قوله تعالى : { وإلى ثمود أخاهم صالحاً } ، وهو ثمود بن عابر ، بن أرم بن سام ، بن نوح ، وأراد هاهنا القبيلة . قال أبو عمرو بن العلاء : سميت ثمود لقلة مائها . والثمد الماء القليل ، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى { أخاهم صالحاً } ، أي : أرسلنا إلى ثمود أخاهم في النسب ، لا في الدين صالحاً ، وهو صالح بن عبيد ، بن آسف ، بن ماسح ، ابن عبيد ، بن ثمود .
قوله تعالى : { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم } ، حجة .
قوله تعالى : { من ربكم } على صدقي .
قوله تعالى : { هذه ناقة الله } ، أضافها إليه على التفضيل والتخصيص . كما يقال بيت الله .
قوله تعالى : { لكم آية } ، نصب على الحال .
قوله تعالى : { فذروها تأكل } ، العشب .
قوله تعالى : { في أرض الله ولا تمسوها بسوء } ، لا تصيبوها بعقر .
ثم قصت علينا السورة بعد ذلك قصة صالح - عليه السلام - مع قومه فقالت : { وإلى ثَمُودَ . . . . } .
صالح - كما قال الحافظ البغوى - هو ابن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد ابن حاذر بن ثمود : وينتهى نسبه إلى نوح - عليه السلام - .
وثمود اسم للقبيلة التي منها صالح سميت باسم جدها ثمود ، وقيل سميت بذلك لقلة مائها لأن الثمد هو الماء القليل .
وكانت مسكنهم بالحجر - بكسر الحاء وسكون الجيم - ، وقيل سميت بذلك لقلة مائها لأن الثمد هو الماء القليل .
وكانت مساكنهم بالحجر - بكسر الحاء وسكون الجيم - ، والحجر مكان يقع بين الحجاز والشام إلى وادى القرى ، وموقعه الآن ، تقريباً - المنطقة التي بين الحجاز وشرق الأردن ، وما زال المكان الذي كانوا يسكنونه يسمى بمدائن صالح إلى اليوم ، وقد مر النبى صلى الله عليه وسلم على ديارهم وهو ذاهب إلى غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة .
وقبيلة صالح من قبائل العرب ، وكانوا خلفاء لقوم هود - عليه السلام - بعد أن هلكوا فورثوا أرضهم ، وآتاهم الله نعما وفيرة ، وكانوا يعبدون الأصنام فأرسل إليهم نبيهم صالحا مبشرا ونذيراً .
قال - تعالى - : { وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } .
أى : وأرسلنا إلى ثمود أخاهم في النسب والموطن صالحا - عليه السلام - فقال لهم الكلمة التي دعا بها كل نبى قومه : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله سواه ، قد جاءتكم معجزة ظاهرة الدلائل ، شاهدة بنبوتى وصدقى فيما أبلغه عن ربى .
وقوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } متعلق بمحذوف صفة لبينة ، أى هذه البينة كائنة من ربكم وليست من صنعى فعليكم أن تصدقونى لأنى مبلغ عن الله - تعالى - .
ثم كشف لهم عن معجزته وحجته فقال : { هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً } أى : هذه التي ترونها وأشير إليها ناقة الله ، والتى جعلها - سبحانه - علامة لكم على صدقى .
واضاف الناقة إلى الله للتفضيل والتخصيص والتعظيم لشأنها . وقيل : لأنه - سبحانه - خلقها على خلاف سنته في خلق الإبل وصفاتها ، وقيل : لأنها لم يكن لها مالك .
وقد ذكر المفسرون عنها قصصاً لا تخلو من ضعف ، لذا اكتفينا بما ورد في شأنها في القرآن الكريم .
ثم أرشدهم إلى ما يجب عليهم نحوها فقال : { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
أى ارتكوا الناقة حرة طليقة تأكل في أرض الله لاتى لا يملكها أحد سواه ولا تعتدوا عليها بأى لون من ألوان الاعتداء ، لأنكم لو فعلتم ذلك أصابكم عذاب أليم .
والفاء في قوله : { فَذَرُوهَا } للتفريع على كونها آية من آيات الله ، فيجب إكرامها وعدم التعرض لها بسوء .
و { تَأْكُلْ } مجزوم في جواب الأمر .
