قوله تعالى : { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة } . قرأ ابن كثير وأبو عمرو " فرهن " بضم الهاء والراء ، وقرأ الباقون " فرهان " ، وهو جمع رهن ، مثل بغل وبغال وجبل وجبال ، والرهن جمع الرهان جمع الجمع ، قاله الفراء والكسائي ، وقال أبو عبيد وغيره : هو جمع الرهن أيضاً ، مثل : سقف وسقف ، وقال أبو عمرو وإنما قرأنا " فرهن " ليكون فرقاً بينهما وبين رهان الخيل ، وقرأ عكرمة " رهن " بضم الراء وسكون الهاء ، والتخفيف والتثقيل في الرهن لغتان مثل كتب وكتب ورسل ورسل ومعنى الآية : وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا الآن فارتهنوا ممن تداينونه رهوناً ، لتكون وثيقة لكم بأموالكم ، واتفقوا على أن الرهن لا يتم إلا بالقبض ، وقوله ( فرهان مقبوضة ) أي ارتهنوا واقبضوا حتى لو رهن ولم يسلم فلا يجبر الراهن على التسليم ، فإذا سلم لزم من جهة الراهن حتى لا يجوز له أن يسترجعه ما دام شيء من الحق باقياً ، ويجوز في الحضر الرهن مع وجود الكاتب ، وقال مجاهد : لا يجوز الرهن إلا في السفر عند عدم الكاتب لظاهر الآية ، وعند الآخرين خرج الكلام في الآية على الأعم الأغلب لا على سبيل الشرط . والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي " . ولم يكن ذلك في السفر ولا عند عدم كاتب .
قوله تعالى : { فإن أمن بعضكم بعضاً } . وفي حرف أبي فإن ائتمن ، يعني فإن كان الذي عليه الحق أميناً عند صاحب الحق فلم يرتهن منه شيئاً لحسن ظنه به .
قوله تعالى : { فليؤد الذي اؤتمن أمانته } . أي فليقضه على الأمانة .
قوله تعالى : { وليتق الله ربه } . في أداء الحق ، ثم رجع إلى خطاب الشهود .
قوله تعالى : { ولا تكتموا الشهادة } . إذا دعيتم إلى إقامتها ، نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه فقال :
قوله تعالى : { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } . أي فاجر قلبه ، قيل : ما وعد الله على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة ، قال { فإنه آثم قلبه } وأراد به مسخ القلب ، نعوذ بالله من ذلك .
قوله تعالى : { والله بما تعملون } . من بيان الشهادة وكتمانها .
ثم بين - سبحانه - ما يجب على المسلمين فعله إذا لم يتمكنوا من كتابة ديونهم بأن كانوا مسافرين وليس معهم كاتب فقال - تعالى - :
{ وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ . . . }
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( 283 )
الرهان : جمع رهن بمعنى مرهون من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول وقرأ ابن كثير وأبو عمر { فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌْْ } وأصل الرهن في كلام العرب يدل على الحبس قال - تعالى - : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } ومعنى الرهن : أن يوضع شيء يناسب قيمةالدين من متاع المدين بيد الدائن توثقه له في دينه ، ليستطيع أن يستوفي حقه من هذا الشيء المرهون عند تعذر الدفع .
والمعنى : وإن كنتم . أيها المؤمنون - مسافرين وتداينتم بدين إلى أجل مسمى ، ولم تجدوا كاتباً يكتب لكم ديونكم ، أو لم تتيسر لكم أسباب الكتابة لأي سبب من الأسباب ، فإنه في هذه الحالة يقوم مقام الكتابة رهان مقبوضة صاحب الدين ضماناً لحقه عند تعذر أخذه من الغريم .
وفي التعبير بقوله : { على سَفَرٍ } استعارة تبعية حيث شبه تمكنهم في السفر بتمكن الراكب من مركوبه . وفيه كذلك إشارة إلى اضطراب الحال ، لأن حال المسافر يغلب عليها التنقل وعدم الاستقرار .
وجملة { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً } معطوفة على فعل الشرط ، أي : وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا ، كاتبا فتكون في محل جزم تقديراً . ويجوز أن تكون الواو للحال والجملة بعدها في محل نصب على الحال .
وقوله : { فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } خبر لمبتدأ محذوف والتقدير : فالذي يستوثق به رهان مقبوضة .
أو مبتدأ محذوف الخبر والتقدير : فعليكم رهان مقبوضة .
ومن الأحكام التي أخذها الفقهاء من هذه الآية الكريمة : أن تعليق الرهان على السفر ليس لكون السفر شرطاً في صحة الرهان ، فإن التعامل بالرهان مشروع في حالتي السفر والحضر ، وإنما علق هنا على السفر لأنه مظنة تعسر الكتابة لما فيه من التنقل وعدم الاستقرار . وقد ثبت في الصحيحين عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقاً من شعير رهنها قوتاً لأهله " .
ومن الواضح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رهن درعه لليهودي كان مقيماً ولم يكن مسافرا .
قال القرطبي : " ولم يروا عن أحد منع الرهن في الحضر سوى مجاهد والضحاك وداود الأحوال . وليس كون الرهن في الآية في السفر مما يحظر في غيره " .
كذلك أخذ بعض الفقهاء من قوله : { فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } أن الرهن لا يتم إلا بالقبض ، فإذا افترق المتعاقدان من غير قبض كان الرهن غير صحيح بنص الآية وهذا مذهب الأحناف والشافعية ، ويرى المالكية والحنابلة أن الرهن يتم من غير القبض ، لأن القبض حكم من أحكامه ، فمن حق الدائن بعد تمام عقد الرهن أن يطالب بقبض العين المرهونة ، فالقبض حكم من أحكام العقد ، وليس ركنا من أركانه ولا شرطاً لتمامه .
وقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ الله رَبَّه } تفريع على أحكام الديون السابقة ، وحض على أداء الأمانة وعلى حسن المعاملة .
أي : فإن أمن الدائن المدين واعتمد على ذمته ووفائه ولم يوثق الدين بالكتابة والشهود والرهن ، فعلى المدين أن يكون عند حسن ظن الدائن به بأن يؤدي ما عليه من ديون في الموعد المحدد بدون تسويف أو مماطلة ، وعليه كذلك أن يتقي الله ربه في رعاية حقوق غيره فلا يجحدها ولا يتأخر في أدائها لأن الهل العليم بكل شيء سيحاسب كل إنسان بما قدمت يداه .
وعبر - سبحانه - بقوله : { فَإِنْ أَمِن } دون أو أودع ، للإِشارة إلى الجانب الذي اعتمد عليه الدائن في المدين وهو خلق الأمانة ، فهو لا يرى فيه إلا جانباً مأموناص لا يتوقع منه شراً أو خيانة ، وللتنبيه إلى أن صفة الأمانة والوفاء من الصفات التي يجب أن يتحلى بها المؤمنون جميعاً حتى ينالوا السعادة في دينهم ودنياهم ، عبر بقوله : { فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن } ولم يقل فليؤد المدين لحضه : على الأداء بأحسن أسلوب ، لأنه ما دام الدائن قد ائتمنه على ما أعطاه من ديون ، فعلى هذا الذي اؤتمن وهو المدين أن يكون عند حسن الظن به وأن يرد إليه حقه في موعده مع شكره على حسن ظنه به .
وقوله : { أَمَانَتَهُ } أي دينه . والضمير يصح أن يعود إلى الدائن باعتباره مالك الدين ، وإلى المدين باعتبار أن الدين عليه ، وفي إضافتها - أي الأمانة - إلى المدين إشعار له بأنها عبء في ذمته يجب أن يؤديه حتى يتخلص من تكاليفه ، إذ الأمانة عبء ثقيل عند العقلاء الذين يشعرون بالمسئولية نحو أنفسهم ونحو غيرهم .
وجمع - سبحانه - بين صفتي الألوهية والربوبية في قوله : { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّه } للمبالغة في التحذير من الخيانة والمماطلة فإنهما يغضبان الله - تعالى - الذي خلق الإِنسان ورباه وأسبغ عليه نعمه الظاهرة والباطنة ، ولإِشعار هذا المدين بأن التقوى هي الوثيقة الكبرى التي لا تعدها وثيقة أخرى في كتابة أو شهادة أو رهان .
