأمَّةِ بِبَعْضٍ ، فالإشَارَةُ بذلك إلى الفُتُونِ المَدْلُولِ عليه بقوله : " فَتَنَّا " ، ولذلك قال الزمخشري{[13993]} : ومثل ذلك الفتن العظيم فتن بعض الناسِ ببعضٍ فجعل الإشارة لِمصدَرِ فَتَنَّا . وانظر كيف لم يَتَلَّفَظْ هو بإسناد الفِتْنَةِ إلى اللَّهِ -تعالى- في كلامِهِ ، وإن كان البارئ -تعالى- قد أسْنَدَها ، بل قال : فتن بعض الناس فَبَناهُ للمفعُول على قَاعِدةِ المعتزلة .

وجعل ابن{[13994]} عطية الإشارة إلى طلب الطَّرْدِ ، فإنه قال بعد كلام يتعلٌّق بالتفسير : " والإشارة بذلك إلى ما ذُكِرَ من طلبهِمْ أن يطرد الضَّعفَةَ " .

قال أبُو حيَّان{[13995]} : ولا ينتظم هذا التَّشْبيه ؛ إذ يصير التقدير : مثل طلب الطرد فَتَنَّا بعضهم ببعض والمَتَبَادَرُ إلى الذِّهْنِ من قولك : " ضربتُ مثل ذلك " المُمَاثَلَةُ في الضرب ، أي : مثل ذلك الضرب لا أن تَقَعَ المُمَاثَلَةُ في غير الضَّرْبِ ، وقد تقدَّم مِرَاراً أن سيبويه{[13996]} يجعل مثل ذلك حالاً من ضمير المَصْدَرِ المقدر .

قوله : " لِيَقُولُوا " في هذه " اللام " وجهان :

أظهرهما : - وعليه أكثر المعربين والمُفسِّرين - أنها لام " كي " ، والتقدير : ومثل ذلك الفُتُون فَتَنَّا ليقولوا هذه المقالة ابْتِلاءً مَنَّا وامْتِحَاناً .

والثاني : أنها " لام " الصَّيْرُورَةِ أي : العاقبة كقوله : [ الوافر ]

لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرَابِ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[13997]}

{ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً } [ القصص :8 ] ، ويكون قولهم " أهؤلاء " إلى آخره صادراً على سبيل الاسْتِخْفَافِ .

قوله : " أهَؤلاءِ " يجوز فيه وجهان :

أظهرهما : أنه منصوب المَحَلِّ على الاشْتِغَالِ بفعلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ الفعل الظاهر ، العاملُ في ضميره بِوَساطَةِ " على " ، ويكون المفسِّر من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، والتقدير : أفَضَّلَ الله هؤلاء مَنَّ عليهم ، أو اختار هؤلاء مَنَّ عليهم ، ولا مَحَلَّ لقوله : " مَنَّ اللَّهُ عليهم " لكونها مُفَسّرة ، وإنِّما رجَّحَ هنا إضمار الفعل ؛ لأنه وقع بعد أداةٍ يغلبُ إيلاءُ الفعلِ لها .

والثاني : أنه مرفوع المَح‍َلّ على أنه مبتدأ ، والخبر : مَنَّ اللَّهُ عليهم ، وهذا وإن كان سَالِماً من الإضْمَارِ الموجود في الوجه الذي قبله ، إلاَّ أنه مَرْجوحٌ لما تقدَّم ، و " عليهم " مُتعلِّقٌ ب " مَنَّ " .

و " من بَيْنِنَا " يجوز أن يتعلَّق به أيضاً .

قال أبو البقاء{[13998]} : " أي مَيَّزَهُمْ عَلَيْنَا ، ويجوز أن يكون حالاً " .

قال أبو البقاء{[13999]} أيضاً : أي : مَنَّ عليهم منفردين ، وهذان التفسيران تفسيرا مَعْنَى لا تفسيرا إعراب ، إلاَّ أنه لم يَسُقْهُمَا إلاَّ تَفْسِيرَيْ إعراب .

والجملة من قوله : " أهؤلاءِ مَنَّ اللِّهُ " في محلِّ نصبٍ بالقولِ .