وأضيفت الأرض إلى الله - أيضاً - قطعا لعذرهم في التعرض لها ، فكأنه يقول لهم ، الأرض أرض الله والناقة ناقته ، فذروها تأكل في أرضه لأنها ليست لكم ، وليس ما فيها من عشب ونبات من صنعكم ، فأى عذر لكم في التعرض لها ؟
وفى نهيهم عن أن يمسوها بسوء تنبيه بالأدنى على الأعلى ، لأنه إذا كان قد نهاهم عن مسها بسوء إكراما لها فنهيهم عن نحرها أو عقرها أو منعها من الكلأ والماء من باب أولى . فالجملة الكريمة وعيد شديد لمن يمسها بسوء .
وقوله : { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } الفعل المضارع منصوب في جواب النهى .
قال علماء التفسير والنسب : ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح ، وهو أخو جَديس بن عاثر ، وكذلك قبيلة طَسْم ، كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، وكانت ثمود بعد عاد ، ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله ، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قراهم ومساكنهم ، وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا صَخْر بن جُوَيرية ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك ، نزل بهم{[11899]} الحجر عند بيوت ثمود ، فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود ، فعجنوا منها ونصبوا منها القدور . فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور ، وعلفوا العجينَ الإبلَ ، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال : " إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، فلا تدخلوا عليهم " {[11900]}
وقال [ الإمام ]{[11901]} أحمد أيضا : حدثنا عفان ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم ، حدثنا عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر : " لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين ، فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم " {[11902]}
وأصل هذا الحديث مُخَرَّج في الصحيحين من غير وجه{[11903]}
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا المسعودي ، عن إسماعيل بن أوسط ، عن محمد بن أبي كَبْشَة الأنماري ، عن أبيه قال : لما كان في غزوة تبوك ، تسارع الناس إلى أهل الحجر ، يدخلون عليهم ، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فنادى في الناس : " الصلاة جامعة " . قال : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره{[11904]} وهو يقول : " ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم " . فناداه رجل منهم : نعجبُ منهم يا رسول الله . قال : " أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك : رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم ، وبما هو كائن بعدكم ، فاستقيموا وسَدِّدوا ، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا ، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا " {[11905]}
لم يخرجه أحد من أصحاب السنن{[11906]} وأبو كبشة اسمه : عمر{[11907]} بن سعد ، ويقال : عامر بن سعد ، والله أعلم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق : حدثنا مَعْمَر ، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال : " لا تسألوا الآيات ، فقد سألها قوم صالح فكانت - يعني الناقة - ترد من هذا الفَجّ ، وتَصْدُر من هذا الفج ، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها ، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما ، فعقروها ، فأخذتهم صيحة ، أهمد{[11908]} الله مَنْ تحت أديم السماء منهم ، إلا رجلا واحدًا كان في حرم الله " . فقالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : " أبو رِغال . فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه " {[11909]}
وهذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة ، وهو على شرط مسلم .
فقوله تعالى : { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا } أي : ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا ، { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } جميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] وقال [ تعالى ]{[11910]} { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] .