وبذلك نرى لوناً من ألوان التدرج الحكيم في شريعة الله - تعالى - فأنت ترى أن الله - تعالى - قد بين قبل ذلك أن الكتابة في الديون والإِشهاد عليها مطلوبان ، فإن تعذرت الكتابة والشهادة لسبب من الأسباب فإنه يترخص حينئذ بالرهن المقبوض .
فإن تعذر على المدين المحتاج أن يدفع للدائن رهنا يكون الاعتماد على الأمانة التي هي صفة من صفات الصادقين .
فياله من تشريع حكيم - بين الناس ما يصلح شأنهم في دنيهم وفي دنياهم .
ثم أمر الله تعالى - عباده بأن يؤدوا الشهادة على وجهها وألا يكتموها فقال - تعالى - { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } أي : وعليكم - أيها المؤمنون - ألا تمتنعوا عن أدائها إذا دعيتم إليها وألا تخفوها فإن الذي يخفيها ويمتنع عن أدائها يكون معاقباً من الله - تعالى - بسبب ارتكابه لما نهى عنه .
وقد أسند - سبحانه - الإِثم إلى القلب خاصة مع أن الإِثم يسند إلى الشخص ، لأن الإِثم في كتمان الشهادة عمل القلب لا عمل الجوارح ، ولأن القلب أساس كل خير وكل شر ، ففي الحديث الشريف : " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا اقتصر على قوله { فَإِنَّهُ آثِمٌ } وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده ؟ قلت : كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها . فلما كان إثما مقترنا بالقلب أسند إليه لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد : هذا مما أبصرته عيني ، ووعاه قلبي . ولأن القلب هو رئيس الأعضاء فكأنه قيل : ومن يكتمها فقد تمكن الإِثم من أصل نفسه ، وملك أشرف مكان فيه : ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام التي تتعلق باللسان فقط . وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعند اقترافه ، واللسان ترجمان عنه . ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح ، وهي لها كالأصول التي تتشعب عنها . ألأا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإِيمان والكفر . وهما من أفعال القلوب فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلبو فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب .
وقوله : ( آثم ) خبر إن و ( قلبه ) رفع بآثم على الفاعلية كأنه قيل : فإنه يأثم قلبه . ويجوز أن يرتفع قلبه بالابتداء . وآثم خبر مقدم . والجملة خبر إن والضير للشأن .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } أي : والله - تعالى - عليهم بكل أعمالكم وأقوالكم وسائر شئونكم وسيجازي المسحنين إحساناً ، والمسيئين سوءاً فعليكم أيها المؤمنون أن تستجيبوا لأوامر الله ، وأن تجتنبوا ما نهاكم عنه حتى تكونوا من السعداء .
فالجلمة الكريمة تذييل قصد به الوعد الحسن للمؤمنين الصادقين ، والوعيد الشديد للعصاة المسيئين ، حتى يزداد المؤمنون إيمانا ، ويقع العصاة عن عصيانهم وسيئاتهم .
يقول تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ } أي : مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى { وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا } يكتب لكم . قال ابن عباس : أو وجدوه ولم يجد قرطاسًا أو دواة أو قلمًا فَرُهُن مقبوضة ، أي : فَلْيكن بدل الكتابة رِهَان مقبوضة في يد صاحب الحق .
وقد استدل بقوله : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَة } على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض ، كما هو مذهب الشافعي والجمهور ، واستدل بها آخرون على أنه لا بد أن يكون الرهن مقبوضًا في يد المرتهن ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وذهب إليه طائفة .
واستدل آخرون من السلف بهذه الآية على أنه لا يكون الرهن مشروعا إلا في السفر ، قاله مجاهد وغيره .
وقد ثبت في الصحيحين ، عن أنس ، أن رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم تُوفِّي وَدِرْعُه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وَسْقًا من شعير ، رهنها قوتًا لأهله{[4701]} . وفي رواية : من يهود المدينة{[4702]} . وفي رواية الشافعي : عند أبي الشحم اليهودي{[4703]} . وتقرير هذه المسائل في كتاب " الأحكام الكبير " ، ولله الحمد والمنة ، وبه
وقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } روى ابنُ أبي حاتم بإسناد جيد ، عن أبي سعيد الخدري أنه قال : هذه نسخت ما قبلها .
وقال الشعبي : إذا ائتمن بعضكم{[4704]} بعضًا فلا بأس ألا تكتبوا أو لا تُشهدوا .
وقوله : { وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّه } يعنى : المؤتَمن ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من رواية قتادة ، عن الحسن ، عن سَمُرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " {[4705]} .
وقوله : { وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَة } أي : لا تخفوها وتغلوها ولا تظهروها . قال ابن عباس وغيره : شهادة الزور من أكبر الكبائر ، وكتمانها كذلك . ولهذا قال : { وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } قال السدي : يعني : فاجر قلبه ، وهذه كقوله تعالى : { وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ } [ المائدة : 106 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [ النساء : 135 ] ، وهكذا قال هاهنا : { وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } .
{ وَإِن كُنتُمْ عَلَىَ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته القراء في الأمصار جميعا «كاتبا » ، بمعنى : ولم تجدوا من يكتب لكم كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى «فرهان مقبوضة » . وقرأ جماعة من المتقدمين : «ولم تجدوا كتابا » ، بمعنى : ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين سبيل ، إما بتعذر الدواة والصحيفة ، وإما بتعذر الكاتب وإن وجدتم الدواة والصحيفة .
والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا هي قراءة الأمصار : { وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبا } بمعنى : من يكتب ، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين ، وإن كنتم أيها المتداينون في سفر بحيث لا تجدون كاتبا يكتب لكم ، ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى بينكم الذي أمرتكم باكتتابه والإشهاد عليه سبيل ، فارتهنوا بديونكم التي تداينتموها إلى الأجل المسمى رهونا تقبضونها ممن تداينونه كذلك ليكون ثقة لكم بأموالكم . ذكر من قال ما قلنا في ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبا فَرُهُنٌ مَقْبُوضةٌ } فمن كان على سفر فبايع بيعا إلى أجل فلم يجد كاتبا فرخص له في الرهان المقبوضة ، وليس له إن وجد كاتبا أن يرتهن .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبا } يقول : كاتبا يكتب لكم ، «فرهان مقبوضة » .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قال : ما كان من بيع إلى أجل ، فأمر الله عزّ وجلّ أن يكتب ويشهد عليه وذلك في المقام ، فإن كان قوم على سفر تبايعوا إلى أجل فلم يجدوا ( كاتبا ) ، فرهان مقبوضة .
ذكر قول من تأوّل ذلك على القراءة التي حكيناها :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس : فإن لم تجدوا كتابا ، يعني بالكتاب : الكاتب والصحيفة والدواة والقلم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني أبي ، عن ابن عباس أنه قرأ : «فإن لم تجدوا كتابا » ، قال : ربما وجد الرجل الصحيفة ولم يجد كاتبا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، كان يقرؤها : «فإن لم تجدوا كتابا » ، ويقول : ربما وجد الكاتب ولم توجد الصحيفة أو المداد ، ونحو هذا من القول .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيج ، عن مجاهد : «وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كِتابا » يقول : مدادا ، يقرؤها كذلك ، يقول : فإن لم تجدوا مدادا ، فعند ذلك تكون الرهون المقبوضة ، { فرهان مقبوضة } ، قال : لا يكون الرهن إلا في السفر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن شعيب بن الحبحاب ، قال : إن أبا العالية كان يقرؤها : «فإن لم تجدوا كتابا » ، قال أبو العالية : توجد الدواة ولا توجد الصحيفة .
واختلف القراء في قراءة قوله : { فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ } فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } بمعنى جماع رهن ، كما الكباش جماع كبش ، والبغال جماع بغل ، والنعال جماع نعل . وقرأ ذلك جماعة آخرون : «فَرُهُنٌ مقبوضة » على معنى جمع رِهَان ورُهْن جمع الجمع ، وقد وجهه بعضهم إلى أنها جمع رهن مثل سَقْف وسُقُف . وقرأه آخرون : { فرُهْنٌ } مخففة الهاء ، على معنى جماع رَهْن ، كما تجمع السقف سُقْفا¹ قالوا : ولا نعلم اسما على فعل يجمع على فُعُل وفُعْل إلا الرّهْنْ والرّهْن والسّقُف والسّقْف .
