روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ قَدۡ جَآءَتۡكُم بَيِّنَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡۖ هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَةٗۖ فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٖ فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (73)

{ وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا } عطف على ما سبق من قوله تعالى : { وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ } [ الأعراف : 65 ] موافق له في تقديم المجرور على المنصوب ، وثمود قبيلة من العرب كانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وسميت باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح ، وقيل : ابن عاد بن عوص بن إرم الخ وهو المنقول عن الثعلبي . وقال عمرو بن العلاء : إنما سموا بذلك لقلة مائهم فهو من ثمد الماء إذا قل ، والثمد الماء القليل وورد فيه الصرف وعدمه ، أما الأول : فباعتبار الحي أو لأنه لما كان في الأصل اسماً للجد أو للقليل من الماء كان مصروفاً لأنه علم مذكر أو اسم جنس فبعد النقل حكى أصله ، وأما الثاني : فباعتبار أنه اسم القبيلة ففيه العلمية والتأنيث . وصالح عليه السلام من ثمود فالأخوة نسبية ، وهو على ما قال محيي السنة البغوي ابن عبيد بن آسف بن ماشح بن عبيد بن حاذر بن ثمود وهو أخو طسم وجديس فيما قيل ، وقال وهب : هو ابن عبيد بن جابر بن ثمود بن جابر بن سام بن نوح بعث إلى قومه حين راهق الحلم وكان رجلاً أحمر إلى البياض سبط الشعر فلبث فيهم أربعين عاماً . وقال الشامي : إنه بعث شاباً فدعا قومه حتى شمط وكبر ، ونقل النووي أنه أقام فيهم عشرين سنة ومات بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة .

{ قَالَ قَوْم اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ } قد مر الكلام في نظائره { قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ } أي آية ومعجزة ظاهرة الدلالة شاهدة بنبوتي وهي من الألفاظ الجارية مجرى الأبطح والأبرق في الاستغناء عن ذكر موصوفاتها حالة الإفراد والجمع ، والتنوين للتفخيم أي بينة عظيمة { مّن رَّبّكُمْ } متعلق بمحذوف وقع صفة لبينة على ما مر غير مرة أو بجاءتكم ، و { مِنْ } لابتداء الغاية مجازاً أو للتبعيض إن قدر من بينات ربكم ، والمراد بهذه البينة الناقة وليس هذا الكلام منه عليه السلام أول ما خاطبهم به إثر الدعوة إلى التوحيد بل إنما قاله بعدما نصحهم وذكرهم بنعم الله تعالى فلم يقبلوا كلامه وكذبوه كما ينبىء عن ذلك ما في سورة هود ( 16 ) .

وقوله تعالى : { هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً } استئناف نحوي مسوق لبيان البينة والمعجزة . وجوز أن يكون استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال مقدر تقديره أين هي ؟ وعلى التقديرين لا محل للجملة من الإعراب . وجوز أن يكون بدلاً من { بَيّنَةً } بدل جملة من مفرد للتفسير ولا يخفى بعده ، وإضافة الناقة إلى الاسم الجليل لتعظيمها كما يقال : بيت الله للمسجد بيد أن الإضافة فيه لأدنى ملابسة ولا كذلك ما نحن فيه أو لأنها ليست بواسطة نتاج معتاد وأسباب معهودة كما سيتضح إن شاء الله تعالى لك ولذلك كانت آية وأي آية .

وقيل : لأنها لم يملكها أحد سواه سبحانه . وقيل : لأنها كانت حجة الله على قوم صالح . وانتصاب { ءايَةً } على الحالية من { نَاقَةُ } والعامل فيها معنى الإارة وسماه النحاة العامل المعنوي و { لَكُمْ } بيان لمن هي آية له كما في سقيا لك فيتعلق بمقدر . وجوز أن يكون { نَاقَةُ } بدل من { هذه } أو عطف بيان له أو مبتدأ ثانياً و { لَكُمْ } خبراً فآية حينئذٍ حال من الضمير المستتر فيه والعامل هو أو متعلقه .