وقوله : { قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً } أي : قد جاءتكم حجة من الله على صدق ما جئتكم به . وكانوا هم الذين سألوا صالحا أن يأتيهم بآية ، واقترحوا عليه أن تخرج لهم من صخرة صمَاء عَيّنوها بأنفسهم ، وهي صخرة منفردة في ناحية الحِجْر ، يقال لها : الكَاتبة ، فطلبوا منه{[11911]} أن يخرج لهم منها ناقة عُشَراء تَمْخَضُ ، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه ؟ فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم ، قام صالح ، عليه السلام ، إلى صلاته ودعا الله ، عز وجل ، فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جَوْفاء وَبْرَاء يتحرك جنينها بين جنبيها ، كما سألوا ، فعند ذلك آمن رئيس القوم وهو : " جُندَع بن عمرو " ومن كان معه على أمره{[11912]} وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا فصدهم " ذُؤاب بن عمرو بن لبيد " " والحباب " صاحب أوثانهم ، ورباب بن صمعر بن جلهس ، وكان ل " جندع بن عمرو " ابن عم يقال له : " شهاب بن خليفة بن محلاة بن لبيد بن حراس " ، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها ، فأراد أن يسلم أيضا فنهاه أولئك الرهط ، فأطاعهم ، فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود ، يقال له مهوس{[11913]} بن عنمة بن الدميل ، رحمه الله :
وكانت عُصْبةٌ من آل عَمْرو*** إلى دين النبيّ دَعَوا شِهَابا
عَزيزَ ثَمُودَ كُلَّهمُ جميعا *** فَهَمّ بأن يُجِيبَ فلو{[11914]} أجابا
لأصبحَ صالحٌ فينا عَزيزًا *** وما عَدَلوا بصاحبهم ذُؤابا
ولكنّ الغُوَاة من آل حُجْرٍ *** تَوَلَّوْا بعد رُشْدهم ذئابا
فأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة ، تشرب ماء بئرها يوما ، وتدعه لهم يوما ، وكانوا يشربون لبنها يوم{[11915]} شربها ، يحتلبونها فيملئون ما شاءوا من أوعيتهم وأوانيهم ، كما قال في الآية الأخرى : { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ } [ القمر : 28 ] وقال تعالى : { هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [ الشعراء : 155 ] وكانت تسرح في بعض تلك الأودية ترد من فَجّ وتصدر من غيره ليسعها ؛ لأنها كانت تتضلَّع عن الماء ، وكانت - على ما ذكر - خَلْقًا هائلا ومنظرًا رائعًا ، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها . فلما طال عليهم واشتد تكذيبهم لصالح النبي ، عليه السلام ، عزموا على قتلها ، ليستأثروا بالماء كل يوم ، فيقال : إنهم اتفقوا كلهم على قتلها{[11916]}
قال قتادة : بلغني أن الذي قتل الناقة طاف عليهم كلهم ، أنهم راضون بقتلها حتى على النساء في خدورهن ، وعلى الصبيان [ أيضا ]{[11917]}
قلت : وهذا هو الظاهر ؛ لأن الله تعالى يقول : { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا } [ الشمس : 14 ] وقال : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا } [ الإسراء : 59 ] وقال : { فَعَقَرُوا النَّاقَةَ } فأسند ذلك على مجموع القبيلة ، فدل على رضا جميعهم بذلك ، والله أعلم .
وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله ، وغيره من علماء التفسير في سبب قتل الناقة : أن امرأة منهم يقال لها : " عنيزة ابنة غنم بن مِجْلِز " وتكنى أم غَنَمْ{[11918]} كانت عجوزا كافرة ، وكانت من أشد الناس عداوة لصالح ، عليه السلام ، وكانت لها بنات حسان ومال جزيل ، وكان زوجها ذُؤاب بن عمرو أحد رؤساء ثمود ، وامرأة أخرى يقال لها : " صدوف بنت المحيا بن دهر{[11919]} بن المحيا " ذات حسب ومال وجمال ، وكانت تحت رجل مسلم من ثمود ، ففارقته ، فكانتا تجعلان لمن التزم لهما بقتل الناقة ، فدعت " صدوف " رجلا يقال له : " الحباب " وعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة ، فأبى عليها . فدعت ابن عم لها يقال له : " مصدع بن مهرج بن المحيا " ، فأجابها إلى ذلك - ودعت " عنيزة بنت غنم " قدار بن سالف بن جُنْدَع{[11920]} وكان رجلا أحمر أزرق قصيرًا ، يزعمون أنه كان ولد زنية ، وأنه لم يكن من أبيه الذي ينسب إليه ، وهو سالف ، وإنما هو{[11921]} من رجل يقال له : " صهياد " {[11922]} ولكن ولد على فراش " سالف " ، وقالت له : أعطيك أي بناتي شئتَ على أن تعقر{[11923]} الناقة ! فعند ذلك ، انطلق " قدار بن سالف " " ومصدع بن مهرج " ، فاستفزا غُواة