والذي هو أولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأه : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } لأن ذلك الجمع المعروف لما كان من اسم على فَعْل ، كما يقال حَبْل وحبال وكَعْب وكعاب ، ونحو ذلك من الأسماء . فأما جمع الفَعْل على الفُعُل أو الفُعْل فشاذّ قليل إنما جاء في أحرف يسيرة ، وقيل سَقْف وسُقُف وَسُقْف ، وقَلْب وقُلُب وقُلْب من قلب النخل ، وجَدّ وجُدّ . للجد الذي هو بمعنى الحظّ . وأما ما جاء من جمع فَعْل على فُعْل فَثّطّ وثُطّ ، ووَرْد ووُرْد ، وخَوْد وخُود . وإنما دعا الذي قرأ ذلك : «فَرُهْنٌ مَقْبُوضَةٌ » إلى قراءته فيما أظن كذلك مع شذوذه في جمع فَعْل ، أنه وجد الرّهان مستعملة في رِهان الخيل ، فأحبّ صرف ذلك عن اللفظ الملتبِس برهان الخيل ، الذي هو بغير معنى الرّهان ، الذي هو جمع رَهْن ، ووجد الرّهُن مقولاً في جمع رَهْن ، كما قال قعنب :
بانَتْ سُعادُ وأمْسَى دُوَنها عَدَنُ *** وَغَلِقَتْ عِنْدَها مِنْ قَلْبِكَ الرّهُنُ
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ فَلْيُؤَدّ الّذِي اوءْتُمِنَ أمانَتَهُ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : فإن كان المدين أمينا عند ربّ المال والدين فلم يرتهن منه في سفره رهنا بدينه لأمانته عنده على ماله وثقته ، فَلْيَتّقِ الله المدين ربه ، يقول : فليخف الله ربه في الذي عليه من دين صاحبه أن يجحده ، أو يلطّ دونه ، أو يحاول الذهاب به ، فيتعرّض من عقوبة الله ما لا قبل له به ، وليؤدّ دينه الذي ائتمنه عليه إليه . وقد ذكرنا قول من قال هذا الحكم من الله عزّ وجلّ ناسخ الأحكام التي في الآية قبلها من أمر الله عزّ وجلّ بالشهود والكتاب ، وقد دللنا على أولى ذلك بالصواب من القول فيه فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . وقد :
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { فَإِنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُوءَدّ الّذِي اوءْتُمِنَ أمانَتَهُ } إنما يعني بذلك في السفر ، فأما الحضر فلا وهو واجد كاتبا ، فليس له أن يرتهن ولا يأمن بعضهم بعضا .
وهذا الذي قاله الضحاك ، من أنه ليس لربّ الدين ائتمان المدين وهو واجد إلى الكاتب والكتاب والإشهاد عليه سبيلاً وإن كانا في سفر ، فكما قال لما قد دللنا على صحته فيما مضى قبل .
وأما ما قاله من الأمر في الرهن أيضا كذلك مثل الائتمان في أنه ليس لربّ الحقّ الارتهان بماله إذا وجد إلى الكاتب والشهيد سبيلاً في حضر أو سفر فإنه قول لا معنى له لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه : «اشترى طعاما نَساءً ، ورهن به درعا له » . فجائز للرجل أن يرهن بما عليه ، ويرتهن بماله من حقّ في السفر والحضر ، لصحة الخبر بما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن معلوما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن حين رهن من ذكرنا غير واجد كاتبا ولا شهيدا ، لأنه لم يكن متعذرا عليه بمدينته في وقت من الأوقات الكاتب والشاهد ، غير أنهما إذا تبايعا برهن ، فالواجب عليهما إذا وجدا سبيلاً إلى كاتب وشهيد ، وكان البيع أو الدين إلى أجل مسمى أن يكتبا ذلك ويشهدا على المال والرهن ، وإنما يجوز ترك الكاتب والإشهاد في ذلك حيث لا يكون لهما إلى ذلك سبيل .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَكْتُمُوا الشّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } .
وهذا خطاب من الله عزّ وجلّ للشهود الذين أمر المستدين وربّ المال بإشهادهم ، فقال لهم : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ، ولا تكتموا أيها الشهود بعد ما شهدتم شهادتكم عند الحكام ، كما شهدتم على ما شهدتم عليه¹ ولكن أجيبوا من شهدتم له إذا دعاكم لإقامة شهادتكم على خصمه على حقه عند الحاكم الذي يأخذ له بحقه . ثم أخبر الشاهد جل ثناؤه ما عليه في كتمان شهادته وإبائه من أدائها والقيام بها عند حاجة المستشهد إلى قيامه بها عند حاكم ، أو ذي سلطان ، فقال : { وَمَنْ يَكْتُمْهَا } ، يعني ومن يكتم شهادته ، { فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } ، يقول : فاجر قلبه ، مكتسب بكتمانه إياها معصية الله . كما :
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَلاَ تَكْتُموا الشّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فإِنّهُ آثِمٌ قَلْبهُ } فلا يحلّ لأحد أن يكتم شهادة هي عنده ، وإن كانت على نفسه والوالدين ، ومن يكتمها فقد ركب إثما عظيما .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قوله : { ومَنْ يَكْتُمْها فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْبهُ } يقول : فاجر قلبه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : أكبر الكبائر الإشراك بالله ، لأن الله يقول : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجَنّةَ وَمأوُاهُ النّارُ } وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة ، لأن الله عزّ وجلّ يقول : { وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } .
وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول : على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ويخبر بها حيث استخبر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن محمد بن مسلم ، قال : أخبرنا عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، قال : إذا كانت عندك شهادة فسألك عنها ، فأخبره بها ، ولا تقل : أخبرْ بها عند الأمير أخبره بها لعله يراجع أو يرعوي .
وأما قوله : { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } فإنه يعني بما تعملون في شهادتكم من إقامتها والقيام بها أو كتمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إليها ، وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها ، { عليمٌ } يحصيه عليكم ليجزيكم بذلك كله جزاءكم ، إما خيرا ، وإما شرّا على قدر استحقاقكم .
هذا معطوف على قوله : { إذا تداينتم بدَين } [ البقرة : 282 ] الآية ، فجميع ما تقدّم حكم في الحضر والمُكنة ، فإن كانوا على سفر ولم يتمكّنوا من الكتابة لعدم وجود من يكتب ويشهد فقد شُرع لهم حكم آخر وهو الرهن ، وهذا آخر الأقسام المتوقّعة في صور المعاملة ، وهي حالة السفر غالباً ، ويلحق بها ما يماثل السفر في هاته الحالة .
والرهان جمع رهن ويجمع أيضاً على رُهُن بضم الراء وضم الهاء وقد قرأه جمهور العشرة : بكسر الراء وفتح الهاء ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عَمْرو : بضم الراء وضم الهاء ، وجمْعُه باعتبار تعدّد المخاطبين بهذا الحكم .
والرهن هنا اسم للشيء المرهون تسميةً للمفعول بالمصدر كالخلْق . ومعنى الرهن أن يجعل شيء من متاع المدين بيد الدائن توثقة له في دينه . وأصل الرهن في كلام العرب يدل على الحَبس قال تعالى : { كل نفس بما كسبت رهينة } [ المدثر : 38 ] فالمرهون محبوس بيد الدائن إلى أن يستوفي دينه قال زهير :
وفارقْتَك برهن لا فَكَاكَ لَه *** يومَ الوَدَاعِ فأمسَى الرهن قد غَلِقَا
والرهن شائع عند العرب : فقد كانوا يرهنون في الحمالات والدَيات إلى أن يقع دفعها ، فربّما رهنوا أبناءهم ، وربّما رهنوا واحداً من صناديدهم ، قال الأعشى يَذْكر أنّ كِسْرى رام أخذ رهائن من أبنائهم :
آلَيْتُ لا أُعْطِيه من أبنائنا *** رُهُنا فنفسدَهم كمَن قد أفْسَدا
وقال عبد الله بن هَمَّام السلولي{[202]}
فلمّا خَشِيتُ أظَافِيرَهم *** نَجَوْت وأرْهَنْتُهُم مَالِكَا
ومن حديث كعب بن الأشْرَففِ أنّه قال لعبد الرحمان بن عَوْف : ارْهَنُوني أبْنَاءَكم .