وقوله : " بأعْلَمَ بالشَّاكرين " الفرقُ بين الباءين أن الأولى لا تعلُّق لها لكونها زَائِدة في خبر " ليس " ، والثانية متعلّقة ب " أعلم " وتعدِّي العلم بها لِمَا ضُمِّن من معنى الإحاطَةِ ، وكثيراً ما يقع ذلك في عبارةِ العلماء ، فيقولون : علم بكذا والعلم بكذا لما تقدَّم .

فصل في تحرير معنى الفتنة في الآية

معنى هذه الفِتْنَةِ أن كُلَّ واحد من الفريقين مُبْتَلًى بصاحبه ، فرُؤسَاءُ الكُفَّارِ الأغنياء كانوا يَحْسُدُونَ فُقْرَاءَ الصحابة على كونهم سابقين للإسلام مُسَارعينَ إلى قَبُولِهِ ، فقالوا : ولو دخلنا في الإسلام لوجب عَلَيْنَا أن نَتْقَادَ لهؤلاء الفقراء المساكين ، وأن نعترف لهم بالتَّبَعِيَّةِ ، فكأن ذلك يَشُقُّ عليهم ، ونظيره : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } [ ص :8 ] ، { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ }

[ الأحقاف :11 ] .

وأمَّا فُقراءُ الصحابة فكانوا يَرَوْنَ أولئك الكُفَّارَ في الرَّاحَاتِ والمَسَّراتِ والطَّيبات والخصب والسَّعَةِ ، فكانوا يقولون : كيف حَصَلَتْ هذه الأحوال لهؤلاء الكُفَّار مع أنَّا بَقِينَا في [ هذه ]{[14000]} الشدّة والضِّيقِ ، فقال تعالى : { وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم } فأحد الفريقين يرى الآخر مقدماً [ عليه ]{[14001]} في المناصبِ الدينية{[14002]} ، ويقولون : أهذا الذي فَض‍َّلَهُ الله علينا ؟

وأمَّا المحققون فهم الذين يَعْلَمُونَ أن كُلَّ ما فعله الل‍َّهُ -تعالى- فهو حَقٌ وحكمةٌ وصوابٌ ولا اعتراض عليه ، إمَّا بحكم الملكية كما هو قول أهل السُّنَّةِ{[14003]} ، وإمَّا بحسبِ المصلحة كما هو قول المعتزلة{[14004]} فكانوا صَابِرينَ في وقت البلاءِ ، شاكرين في وقت الآلاءِ والنَّعْماءِ وهم الذين قال الله في حق‍ِّهم : { ألَيْسَ الل‍َهُ بأعْلَمَ بالشَّاكرينَ } .

فصل

" روى أبُو سعيدٍ الخُدرِيُّ قال : جَلَسْتُ في نَفَرٍ من ضُعَفَاءِ المهاجرين ، وإن بعضهم لَيَسْتَتِرُ من بعضٍ من العُرْي ، وقَارِئ يقرأُ عَلَيْنَا ، إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَامَ عَلَيْنا فلما قامَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم سكت القَارِئُ ، فَسَلَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما كُنتُمْ تَصْنَعُونَ ؟ قلنا : يا رسول الله : كان قارئ يقرأ وكُنَّا نَسْتَمِعُ إلى كتاب الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحَمْدُ لِلَّهِ الذي جَعَل مِنْ أمَّتِي مَنْ أمَرَنِي أنْ أصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُمْ " ، قال : ثُمَّ جلس وَسَطَنَا ليعدل بنفسه فينا ، ثم قال بيده هكذا فَتَحلَّقُوا ، وبرزت وُجُوهُهُمْ لهُ قال : فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عَرفَ منهم أحداً غيري .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبْشِرُوا يا مَعْشَرَ صَعَالِيك المُهاجِرينَ بالنُّور التَّام يَوْمَ القِيَامَةِ تَدْخُلُونَ الجنَّةَ قَبْلَ الأغْنِيَاء بنِصْفِ يَوْمٍ ، وذلِكَ مِقْدارُ خَمْسِمائَةِ سَنَةٍ " {[14005]} " .