من ثمود ، فاتبعهما سبعة نفر ، فصاروا تسعة رهط ، وهم الذين قال الله تعالى : { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ } [ النمل : 48 ] وكانوا رؤساء في قومهم ، فاستمالوا القبيلة الكافرة بكمالها ، فطاوعتهم على ذلك ، فانطلقوا فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء ، وقد كمن لها " قدار " في أصل صخرة على طريقها ، وكمن لها " مصدع " في أصل أخرى ، فمرت على " مصدع " فرماها بسهم ، فانتظم به عضَلَة ساقها وخرجت " أم غَنَم عنيزة " ، وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس وجها ، فسفرت عن وجهها لقدار وذمّرته فشدّ على الناقة بالسيف ، فكسفَ{[11924]} عرقوبها ، فخرت ساقطة إلى الأرض ، ورغت رَغاة واحدة تحذر سَقْبَها ، ثم طعن في لَبَّتها فنحرها ، وانطلق سَقْبَها - وهو فصيلها - حتى أتى جبلا منيعًا ، فصعد أعلى صخرة فيه ورغا - فروى عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عمن سمع الحسن البصري أنه قال :
يا رب أين أمي ؟ ويقال : إنه رغا ثلاث مرات . وإنه دخل في صخرة فغاب فيها ، ويقال : بل اتبعوه فعقروه مع أمه ، فالله أعلم{[11925]}
فلما فعلوا ذلك وفرغوا من عقر الناقة ، بلغ الخبر صالحا ، عليه السلام ، فجاءهم وهم مجتمعون ، فلما رأى الناقة بكى وقال : { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ{[11926]} ] } [ هود : 65 ] وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء ، فلما أمسى أولئك التسعة الرهط عزموا على قتل صالح [ عليه السلام ]{[11927]} وقالوا : إن كان صادقًا عَجَّلناه قبلنا ، وإن كان كاذبًا ألحقناه بناقته ! { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ . وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا }{[11928]} الآية . [ النمل : 49 - 52 ]
فلما عزموا على ذلك ، وتواطؤوا عليه ، وجاءوا من الليل ليفتكوا بنبي الله صالح ، أرسل الله ، سبحانه وتعالى ، وله العزة ولرسوله ، عليهم حجارة فرضَختهم سلفا وتعجيلا قبل قومهم ، وأصبح ثمود يوم الخميس ، وهو اليوم الأول من أيام النَّظرة ، ووجوههم مصفرة كما وعدهم صالح ، عليه السلام ، وأصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل ، وهو يوم الجمعة ، ووجوههم محمرة ، وأصبحوا{[11929]} في اليوم الثالث من أيام المتاع{[11930]} وهو يوم السبت ، ووجوههم مسودة ، فلما أصبحوا من يوم الأحد وقد تحَنَّطوا وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه ، عياذا بالله من ذلك ، لا يدرون ماذا يفعل بهم ، ولا كيف يأتيهم العذاب ؟ و[ قد ]{[11931]} أشرقت الشمس ، جاءتهم صيحة من السماء ورَجْفة شديدة من أسفل منهم ، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس في ساعة واحدة { فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أي : صرعى لا أرواح فيهم ، ولم يفلت منهم أحد ، لا صغير ولا كبير ، لا ذكر ولا أنثى - قالوا : إلا جارية كانت مقعدة - واسمها " كلبة بنة السّلْق " ، ويقال لها : " الزريقة " {[11932]} - وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح ، عليه السلام ، فلما رأت ما رأت من العذاب ، أُطلِقَت رجلاها ، فقامت تسعى كأسرع شيء ، فأتت حيا من الأحياء فأخبرتهم بما رأت وما حل بقومها ، ثم استسقتهم من الماء ، فلما شربت ، ماتت .
قال علماء التفسير : ولم يبق من ذرية ثمود أحد ، سوى صالح ، عليه السلام ، ومن اتبعه ، رضي الله عنهم ، إلا أن رجلا يقال له : " أبو رِغال " ، كان لما وقعت النقمة بقومه مقيما في الحرم ، فلم يصبه شيء ، فلما خرج في بعض الأيام إلى الحلّ ، جاءه حجر من السماء فقتله .
وقد تقدم في أول القصة حديث " جابر بن عبد الله " في ذلك ، وذكروا أن أبا رغال هذا هو والد ثقيف " الذين كانوا يسكنون الطائف{[11933]}
قال عبد الرزاق : قال مَعْمَر : أخبرني إسماعيل بن أمية ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال : " أتدرون من هذا ؟ " فقالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " هذا قبر أبي رغال ، رجل من ثمود ، كان في حرم الله ، فمنعه حرمُ الله عذاب الله . فلما خرج أصابه ما أصاب قومه ، فدفن هاهنا ، ودفن معه غصن من ذهب ، فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم ، فبحثوا عنه ، فاستخرجوا الغصن " .