ومعنى فرِهانٌ : أي فرهان تعَوّض بها الكتابة . ووصفُها بمقبوضة إمّا لمجرّد الكشف ، لأنّ الرهان لا تكون إلاّ مقبوضة ، وإمّا للاحتراز عن الرهن للتوثقة في الديون في الحضر فيؤخَذ مِن الإذن في الرهن أنّه مباح فلذلك إذا سأله ربّ الدين أجيبَ إليه فدلّت الآية على أنّ الرهن توثقة في الدين .
والآية دالة على مشروعية الرهن في السفر بصريحها . وأمّا مشروعية الرهن في الحضر فلأنّ تعليقه هنا على حال السفر ليس تعليقاً بمعنى التقييد بل هو تعليق بمعنى الفرض والتقدير ، إذا لم يوجد الشاهد في السفر ، فلا مفهوم للشرط لوروده مورد بيان حالة خاصة لا للاحتراز ، ولا تعتبر مفاهيم القيود إلاّ إذا سيقت مساق الاحتراز ، ولذا لم يعتدّوا بها إذا خرجت مخرج الغالب . ولا مفهوم له في الانتقال عن الشهادة أيضاً ؛ إذ قد علم من الآية أنّ الرهن معاملة لهم ، فلذلك أحيلوا عليها عند الضرورة على معنى الإرشاد والتنبيه .
وقد أخذ مجاهد ، والضحّاك ، وداود الظاهري ، بظاهر الآية من تقييد الرهن بحال السفر ، مع أنّ السنّة أثبتت وقوع الرهن من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه في الحضَر .
والآية دليل على أنّ القبض من متمّمات الرّهن شرعاً ، ولم يختلف العلماء في ذلك ، وإنّما اختلفوا في الأحكام الناشئة عن ترك القبض ، فقال الشافعي : القبض شرط في صحة الرهن ، لظاهر الآية ، فلو لم يقارن عقدة الرهن قبض فسدت العقدة عنده ، وقال محمد بن الحسن ، صاحب أبي حنيفة : لا يجوز الرهن بدون قبض ، وتردّد المتأخّرون من الحنفية في مفاد هذه العبارة ؛ فقال جماعة : هو عنده شرط في الصحة كقول الشافعي ، وقال جماعة : هو شرط في اللزوم قريباً من قول مالك ، واتفق الجميع على أنّ للراهن أن يرجع بعد عقد الرهن إذا لم يقع الحوز ، وذهب مالك إلى أنّ القبض شرط في اللزوم ، لأنّ الرهن عقد يثبت بالصيغة كالبيع ، والقبضُ من لوازمه ، فلذلك يُجبر الراهن على تحويز المرتهن إلاّ أنّه إذا مات الراهن أو أفلس قبل التحويز كان المرتهن أسوةَ الغرماء ؛ إذ ليس له ما يؤثره على بقية الغرماء ، والآية تشهد لهذا لأنّ الله جعل القبض وصفاً للرهن ، فعلم أنّ ماهية الرهن قد تحقّقت بدون القبض . وأهل تونس يكتفون في رهن الرباع والعقار برهن رسوم التملّك ، ويعدّون ذلك في رهن الدين حوزاً . وفي الآية دليل واضح على بطلان الانتفاع ؛ لأنّ الله تعالى جعل الرهن عوضاً عن الشهادة في التوثّق فلا وجه للانتفاع ، واشتراط الانتفاع بالرهن يخرجه عن كونه توثّقاً إلى ماهية البيع .
{ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الذى اؤتمن أمانته وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } .
متفرّع على جميع ما تقدّم من أحكام الدين : أي إنْ أمِنَ كلّ من المتداينين الآخر أي وثق بعضكم بأمانة بعض فلم يطالبه بإشهاد ولا رهن ، فالبعض المرفوع هو الدائن ، والبعض المنصوب هو المدين وهو الذي ائتُمن .
والأمانة مصدر آمنه إذا جعله آمناً . والأمن اطمئنان النفس وسلامتها ممّا تخافه ، وأطلقت الأمانة على الشيء المؤمَّن عليه ، من إطلاق المصدر على المفعول . وإضافة أمانته تشبه إضافة المصدر إلى مفعوله . وسيجيء ذكر الأمانة بمعنى صفةِ الأمين عندَ قوله تعالى : { وأنا لكم ناصح أمين } في سورة الأعراف ( 68 ) .
وقد أطلق هنا اسم الأمانة على الدَّين في الذمّة وعلى الرهن لتعظيم ذلك الحق لأنّ اسم الأمانات له مهابَة في النفوس ، فذلك تحذير من عدم الوفاء به ؛ لأنّه لما سمّي أمانة فعدم أدائه ينعكس خِيانة ؛ لأنّها ضدّها ، وفي الحديث : " أدِّ الأمَانَة إلى من ائتَمنك ولا تَخن من خانك " .
والأداء : الدفع والتوفية ، وردّ الشيء أو رَدُّ مثله فيما لا تقصد أعيانه ، ومنه أداء الأمانة وأداء الدّين أي عدم جحده قال تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } [ النساء : 58 ] .
والمعنى : إذا ظننتم أنّكم في غُنية عن التوثّق في ديونكم بأنّكم أمناء عند بعضكم ، فأعْطُوا الأمانَة حَقَّها .
وقد علمتَ ممّا تقدم عند قوله تعالى : { فاكتبوه } أنّ آية { فإن أمن بعضكم بعضاً فليود الذي أؤتمن أمانته } تعتبر تكميلاً لطلب الكتابة والإشهادِ طلَبَ ندب واستحباب عند الذين حملوا الأمر في قوله تعالى : { فاكتبوه } على معنى الندب والاستحباب ، وهم الجمهور .
ومعنى كونها تكميلاً لذلك الطلب أنّها بيّنت أنّ الكتابة والإشهاد بين المتداينين ، مقصود بهما حسن التعامل بينهما ، فإن بدَا لهما أن يأخذا بهما فنعمَّا ، وإن اكتفيا بما يعلمانه من أمانٍ بينهما فلهما تركهما .
وأتبع هذا البيان بوصاية كلا المتعاملين بأن يؤدّيا الأمانة ويتّقيا الله .
وتقدم أيضاً أنّ الذين قالوا بأنّ الكتابة والإشهاد على الديون كان واجباً ثم نسخ وجوبه ، ادّعوا أنّ ناسخه هو قوله تعالى : { فإن أمن بعضكم بعضاً } الآية ، وهو قول الشعبي ، وابن جريج ، وجابر بن زيد ، والربيع بن سليمان ، ونسب إلى أبي سعيد الخدري .
ومحمل قولهم وقولِ أبي سعيد إن صحّ ذلك عنه أنّهم عنّوا بالنسخ تخصيص عموم الأحوال والأزمنة . وتسميةُ مثل ذلك نسخاً تسمية قديمة .
أمّا الذين يرون وجوب الكتابة والإشهاد بالديون حكمَا مُحْكَما ، ومنهم الطبري ، فقصروا آية { فإن أمن بعضكم بعضاً } الآية على كونها تكملةً لصورة الرهن في السفر خاصة ، كما صرّح به الطبري ولم يأت بكلام واضح في ذلك ولكنّه جمجم الكلام وطَوَاه .
ولَوْ أنّهم قالوا : إنّ هذه الآية تعني حالةَ تعذّر وجود الرهن في حالة السفر ، أي فلم يبق إلاّ أن يأمن بعضكم فالتقدير : فإن لم تجدوا رهناً وأمن بعضكم بعضاً إلى آخره لكان له وجه ، ويُفهم منه أنّه إن لم يأمنه لا يداينه ، ولكن طُوى هذا ترغيباً للناس في المواساة والاتِّسام بالأمانة . وهؤلاء الفرق الثلاثة كلّهم يجعلون هذه الآية مقصورة على بيان حالة ترك التوثّق في الديون .
وأظهر ممّا قالوه عندي : أنّ هذه الآية تشريع مستقلّ يعم جميع الأحوال المتعلّقة بالديون : من إشهاد ، ورهننٍ ، ووفاءٍ بالدّين ، والمتعلّقةِ بالتبايع ، ولهذه النكتة أبهم المؤتمنون بكلمة { بعض } ليشمَل الائتمان من كلا الجانبين : الذي من قبل ربّ الدين ، والذي من قبل المدين .