فصل في بيان الدلالة من الآية

احتجَّ أهْلُ السُّنَّةِ{[14006]} بهذه الآية على مَسْألةٍ خَلْقِ الأفعال من وجهين :

الأول : أن قوله : { فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْض } تصريح بأنَّ إلقاء تلك الفِتْنَةِ من اللَّهِ تعالى ، والمُرَادُ من تلك الفِتْنَةِ ليس إلاَّ اعْتِرَاضُهُمْ على الله في أنْ جعل أولئك الفقراء رُؤسَاء في الدِّين ، والاعْتِراضُ على الله كُفْرٌ ، وذلك يَدُلُّ على أنَّه -تعالى- هو الخالقُ للكُفْرِ .

والثاني : أنه -تعالى- حكى عنهم أنهم قالوا : " أهؤلاء منَّ اللَّهُ عليهم من بَيْنِنَا " أي : منَّ عليهم بالإيمان باللَّهِ ، ومتابعة الرسول ، وذلك يدُلُّ على أن هذا المَعْنَى إنما حَصَلَ من الله تعالى ؛ لأنه لو كان الموجد للإيمان هو العبد فالله ما مَنَّ عليه بهذا الإيمانِ ، بل العَبْدُ هو الذي منَّ على نَفْسِهِ بهذا الإيمان .

أجاب الجبائي{[14007]} عنه بأن الفِتْنَةَ في التَّكْلِيفِ ما توجب التَّشديدَ وإنما فعلنا ذلك ليقولوا : أهؤلاء أي : ليقول بَعْضُهمْ لبَعْضٍ اسْتِفْهَاماً لا إنْكَاراً [ أهؤلاء ]{[14008]} منَّ الله عليهم من بَيْننَا بالإيمان أجاب الكعبي{[14009]} عَنْهُ بأن قال : " وكذلك فَتَنَّا بعضهم ببعض ليصبروا أو ليشكروا ، فكان عَاقِبَةُ أمرهم أن قالوا : أهؤلاء مَنَّ اللَّهُ عليهم من بَيْنِنَا " على مثاله قوله تعالى : { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص :8 ] .

والجواب عن الوجهين أنه عُدُولٌ عن الظاهر من غير دليل ، والدليل العَقْلِيُّ قائم على صِحَّةِ هذا الظاهر ؛ لأنه لمَّا كانت مُشاهَدَةُ هذه الأحْوالِ تُوجِبُ الأنَفَةَ ، والأنَفَةُ توجبُ العصيان والإصْرارَ على الكُفْرِ ، وموجبُ الموجب مُوجبٌ ، فكان الإلزامُ وَارِداً{[14010]} ، واللَّهُ أعلم .


[13993]:ينظر: الكشاف 2/28.
[13994]:ينظر: المحرر الوجيز 2/296.
[13995]:ينظر: البحر المحيط 4/142.
[13996]:ينظر: الكتاب 1/116.
[13997]:صدر بيت لأبي العتاهية وعجزه: فكلكم يصير إلى ذهابِ *** ........... ينظر: ديوانه ص (33)، وللإمام علي بن أبي طالب ينظر: الجنى الداني ص (98)، شرح التصريح 2/12، والهمع 2/32، وأوضح المسالك 3/33، شرح الكافية 2/328، الدر اللوامع 2/31، وخزانة الأدب 9/529، والدر المصون 3/72.
[13998]:ينظر: الإملاء 1/244.
[13999]:ينظر: المصدر السابق.
[14000]:سقط في أ.
[14001]:سقط في أ.
[14002]:في أ: الدنيوية.
[14003]:ينظر: الرازي 12/196.
[14004]:ينظر: المصدر السابق.
[14005]:أخرجه أحمد في المسند 3/96063. وأبو داود في السنن 2/347 كتاب العلم: باب القصص الحديث (3666) قوله: "فقام علينا" أي وقف على رؤوسنا أي كنا غافلين عن مجيئه فنظرنا فإذا هو قائم فوق رؤوسنا يستمع إلى كتاب الله. وقوله: "ثم قال بيده" أي أشار بيده و"صعاليك المهاجرين" أي جماعة الفقراء من المهاجرين جمع صعلوك.
[14006]:ينظر: الرازي 12/196.
[14007]:ينظر: الرازي 12/197.
[14008]:سقط في أ.
[14009]:ينظر: الرازي 12/197.
[14010]:ينظر: المصدر السابق.