وقال عبد الرزاق : قال معمر : قال الزهري : أبو رغال : أبو ثقيف{[11934]}
هذا مرسل من هذا الوجه ، وقد روي متصلا من وجه آخر ، كما قال محمد بن إسحاق ، عن إسماعيل بن أمية ، عن بُجَير بن أبي بجير قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، حين خرجنا معه إلى الطائف ، فمررنا بقبر فقال : " هذا قبر أبي رغال ، وهو أبو ثقيف ، وكان من ثمود ، وكان بهذا الحرم فدفع{[11935]} عنه ، فلما خرج [ منه ]{[11936]} أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان ، فدفن فيه . وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب ، إن أنتم نبشم عنه أصبتموه [ معه ]{[11937]} فابتدره الناس{[11938]} فاستخرجوا منه الغصن " .
وهكذا رواه أبو داود ، عن يحيى بن معين ، عن وهب بن جرير بن حازم ، عن أبيه ، عن ابن إسحاق ، به{[11939]}
قال شيخنا أبو الحجاج المزي : وهو حديث حسن عزيز{[11940]} {[11941]}
قلت : تفرد بوصله " بُجَيْر بن أبي بجير " هذا ، وهو شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث . قال يحيى ابن معين : ولم أسمع أحدًا روى عنه غير إسماعيل بن أمية .
قلت : وعلى هذا ، فيخشى أن يكون وهم في رفع هذا الحديث ، وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو ، مما أخذه من الزاملتين .
قال شيخنا أبو الحجاج ، بعد أن عرضت عليه ذلك : وهذا محتمل ، والله أعلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر الله ثمود قوم صالح، فقال: {و} أرسلنا {وإلى ثمود أخاهم صالحا}، ليس بأخيهم في الدين، ولكن أخوهم في النسب، {قال يا قوم اعبدوا الله}... {ما لكم من إله غيره}، يقول: ليس لكم رب غيره، {قد جاءتكم بينة من ربكم}، يعني بالبينة الناقة، فقال: {هذه ناقة الله لكم آية}، لتعتبروا فتوحدوا ربكم، وكانت من غير نسل {فذروها تأكل في أرض الله}، يقول: خلوا عنها فلتأكل حيث شاءت، ولا تكلفكم مؤونة، {ولا تمسوها بسوء}، لا تصيبوها بعقر، {فيأخذكم}، يعني فيصيبكم {عذاب أليم} يعني وجيع في الدنيا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا. وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله. ومعنى الكلام: وإلى بني ثمود أخاهم صالحا... "قال يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إلَه غيرُهُ "يقول: قال صالح لثمود: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له، فما لكم إله يجوز أن تعبدوه غيره، وقد جاءتكم حجة وبرهان على صدق ما أقول وحقيقة ما إليه أدعو من إخلاص التوحيد لله وإفراده بالعبادة دون ما سواه وتصديقي على أني له رسول وبينتي على ما أقول وحقيقة ما جئتكم به من عند ربي، وحجتي عليه هذه الناقة التي أخرجها الله من هذه الهضبة دليلاً على نبوتي وصدق مقالتي، فقد علمتم أن ذلك من المعجزات التي لا يقدر على مثلها أحد إلاّ الله. وإنما استشهد صالح فيما بلغني على صحة نبوّته عند قومه ثمود بالناقة لأنهم سألوه إياها آية ودلالة على حقيقة قوله...
وأما قوله:"وَلا تَمَسّوها بِسُوءٍ" فإنه يقول: ولا تمسوا ناقة الله بعقر ولا نحر، "فيأخذَكُمْ عذابٌ أليمٌ" يعني موجع...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإلى ثمود أخاهم صالحا} قد ذكرنا أنه تحتمل الأخوّة وجوها أربعة: أخوّة النسب وأخوّة الجوهر والشكل على ما يقال: هذا أخو هذا، إذا كان من جوهره وشكله، وأخوّة المودة والخلّة، وأخوّة الدين. ثم يحتمل أن يكون ذكر من أخوّة صالح [أنه] كان أخاهم في النسب أو في الجوهر على ما ذكر في هود، ولا يحتمل أن يكون في المودة والدين. وأما أخوّة النسب فإنها تحتمل لما ذكرنا أن بني آدم كلهم إخوة، وإن [لم] يعدّوا؛ [هم من أولاده].
{قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} قد ذكرنا أن الرسل بأجمعهم، صلوات الله عليهم، إنما بعثوا ليدعوا الخلق إلى وحدانية الله والعبادة له؛ إذ لا معبود سواه، يستحق العبادة من الخلق.
{قد جاءتكم بيّنة من ربكم} قيل فيه بوجهين: قيل: {بيّنة من ربكم} ما ذكر من الناقة جعلها الله تعالى آية لرسالة صالح، وهو [قوله تعالى]: {هذه ناقة الله لكم آية} وقيل: {بيّنة من ربكم} آيات ظهرت لهم على لسان صالح، وجرت على يديه، تدل على رسالة صالح ونبوّته. لكنهم كابروا تلك الآيات في التكذيب، وعاندوا.
{هذه ناقة الله لكم آية} وجه تخصيص إضافة تلك الناقة إلى الله يحتمل وجوها، وإن كانت النّوق كلها لله في الحقيقة: أحدها: لما خصّت تلك بتذكير عبادته تعالى إياهم ووحدانيته تعظيما لها على ما خصّت المساجد بالإضافة إليه بقوله تعالى: {وأن المساجد لله} [الجن: 18] لما جعلت تلك البقاع لإقامة عبادة الله، خصّت بالإضافة إليه لما جعلها الله آية من آياته خارجة عن غيرها من النوق، مخالفة بنيتها بنية غيرها: إما [في] خلقة، وإما في ابتداء إحداثها وإنشائها، أو في أي شيء كان، فأضافها إليه لذلك، والله أعلم. ثم لا يجب أن يتكلف المعنى الذي له جعل الناقة آية؛ لأنه، جل وعلا، لم يبيّن لنا ذلك المعنى، فلو تكلّف ذكر ذلك فلعله يخرّج على خلاف ما كان في الكتب الماضية؛ فهذه القصص وأخبار الأمم الماضية إنما ذكرت في القرآن لتكون آية لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلو ذكرت على خلاف ما كان لهم في ذلك مقال. ويحتمل معنى الإضافة إليه وجها آخر؛ وهو أنه لم يجعل منافع هذه الناقة لهم، ولا جعل عليهم مؤنتها، بل أخبر أن {فذروها تأكل في أرض الله} جعل مؤنتها في ما يخرج من الأرض، وليس كسائر النوق التي جعل مؤنتها عليهم ومنافعها لهم بإزاء ما جعل عليهم من المؤن. فمعنى التخصيص بالإضافة إليه لما لم يشرك [في مؤنتها] أحدا ولا في منافعها، والله أعلم.
{فذروها تأكل في أرض الله} دلالة أن تلك الناقة كان غذاؤها مثل غذاء سائر النوق، وإن كانت خارجة عن طباع سائر النوق من جهة الآية ليعلم أنها، وإن كانت آية لرسالته ودلالة للنبوة فتشابهها لسائر النوق في هذه الجهة لا يخرجها عن حكم الآية. فعلى ذلك الرسل، وإن كانوا ساووا غيرهم من الناس في المطعم والغذاء، لا يمنع ذلك من أن يكونوا رسلا، والله أعلم بذلك.