فربّ الدين يأتمن المدين إذا لم ير حاجة إلى الإشهاد عليه ، ولم يطالبه بإعطاء الرهن في السفر ولا في الحضر .
والمدين يأتمن الدائنَ إذا سَلَّم له رهناً أغلى ثمناً بكثير من قيمة الدين المرتهَن فيه ، والغالب أنّ الرهان تكون أوْفَرَ قيمة من الديون التي أرهنت لأجلها ، فأمر كلّ جانب مؤتمنٍ أن يؤدّي أمانته ، فأداءُ المدين أمانته بدفع الدين ، دون مطل ، ولا جحود ، وأداء الدائن أمانته إذا أعطي رهناً متجاوزَ القيمةِ على الدّين أن يردّ الرهن ولا يجحده غير مكترث بالدّين ؛ لأنّ الرهن أوفر منه ، ولا ينقص شيئاً من الرهن .
ولفظ الأمانة مستعمل في معنيين : معنى الصفة التي يتَّصف بها الأمين ، ومعنى الشيء المؤمَّن .
فيؤخذ من هذا التفسير إبطال غلَق الرهن : وهو أن يصير الشيء المرهون ملكاً لربّ الدّين ، إذا لم يدفع الدينَ عند الأجل ، قال النبي صلى الله عليه وسلم
" لا يَغْلق الرهنُ " وقد كان غَلق الرهن من أعمال أهل الجاهلية ، قال زهير :
وفارقَتْكَ برَهْنٍ لا فَكَاكَ له *** عند الوَداع فأمسى الرهن قد غَلِقا
ومعنى { أمن بعضكم بعضاً } أن يقول كلا المتعاملين للآخر : لا حاجة لنا بالإشهاد ونحن يأمن بعضنا بعضاً ، وذلك كي لا ينتقض المقصد الذي أشرنا إليه فيما مضى من دفع مظنّة اتّهام أحد المتداينين الآخر .
وزيد في التحذير بقوله : { وليتق الله ربه } ، وذِكر اسم الجلالة فيه مع إمكان الاستغناء بقوله : « وليتّق ربّه » لإدخال الرّوع في ضمير السامع وتربية المهابة .
وقوله : { الذي أؤتمن } وقع فيه ياء هي المدة في آخر ( الذي ) ووقع بعده همزتان أولاهما وصلية وهي همزة الافتعال ، والثانية قطعية أصلية ، فقرأه الجمهور بكسر ذال الذي وبهمزة ساكنة بعد كسرة الذال ؛ لأنّ همزة الوصل سقطت في الدرَج فبقيت الهمزة على سكونها ؛ إذ الداعي لقلب الهمزة الثانية مدّا قد زال ، وهو الهمزة الأولى ، ففي هذه القراءة تصحيح للهمزة ؛ إذ لا داعي للإعلال .
وقرأه ورش عن نافع ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر : الّذِيتُمن بياء بعد ذال الذي ، ثم فوقية مضمومة : اعتباراً بأنّ الهمزة الأصلية قد انقلبت واواً بعد همزة الافتعال الوصلية ؛ لأنّ الشأن ضم همزة الوصل مجانسة لحركة تاء الافتعال عند البناء للمجهول ، فلمّا حذفت همزة الوصل في الدرج بقيت الهمزة الثانية واواً بعد كسرة ذال ( الذي ) فقلبت الواو ياء ففي هذه القراءة قلبان .
وقرأه أبو بكر عن عاصم : الذي اوتمن بقلب الهمزة واواً تبعاً للضمة مشيراً بها إلى الهمزة .
وهذا الاختلاف راجع إلى وجه الأداء فلا مخالفة فيه لرسم المصحف .
{ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } .
وصاية ثانية للشهداء تجمع الشهادات في جميع الأحوال ؛ فإنّه أمر أن يكتب الشاهد بالعدل ، ثم نُهي عن الامتناع من الكتابة بين المتداينين ، وأعقَب ذلك بالنهي عن كتمان الشهادة كلّها . فكان هذا النهي بعمومه بمنزلة التذييل لأحكام الشهادة في الدّين .
واعلم أنّ قوله تعالى : { ولا تكتموا الشهادة } نهي ، وأنّ مقتضى النهي إفادة التكرار عند جمهور علماء الأصول : أي تكرارِ الانكفاف عن فعل المنهيّ في أوقات عُروضِ فعله ، ولولا إفادته التكرار لَما تحقّقت معصية ، وأنّ التكرار الذي يقتضيه النهي تكرار يستغرق الأزمنة التي يعرض فيها داععٍ لِفعل المنهيّ عنه ، فلذلك كان حقّاً على من تحمّل شهادة بحقّ ألاّ يكتمه عند عروض إعلانه : بأن يبلغه إلى من ينتفع به ، أو يقضِي به ، كلّما ظهر الداعي إلى الاستظهار به ، أو قبلَ ذلك إذا خشي الشاهد تلاشي ما في علمه : بغيبة أو طُرُوِّ نسيان ، أو عروض موت ، بحسب ما يتوقّع الشاهد أنّه حافظٌ للحقّ الذي في علمه ، على مقدار طاقته واجتهاده .
وإذ قد علمتَ آنفاً أنّ الله أنبأنا بأنّ مراده إقامة الشهادة على وجهها بقوله : { وأقوم للشهادة } [ البقرة : 282 ] ، وأنّه حرّض الشاهد على الحضور للإشهاد إذا طُلب بقوله : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } [ البقرة : 282 ] فعُلم من ذلك كلّه الاهتمام بإظهار الشهادة إظهاراً للحق . ويؤيّد هذا المعنى ويزيده بياناً : قول النبي صلى الله عليه وسلم " ألاَ أخْبِرُكُم بخَيْر الشهداءِ الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألَها " رواه مالك في « الموطّأ » ، ورواه عنه مسلم والأربعة .
فهذا وجه تفسير الآية تظاهرَ فيه الأثر والنظرُ . ولكن روى في « الصحيح » عن أبي هريرة : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خيرُ أمَّتِي القرنُ الذي بُعِثْتُ فيهم ثم الذين يلونهم قالها ثانية وشكّ أبو هريرة في الثالثة ثم يخلف قوم يشهدون قبل أن يستشهدوا " الحديثَ .
وهو مسوق مساق ذَمِّ مَن وصفهم بأنّهم يشهدون قبل أن يُستشهدوا ، وأنّ ذمّهم من أجل تلك الصفة . وقد اختلف العلماء في محمله ؛ قال عياض : حمله قوم على ظاهره من ذمّ من يَشهد قبل أن تطلب منه الشهادة ، والجمهور على خلافه وأنّ ذلك غير قادح ، وحملوا ما في الحديث على ما إذا شهِد كاذباً ، وإلاّ فقد جاء في « الصحيح » : " خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسْألَها " . وأقول : روى مسلم عن عِمران بن حُصَين : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنّ خيركم قرني ثم الذين يلونهم قالها مرتين أو ثلاثاً ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون " الحديث .
والظاهرّ أنّ ما رواه أبو هريرة وما رواه عِمران بن حصين حديث واحد ، سمعه كِلاَهما ، واختلفت عبارتهما في حكايته فيكون لفظ عمران بن حصين مبيّناً لفظ أبي هريرة أنّ معنى قوله : قبل أن يستشهدوا دُونَ أن يستشهدوا ، أي دون أن يستشهدهم مُشهد ، أي أن يحمِلوا شهادة أي يشهدون بما لا يعلمون ، وهو الذي عناه المازري بقوله : وحملوا ما في الحديث أي حديث أبي هريرة على ما إذا شهد كاذباً . فهذا طريق للجمع بين الروايتين ، وهي ترجع إلى حمل المجمل على المبيّن .
وقال النووي : تأوّلَه بعض العلماء بأنّ ذم الشهادة قبل أن يُسألها الشاهد هو في الشهادة بحقوق الناس بخلاف ما فيه حق اللَّه قال النووي : « وهذا الجمع هو مذهب أصحابنا » وهذه طريقة ترجع إلى إعمال كل من الحديثين في باب ، بتأويل كلّ من الحديثين على غير ظاهره ؛ لئلا يلغَى أحدهما .