{ فَذَرُوهَا } تفريع على كونها آية من آيات الله تعالى . وقيل : على كونها ناقة له سبحانه فإن ذلك مما يوجب عدم التعرض لها أي فاتركوها { تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله } العشب وحذف للعلم به . والفعل مجزوم لأنه جواب الأمر . وقرأ أبو جعفر في رواية عنه { تَأْكُلُ } بالرفع فالجملة حالية أي آكلة . والجار والمجرور متعلق بما عنده أو بالأمر السابق فهما متنازعان . وأضيفت الأرض إلى الله سبحانه قطعاً لعذرهم في التعرض كأنه قيل : الأرض أرض الله تعالى والناقة ناقة الله تعالى فذروا ناقة الله تأكل في أرضه فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من إنباتكم فأي عذر لكم في منعها . وعدم التعرض للشرب للاكتفاء عنه بذكر الأكل . وقيل : لتعميمه له أيضاً كما في قوله

: علفتها تبناً وماءً بارداً *** وقد ذكر ذلك بقوله سبحانه : { لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [ الشعراء : 155 ] .

{ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء } نهى عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالشر الشامل لأنواع الأذى مبالغة في الزجر فهو كقوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم } [ الأنعام : 152 ، والإسراء : 34 ] . والجار والمجرور متعلق بالفعل . والتنكير للتعميم أي لا تتعرضوا لها بشيء مما يسوؤها أصلاً كالطرد والعقر وغير ذلك . وقيل : الجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالاً من فاعل الفعل . والمعنى لا تمسوها مع قصد السوء بها فضلاً عن الإصابة فهو كقوله تعالى : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى } [ النساء : 43 ] . { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } منصوب في جواب النهي . والمعنى لا تجمعوا بين المس وأخذ العذاب إياكم . والأخير وإن لم يكن من صنيعهم حقيقة لكن لتعاطيهم أسبابه كأنه من صنيعهم .

ومن باب الإشارة :

هذا ولم أقف للسادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم على ما هو من باب الإشارة في قصة قوم لوط عليه السلام ، وذكر بعضهم في قصة قوم صالح عليه السلام بعد الإيمان بالظاهر أن الناقة هي مركب النفس الإنسانية لصالح عليه السلام ونسبتها إليه سبحانه لكونها مأمورة بأمره عز وجل مختصة به في طاعته وقربه . وما قيل : إن الماء قسم بينها وبينهم لها شرب يوم ولهم شرب يوم إشارة إلى أن مشربهم من القوة العاقلة العملية ومشربه من القوة العاقلة النظرية . وما روي أنها يوم شربها كانت تتفحج فيحلب منها اللبن حتى تملأ الأواني إشارة إلى أن نفسه تستخرج بالفكر من علومه الكلية الفطرية العلوم النافعة للناقصين من علوم الأخلاق والشرائع . وخروجها من الجبل خروجها من بدن صالح عليه السلام . وقال آخرون : إن الناقة كانت معجزة صالح عليه السلام وذلك أنهم سألوه أن يخرج لهم من حجارة القلب ناقة السر فخرجت فسقيت سر السر فأعطت بلد القالب من القوى والحواس لبن الواردات الإلهية ثم قال لهم : ذروها ترتع في رياض القدس وحياض الأنس { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء } من مخالفات الشريعة ومعارضات الطريقة { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ الأعراف : 73 ] وهو عذاب الانقطاع عن الوصول إلى الحقيقة .

وذكر البعض أن الناقة والسقب صورتا الإيمان بالله تعالى والإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام وقد ظهرا بالذات وبالواسطة من الحجر الذي تشبهه قلوب القوم وعقرهم للناقة من قبيل ذبح يحيى عليه السلام للموت الظاهر في صورة الكبش يوم القيامة . وفي ذلك دليل على أنهم من أسوأ الناس استعداداً وأتمهم حرماناً . ويدل على سوء حالهم أن الشيخ الأكبر قدس سره لم ينظمهم في «فصوص الحكم » في سلك قوم نوح عليه السلام حيث حكم لهم بالنجاة على الوجه الذي ذكره . وكذا لم ينظم في ذلك السلك قوم لوط عليه السلام وكأن ذلك لمزيد جهلهم وبعدهم عن الحكمة وإتيانهم البيوت من غير أبوابها وقذارتهم ودناءة نفوسهم . والذي عليه المتشرعون أن أولئك الأقوام كلهم حصب جهنم لا ناجي فيهم والله تعالى أحكم الحاكمين .