{ولا تمسّوها بسوء} يحتمل: لا تتعرضوا لها قتلا ولا قطعا ولا عقرا لما ليست هي لكم {فيأخذكم عذاب أليم} وفي مواضع أخر [كقوله تعالى]: {فيأخذكم عذاب قريب} [هود: 64] فهذا يدل على أنه إنما أراد بالعذاب الأليم عذاب الدنيا لا عذاب الآخرة؛ لأنه قد يأخذهم عذاب الآخرة بكفرهم؛ فالوعيد بأخذ العذاب لهم في الدنيا، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "قد جاءتكم بينة من ربكم "فالبينة: العلامة التي تفصل الحق من الباطل من جهة شهادتها به. والبيان هو إظهار المعنى للنفس الذي يفصله من غيره حتى يدركه على ما يقويه كما يظهر نقيضه، فهذا فرق بين البينة والبيان. وقوله "هذه ناقة الله لكم آية" فالناقة الأنثى من الجمال والأصل فيها التوطئة والتذليل من قولهم بعير منوق أي موطأ مذلل، وتنوق في العمل أي جوده كالموطأ المذلل... وإنما قال "ناقة الله" لأنه لم يكن لها مالك سواه تعالى. والآية هي البينة العجيبة بظهور الشهادة ولطف المنزلة. والآية والعبرة والدلالة والعلامة نظائر.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
..غاير الحقُّ -سبحانه- بين الرسل من حيث الشرائع، وجمع بينهم في التوحيد؛ فالشرائع التي هي العبادات مختلفة، ولكن الكل مأمورون بالتوحيد على وجه واحد. ثم أخبر عن إمضاءِ سُنَّتِه تعالى بإرسال الرسل عليهم السلام، وإمهال أُمَمِهم ريثما ينظرون في معجزات الرسل. ثم أخبر عما دَرَجُوا عليه في مقابلتهم الرسل بالتكذيب تسليةً للمصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله -فيما كان يقاسي من بلاء قومه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... قيل: سميت ثمود لقلة مائها، من الثمد وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الشام والحجاز إلى وادي القرى {قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ} آية ظاهرة وشاهد على صحة نبوّتي. وكأنه قيل: ما هذه البينة؟ فقال: {هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً} وآية نصب على الحال، والعامل فيها ما دلّ عليه اسم الإشارة من معنى الفعل، كأنه قيل: أشير إليها آية. ولكم: بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان خاصة وهم ثمود؛ لأنهم عاينوها وسائر الناس أخبروا عنها وليس الخبر كالمعاينة، كأنه قال: لكم خصوصاً، وإنما أضيفت إلى اسم الله تعظيماً لها وتفخيماً لشأنها، وأنها جاءت من عنده مكوّنة من غير فحل وطروقة آية من آياته...
{قد جاءتكم بينة من ربكم} وهذه الزيادة مذكورة في هذه القصة، وهي تدل على أن كل من كان قبله من الأنبياء كانوا يذكرون الدلائل على صحة التوحيد والنبوة، لأن التقليد وحده لو كان كافيا لكانت تلك البينة ههنا لغوا، ثم بين أن تلك البينة هي الناقة.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{ولا تمسّوها بسوء} نهى عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى مبالغة في الأمر وإزاحة للعذر.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
...قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا صَخْر بن جُوَيرية، عن نافع، عن ابن عمر قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها ونصبوا منها القدور. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور، وعلفوا العجينَ الإبلَ، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال:"إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم" وقال [الإمام] أحمد أيضا: حدثنا عفان، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم "وأصل هذا الحديث مُخَرَّج في الصحيحين من غير وجه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... {قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُم} قد علمنا من سنة القرآن وأساليبه في قصص الأنبياء مع أقوامهم أن المراد بها العبرة والموعظة ببيان سنن الله تعالى في البشر وهداية الرسل عليهم الصلاة والسلام لأن حوادث الأمم وضوابط التاريخ مرتبة بحسب الزمان أو أنواع الأعمال.