قلت : وبنى عليه الشافعية فرعا بردّ الشهادة التي يؤدّيها الشاهد قبل أن يُسألها ، ذكره الغزالي في « الوجيز » ، والذي نقل ابن مرزوق في « شرح مُختصر خليل عن الوجيز » « الحرص على الشهادة بالمبادرة قبلَ الدعوى لا تقبل ، وبعد الدعوى وقبل الاستشهاد وجهان فإن لم تقبل فهل يصير مجروحاً وجهان » .
فأما المالكية فقد اختلفَ كلامهم .
فالذي ذهب إليه عياض وابن مرزوق أنّ أداء الشاهد شهادته قبل أن يسألها مقبول لحديث « الموطأ » « خَيْر الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها » ونقل الباجي عن مالك : « أنّ معنى الحديث أن يكون عند الشاهد شهادة لرجل لا يعلم بها ، فيخبره بها ، ويؤدّيها له عند الحاكم » فإنّ مالكاً ذكره في « الموطأ » ولم يذيّله بما يقتضي أنّه لا عمل عليه وتبعَ الباجي ابنُ مرزوق في « شرحه لمختصر خليل » ، وادّعى أنَّه لا يعرف في المذهب ما يخالفه والذي ذهب إليه ابن الحاجب ، وخليلٌ ، وشارحو مختصرَيْهما : أنّ أداء الشهادة قبل أن يطلب من الشاهد أداؤُها مانع من قبولها : قال ابن الحاجب « وفي الأداء يُبدأ به دونَ طلب فيما تمحّض من حق الآدمي قادِحة » وقال خليل عاطفاً على موانع قبول الشهادة : « أوْ رَفَع قبل الطلب في مَحْض حقّ الآدمي » . وكذلك ابن راشد القفصي في كتابه « الفائِق في الأحكام والوثائق » ونسبه النووي في « شرحه على صحيح مسلم لمالك » ، وحمله على أنّ المستند متّحد وهو إعمال حديث أبي هريرة ولعلّه أخذ نسْبة ذلك لمالك من كلام ابن الحاجب المتقدّم .
وادّعى ابن مرزوق أنّ ابن الحاجب تبع ابن شاس إذ قال : « فإن بادر بها من غير طلب لم يقبل » وأنّ ابن شاس أخذه من كلام الغزالي قال : « والذي تقتضيه نصوص المذهب أنّه إنْ رفعها قبل الطلب لم يقدح ذلك فيها بل إن لم يكن فعله مندوباً فلا أقلّ من أن لا تُردّ » واعتضد بكلام الباجي في شرح حديث : خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها .
وقد سلكوا في تعليل المسألة مسلكين : مسلك يرجع إلى الجمع بين الحديثين ، وهو مسلك الشافعية ، ومسلك إعمال قاعدة رَدّ الشهادةِ بتهمة الحرص على العمل بشهادته وأنّه ريبة .
وقوله : { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } زيادة في التحذير . والإثمُ : الذنب والفجور .
والقلب اسم للإدراك والانفعالات النفسية والنَوايا . وأسد الإثم إلى القلب وإنّما الآثم الكاتم لأنّ القلب أي حركات العقل يسبّب ارتكاب الإثم : فإنّ كتمان الشهادة إصْرار قلبي على معصية ، ومثله قوله تعالى : { [ الأعراف : 116 ] وإنّما سحَروا الناس بواسطة مرئيات وتخيّلات وقول الأعشى :
كذلكَ فافعل ما حييتَ إذا شَتَوْا *** وأقْدِمْ إذَا ما أعْيُنُ الناسِ تَفْرق
لأنْ الفرَق ينشأ عن رؤية الأهوال .
وقوله : { والله بما تعملون عليم } تهديد ، كناية عن المجازاة بمثل الصنيع ؛ لأنّ القادر لا يحُول بينه وبين المؤاخذة إلاّ الجهل فإذا كان عليماً أقام قسطاس الجزاء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة}: إذا لم يكن الكاتب والصحيفة حاضرين، فليرتهن الذي عليه الحق من المطلوب.
{فإن أمن بعضكم بعضا}: في السفر، فإن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق، فلم يرتهن منه لثقته به وحسن ظنه، {فليؤد} ذلك {الذي اؤتمن أمانته}: ليرد على صاحب الحق حقه حين ائتمنه ولم يرتهن منه.
ثم خوفه الله عز وجل، فقال: {وليتق الله ربه}: الذي عليه الحق.
ثم رجع إلى الشهود، فقال: {ولا تكتموا الشهادة} عند الحاكم، يقول: من أشهد على حق، فليشهد بها على وجهها كما كانت عند الحاكم، فلا تكتموا الشهادة، قال: {ومن يكتمها} ولا يشهد بها عند الحاكم، {فإنه آثم قلبه والله بما تعملون} من كتمان الشهادة وإقامتها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وإن كنتم أيها المتداينون في سفر بحيث لا تجدون كاتبا يكتب لكم، ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى بينكم الذي أمرتكم باكتتابه والإشهاد عليه سبيل، فارتهنوا بديونكم التي تداينتموها إلى الأجل المسمى رهونا تقبضونها ممن تداينونه كذلك ليكون ثقة لكم بأموالكم.
{فَإِنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤتمن أمانَتَهُ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ}.
فإن كان المدين أمينا عند ربّ المال والديْن فلم يرتهن منه في سفره رهنا بدينه لأمانته عنده على ماله وثقته، فَلْيَتّقِ الله المدين ربه، يقول: فليخف الله ربه في الذي عليه من ديْن صاحبه أن يجحده، أو يلطّ دونه، أو يحاول الذهاب به، فيتعرّض من عقوبة الله ما لا قِبل له به، وليؤدّ دينه الذي ائتمنه عليه إليه. عن الضحاك في قوله: {فَإِنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فليؤد الّذِي اؤتمن أمانَتَهُ} إنما يعني بذلك في السفر، فأما الحضر فلا وهو واجد كاتبا، فليس له أن يرتهن ولا يأمن بعضهم بعضا.
وهذا الذي قاله الضحاك، من أنه ليس لربّ الدين ائتمان المدين وهو واجد إلى الكاتب والكتاب والإشهاد عليه سبيلاً وإن كانا في سفر، فكما قال لما قد دللنا على صحته فيما مضى قبل.
وأما ما قاله من الأمر في الرهن أيضا كذلك مثل الائتمان في أنه ليس لربّ الحقّ الارتهان بماله إذا وجد إلى الكاتب والشهيد سبيلاً في حضر أو سفر فإنه قول لا معنى له لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: «اشترى طعاما نَساءً، ورهن به درعا له». فجائز للرجل أن يرهن بما عليه، ويرتهن بماله من حقّ في السفر والحضر، لصحة الخبر بما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن معلوما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن حين رهن من ذكرنا غير واجد كاتبا ولا شهيدا، لأنه لم يكن متعذرا عليه بمدينته في وقت من الأوقات الكاتب والشاهد، غير أنهما إذا تبايعا برهن، فالواجب عليهما إذا وجدا سبيلاً إلى كاتب وشهيد، وكان البيع أو الدين إلى أجل مسمى أن يكتبا ذلك ويشهدا على المال والرهن، وإنما يجوز ترك الكاتب والإشهاد في ذلك حيث لا يكون لهما إلى ذلك سبيل.
{وَلا تَكْتُمُوا الشّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}:
وهذا خطاب من الله عزّ وجلّ للشهود الذين أمر المستدين وربّ المال بإشهادهم، فقال لهم: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا، ولا تكتموا أيها الشهود بعد ما شهدتم شهادتكم عند الحكام، كما شهدتم على ما شهدتم عليه¹ ولكن أجيبوا من شهدتم له إذا دعاكم لإقامة شهادتكم على خصمه على حقه عند الحاكم الذي يأخذ له بحقه. ثم أخبر الشاهد جل ثناؤه ما عليه في كتمان شهادته وإبائه من أدائها والقيام بها عند حاجة المستشهد إلى قيامه بها عند حاكم، أو ذي سلطان، فقال: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا}، يعني ومن يكتم شهادته، {فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}، يقول: فاجر قلبه، مكتسب بكتمانه إياها معصية الله. {وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}: بما تعملون في شهادتكم من إقامتها والقيام بها أو كتمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إليها، وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها، {عليمٌ} يحصيه عليكم ليجزيكم بذلك كله جزاءكم، إما خيرا، وإما شرّا على قدر استحقاقكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الأمر بالكتابة والإشهاد -والله أعلم- لحفظ الحقوق ما جل منها، وما دق، ولئلا يحملهم على الإنكار والجحد... [فعلى] ذلك الأمر بالرهان، لئلا يؤخروا قضاء الدين، ويذكروه ولا ينسوه... ثم فيه دلالة على أنه لا يجوز الرهن إلا مقبوضا؛ لأن الرهن يقبض لأمرين:
[أحدهما]: لأنه إذا كان مقبوضا محبوسا عن صاحبه عن جميع أنواع منافعه ذكره، وقضاء دينه، وإذا كان في يديه لم يتقاضه على ذلك. لذلك قلنا: إنه لا يجوز إلا مقبوضا.
والثاني: إنما يقبض ليستوفي... بعد القبض، أو يؤخذ الدين منه من غير بخس فيه، ولا منع عنه...
{فإن أمن بعضكم بعضا فليود الذي أؤتمن أمانته} فيه دلالة ضمان الرهن: دلالة استيفاء الدين من الرهن لأنه إنما ذكر الأداء في ما أمن بعضهم بلا رهن، ولم يذكر الأداء في ما فيه الرهن. فلولا أن جعل في الرهن استيفاء الحق والدين، وإلا لذكر الأداء فيما كما ذكر في أن لا رهن، فدل أنه مضمون به إن هلك هلك به...
وأيضا... فيه دليل لقولهم في الشركات: إنه يكتب اشتراكا على تقوى الله وأداء الأمانة في ما ائتمن. وقوله تعالى: {ولا تكتموا الشهداء ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} ذكر إثم القلب، والإثم موضعه القلب، لكنه يشفع في الجروح، ويظهر، على ما روي [عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال]: أن في النفس مضغة إذا صلحت صلح البدن، وإذا فسدت فسد البدن) [البخاري 52]...
وفيه دلالة أن المآثم تعمد القلوب بأي شيء كان. فلذلك وصف القلب بأنه آثم، وهو كقوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة: 225] وكذلك قوله عز وجل: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب: 5]...
وآية الدَّيْنِ بما فيها من ذكر الاحتياط بالكتاب والشهود المرضيين والرهن، تنبيهٌ على موضع صلاح الدِّين والدنيا معه، فأما في الدنيا فصلاح ذات البين ونفي التنازع والاختلاف، وفي التنازع والاختلاف فسادُ ذات البَيْنِ وذهاب الدِّينِ والدنيا؛ قال الله عز وجل: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} [الأنفال: 46] وذلك أن المطلوب إذا علم أن عليه ديناً وشهوداً أو كتاباً أو رهناً بما عليه وثيقة في يد الطالب قلَّ الخلافُ، عِلْماً منه أن خلافه وبَخْسَهُ لحقّ المطلوب لا ينفعه بل يظهر كذبه بشهادة الشهود عليه وفيه وثيقة واحتياط للطالب، وفي ذلك صلاحٌ لهما جميعاً في دينهما ودنياهما لأن في تركه بَخْسَ حقّ الطالب صلاحَ دِينه وفي جُحوده وبخسه ذهابَ دينه إذا علم وجوبه؛ وكذلك الطالب إذا كانت له بيّنةٌ وشهودٌ أثبتوا ما له، وإذا لم تكن له بيّنة وجحد الطالب حمله ذلك على مقابلته بمثله والمبالغة في كَيدِه حتى ربما لم يَرْضَ بمقدار حقّه دون الإضرار به في أضعافه متى أمكنه؛ وذلك متعالَمٌ من أحوال عامة الناس...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) قيل: ما أوعد الله تعالى على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة، فإنه قال: (فإنه آثم قلبه) وأراد به مسخ القلب، ونعوذ بالله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: هلا اقتصر على قوله: {فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ}؟ وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده؟ قلت: كتمان الشهادة: هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان إثماً مقترفاً بالقلب أسند إليه، لأنّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني، ومما عرفه قلبي، ولأنّ القلب هو رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل: فقد تمكن الإثم في أصل نفسه، وملك أشرف مكان فيه. ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط، وليعلم أنّ القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه، واللسان ترجمان عنه. ولأنّ أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح وهي لها كالأصول التي تتشعب منها. ألا ترى أنّ أصل الحسنات والسيآت الإيمان والكفر، وهما من أفعال القلوب، فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله تعالى: {فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة} [المائدة: 72] وشهادة الزور، وكتمان الشهادة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان، عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب، وجعل لها الرهن ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو الغالب من الأعذار، لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر، فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل، وأيضاً فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن...
وقد قال جمهور من العلماء: الرهن في السفر ثابت في القرآن، وفي الحضر ثابت في الحديث...
{ولا تكتموا الشهادة} نهي على الوجوب بعدة قرائن، منها الوعيد وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق، وقال ابن عباس على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ويخبر حيثما استخبر، قال ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي.
وهذا عندي بحسب قرينة حال الشاهد والمشهود فيه والنازلة، لا سيما مع فساد الزمن وأرذال الناس ونفاق الحيلة وأعراض الدنيا عند الحكام، فرب شهادة إن صرح بها في غير موضع النفوذ كانت سبباً لتخدم باطلاً ينطمس به الحق...
اعلم أنه تعالى جعل البياعات في هذه الآية على ثلاثة أقسام: + بيع بكتاب وشهود. + وبيع برهان مقبوضة. + وبيع الأمانة. ولما أمر في آخر الآية المتقدمة بالكتبة والإشهاد، واعلم أنه ربما تعذر ذلك في السفر إما بأن لا يوجد الكاتب، أو إن وجد لكنه لا توجد آلات الكتابة ذكر نوعا آخر من الاستيثاق وهو أخذ الرهن فهذا وجه النظم وهذا أبلغ في الاحتياط من الكتبة والإشهاد ثم في الآية مسائل:...
المسألة الثانية: أصل الرهن من الدوام، يقال: رهن الشيء إذا دام وثبت، ونعمة راهنة أي دائمة ثابتة. إذا عرفت أصل المعنى فنقول: أصل الرهن مصدر. يقال: رهنت عند الرجل أرهنه رهنا إذا وضعت عنده...
المسألة الرابعة: في الآية حذف فإن شئنا جعلناه مبتدأ وأضمرنا الخبر، والتقدير: فرهن مقبوضة بدل من الشاهدين، أو ما يقوم مقامهما، أو فعليه رهن مقبوضة، وإن شئنا جعلناه خبرا وأضمرنا المبتدأ، والتقدير: فالوثيقة رهن مقبوضة...
المسألة السادسة: مسائل الرهن كثيرة، واحتج من قال بأن رهن المشاع لا يجوز بأن الآية دلت على أن الرهن يجب أن يكون مقبوضا والعقل أيضا يدل عليه لأن المقصود من الرهن استيثاق جانب صاحب الحق بمنع الجحود، وذلك لا يحصل إلا بالقبض والمشاع لا يمكن أن يكون مقبوضا فوجب ألا يصح رهن المشاع...
ثم قال تعالى: {فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أؤتمن أمانته} واعلم أن هذا هو القسم الثالث من البياعات المذكورة في الآية، وهو بيع الأمانة، أعني ما لا يكون فيه كتابة ولا شهود ولا يكون فيه رهن، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أمن فلان غيره إذا لم يكن خائفا منه...
المسألة الثانية: من الناس من قال: هذه الآية ناسخة للآيات المتقدمة الدالة على وجوب الكتابة والإشهاد وأخذ الرهن، واعلم أن التزام وقوع النسخ من غير دليل يلجئ إليه خطأ، بل تلك الأوامر محمولة على الإرشاد ورعاية الاحتياط، وهذه الآية محمولة على الرخصة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ليس في آية المداينة نسخ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير: هذا إذا كنتم حضوراً يسهل عليكم إحضار الكاتب والشاهد، عطف عليه قوله: {وإن كنتم} ولما كان الإنسان في السفر يكون مستجمع القوى كامل الآلات تام الأهبة عبر بأداة الاستعلاء فقال: {على سفر} يعوز مثله إحضار كاتب {ولم تجدوا كاتباً فرهان} أي فيغنيكم عن الكتب رهن يكون بدلاً عنه... وهو التوثقة بالشيء مما يعادله بوجه ما.