وقوله:"من ربكم" للإعلام بأنها ليست من فعله ولا مما ينالها كسبه عليه السلام، وكذلك سائر ما يؤيد الله تعالى به الرسل من خوارق العادات، فليعتبر بذلك الجاهلون الذين يظنون أن الخوارق مما يدخل في كسب الصالحين الذين هم دون الأنبياء ولاسيما الذين يسمونهم الأقطاب المتصرفين في الكون، ولو كانت كذلك لم تكن خوارق، ولا آيات من الله تعالى دالة على تصديق الرسل في دعوى النبوة، وعلى كمال اتباع من دونهم لهم فيما جاءوا به من الهداية، إذ كسب العباد ما زال يتفاوت تفاوتا عظيما بتفاوت قوى عضلهم وجوارحهم، وقوى عقولهم وأرواحهم وعزائمهم، وتفاوت علومهم ومعارفهم، ولذلك اشتبهت الآيات على كثير من الناس بالسحر والشعوذة، وما يكون في بعض الناس من التأثر لعلو الهمة وقوة الإرادة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... (قد جاءتكم بينة من ربكم، هذه ناقة الله لكم آية).. والسياق هنا، لأنه يستهدف الاستعراض السريع للدعوة الواحدة، ولعاقبة الإيمان بها وعاقبة التكذيب، لا يذكر تفصيل طلبهم للخارقة، بل يعلن وجودها عقب الدعوة. وكذلك لا يذكر تفصيلاً عن الناقة أكثر من أنها بينة من ربهم، وأنها ناقة الله وفيها آية منه، ومن هذا الإسناد نستلهم أنها كانت ناقة غير عادية، أو أنها أخرجت لهم إخراجاً غير عادي. مما يجعلها بينة من ربهم، ومما يجعل نسبتها إلى الله ذات معنى، ويجعلها آية على صدق نبوته.. ولا نزيد على هذا شيئاً مما لم يرد ذكره من أمرها في هذا المصدر المستيقن -وفيما جاء في هذه الإشارة كفاية عن كل تفصيل آخر.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...ذكر في آية سورة هود أنّ قومه لم يغلظوا له القول كما أغلظت قوم نوح وقوم هود لرسولهم، فقد: {قالوا يا صالح قد كنتَ فينا مرجُوّا قبل هذا أتَنْهَانا أن نعبد ما يَعْبُد آباؤُنا وإننا لفي شكّ ممَّا تدعُونا إليه مُريب} [هود: 62]. وتدلّ آيات القرآن وما فُسّرت به من القصص على أنّ صالحاً أجَّلهم مدّة للتّأمّل وجعل النّاقة لهم آية، وأنّهم تَارَكُوها ولم يُهيجوها زمناً طويلاً. فقد أشعرت مجادلتهم صالحاً في أمر الدّين على أنّ التّعقّل في المجادلة أخذ يدبّ في نفوس البشر، وأنّ غُلواءهم في المكابرة أخذت تقصر، وأنّ قناة بأسهم ابتدأت تلين، للفرق الواضح بين جواب قوم نوح وقوم هود، وبين جواب قوم صالح. ومن أجل ذلك أمهلهم الله ومادّهم لينظروا ويفكّروا فيما يدعوهم إليه نبئهم ولِيَزِنوا أمرهم، وجعل لهم الانكفاف عن مسّ النّاقة بسوء علامة على امتداد الإمهال؛ لأنّ انكفافهم ذلك علامة على أنّ نفوسهم لم تحْنق على رسولهم، فرجاؤه إيمانهم مستمرّ، والإمهال لهم أقطعُ لعذرهم، وأنهض بالحجّة عليهم، فلذلك أخّر الله العذاب عنهم إكراماً لنبيّهم الحريص على إيمانهم بقدر الطّاقة،كما قال تعالى لنوح: {أنّه لم يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون} [هود: 36].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
.. كان بعث صالح بعد هود، وكانت ثمود خلائف لعاد، قال الله تعالى:
{وإلى ثمود أخاهم صالحا}، أي أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا، كما كان لعاد أخوهم هود، وذكر الأخوة في هذا المقام فيه إشارة إلى أنه واحد منهم قد ربط بينهم برباط الأخوة، وكذلك كان يبعث الله تعالى لكل أمة رسولا منهم، كما بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم من أنفسهم.
قال صالح لقومه: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}. هذه دعوة التوحيد، وهي دعوة النبيين أجمعين ودعوة الفطرة، ودعوة المنطق العقلي.
ولقد أردف دعوته إلى الله، بيان أنه مرسل إليهم من الله تعالى، ومعه البينة الدالة على إيمانه؛ ولذا قال لهم: {قد جاءتكم بينة من ربكم}، أي معجزة مبينة من ربكم دالة على رسالته، هذه البينة هي: ناقة آية لكم، أي دليل على الرسالة، ويظهر أنها كانت لها أوصاف خاصة تميزها عن غيرها، قال بعض الناس: إن الله تعالى خلقها من حجر صلد، ولكن لم يثبت ذلك بسند صحيح عمن بين القرآن للناس، ولم يرد بسند صحيح شيء عن أوصاف هذه الناقة، ولكنها على أي حال كانت مميزة عندهم معروفة بشخصها لديهم، ولذا قال لهم: {فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم}، أي: فتركوها تأكل.
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} (من الآية 73 سورة الأعراف): وكلمة "أخاهم "هنا تؤكد أن سيدنا صالحا كان مأنوسا به عند ثمود، ومعروف التاريخ لديهم، وسوابقه في القيم والأخلاق معروفهم لهم تماما وأضيفت ثمود له لأنه أخوهم. وقد جاءت دعوته مطابقة لدعوة نوح وهود.