وأشار بأن بدليتها لا تفيد إلا بما وصفها من قوله: {مقبوضة} أي بيد رب الدين وثيقة لدينه...
ولما كان التقدير: هذا إن تخوفتم من المداين، عطف عليه قوله: {فإن أمن} ولما كان الائتمان تارة يكون من الدائن وتارة يكون من الراهن قال: {بعضكم بعضاً} أي فلم تفعلوا شيئاً من ذلك {فليؤد} أي يعط، من الأداء وهو الإتيان بالشيء لميقاته.
ولما كان المراد التذكير بالإحسان بالائتمان ليشكر ولم يتعلق غرض بكونه من محسن معين بني للمفعول قوله: {الذي اؤتمن} من الائتمان وهو طلب الأمانة وهو إيداع الشيء لحفيظته حتى يعاد إلى المؤتمن –
قاله الحرالي: {أمانته} وهو الدين الذي ترك المؤتمن التوثق به من المدين إحساناً إليه وحسن ظن به، وكذا إن كان الائتمان من جهة الراهن {وليتق الله} المستجمع لصفات العظمة {ربه} أي الذي رباه في نعمه وصانه من بأسه ونقمه وعطّف عليه قلب من أعطاه وائتمنه ليؤدي الحق على الصفة التي أخذه بها فلا يخن في شيء مما اؤتمن عليه...
ولما كانت الكتابة لأجل إقامة الشهادة وكانت الأنفس مجبولة على الشح مؤسسة على حب الاستئثار فيحصل بسبب ذلك مخاصمات ويشتد عنها المشاحنات وربما كان بعض المخاصمين ممن يخشى أمره ويرجى بره فيحمل ذلك الشهود على السكوت قال سبحانه وتعالى: {ولا تكتموا الشهادة} أي سواء [أكان] صاحب الحق يعلمها [أم] لا.
ولما نهى أتبع النهي التهديد فقال: {ومن يكتمها فإنه آثم}... ولما كان التقدير: فإن الله سبحانه وتعالى عالم بأنه كتم وكان للشهداء جهات تنصرف بها الشهادة عن وجه الإقامة عطف عليه قوله -ليشمل التهديد تلك الأعمال بإحاطة العلم: {والله} أي المحيط بجميع صفات الكمال.
ولما كان الإنسان هو المقصود الأعظم من سائر الأكوان فكانت أحواله مضبوطة بأنواع من الضبط كأن العلم البليغ مقصور عليه فلذلك قدم قوله: {بما تعملون} أي كله وإن دق سواء كان فعل القلب وحده أو لا {عليم} قال الحرالي... أمر ما بين الحق والخلق ممثولاً وأمر ما بين الخلق والخلق مثلاً...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ولما كان المقصود بالرهن التوثق جاز حضرا وسفرا، وإنما نص الله على السفر، لأنه في مظنة الحاجة إليه لعدم الكاتب فيه، هذا كله إذا كان صاحب الحق يحب أن يتوثق لحقه، فما كان صاحب الحق آمنا من غريمه وأحب أن يعامله من دون رهن فعلى من عليه الحق أن يؤدي إليه كاملا غير ظالم له ولا باخس حقه {وليتق الله ربه} في أداء الحق ويجازي من أحسن به الظن بالإحسان {ولا تكتموا الشهادة} لأن الحق مبني عليها لا يثبت بدونها، فكتمها من أعظم الذنوب، لأنه يترك ما وجب عليه من الخبر الصدق ويخبر بضده وهو الكذب، ويترتب على ذلك فوات حق من له الحق، ولهذا قال تعالى: {ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم} وقد اشتملت هذه الأحكام الحسنة التي أرشد الله عباده إليها على حكم عظيمة ومصالح عميمة دلت على أن الخلق لو اهتدوا بإرشاد الله لصلحت دنياهم مع صلاح دينهم، لاشتمالها على العدل والمصلحة، وحفظ الحقوق وقطع المشاجرات والمنازعات، وانتظام أمر المعاش، فلله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه لا نحصي ثناء عليه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يعود المشرع إلى تكملة في أحكام الدين، آخرها في النص لأنها ذات ظروف خاصة، فلم يذكرها هناك في النص العام.. ذلك حين يكون الدائن والمدين على سفر فلا يجدان كاتبا. فتيسيرا للتعامل، مع ضمان الوفاء، رخص الشارع في التعاقد الشفوي بلا كتابة مع تسليم رهن مقبوض للدائن ضامن للدين: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة}. وهنا يستجيش الشارع ضمائر المؤمنين للأمانة والوفاء بدافع من تقوى الله. فهذا هو الضمان الأخير لتنفيذ التشريع كله، ولرد الأموال والرهائن إلى أصحابها، والمحافظة الكاملة عليها: {فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه}. والمدين مؤتمن على الدين، والدائن مؤتمن على الرهن؛ وكلاهما مدعو لأداء ما اؤتمن عليه باسم تقوى الله ربه. والرب هو الراعي والمربي والسيد والحاكم والقاضي. وكل هذه المعاني ذات إيحاء في موقف التعامل والائتمان والأداء والدائن والمدين كلاهما -في هذه الحالة- مؤتمن. وفي ظل هذه الاستجاشة إلى التقوى، يتم الحديث عن الشهادة -عند التقاضي في هذه المرة لا عند التعاقد- لأنها أمانة في عنق الشاهد وقلبه: {ولا تكتموا الشهادة. ومن يكتمها فإنه آثم قلبه}. ويتكئ التعبير هنا على القلب. فينسب إليه الإثم. تنسيقا بين الاضمار للإثم، والكتمان للشهادة. فكلاهما عمل يتم في أعماق القلب. ويعقب عليه بتهديد ملفوف. فليس هناك خاف على الله. {والله بما تعملون عليم)}. وهو يجزي عليه بمقتضى علمه الذي يكشف الإثم الكامن في القلوب!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا معطوف على قوله: {إذا تداينتم بدَين} [البقرة: 282] الآية، فجميع ما تقدّم حكم في الحضر والمُكنة، فإن كانوا على سفر ولم يتمكّنوا من الكتابة لعدم وجود من يكتب ويشهد فقد شُرع لهم حكم آخر وهو الرهن، وهذا آخر الأقسام المتوقّعة في صور المعاملة، وهي حالة السفر غالباً، ويلحق بها ما يماثل السفر في هاته الحالة.
والآية دالة على مشروعية الرهن في السفر بصريحها. وأمّا مشروعية الرهن في الحضر فلأنّ تعليقه هنا على حال السفر ليس تعليقاً بمعنى التقييد، بل هو تعليق بمعنى الفرض والتقدير، إذا لم يوجد الشاهد في السفر، فلا مفهوم للشرط لوروده مورد بيان حالة خاصة لا للاحتراز، ولا تعتبر مفاهيم القيود إلاّ إذا سيقت مساق الاحتراز، ولذا لم يعتدّوا بها إذا خرجت مخرج الغالب.
ولا مفهوم له في الانتقال عن الشهادة أيضاً؛ إذ قد علم من الآية أنّ الرهن معاملة لهم، فلذلك أحيلوا عليها عند الضرورة على معنى الإرشاد والتنبيه. والآية دليل على أنّ القبض من متمّمات الرّهن شرعاً، ولم يختلف العلماء في ذلك، وإنّما اختلفوا في الأحكام الناشئة عن ترك القبض... وذهب مالك إلى أنّ القبض شرط في اللزوم، لأنّ الرهن عقد يثبت بالصيغة كالبيع، والقبضُ من لوازمه، فلذلك يُجبر الراهن على تحويز المرتهن إلاّ أنّه إذا مات الراهن أو أفلس قبل التحويز كان المرتهن أسوةَ الغرماء؛ إذ ليس له ما يؤثره على بقية الغرماء، والآية تشهد لهذا لأنّ الله جعل القبض وصفاً للرهن، فعلم أنّ ماهية الرهن قد تحقّقت بدون القبض...
وفي الآية دليل واضح على بطلان الانتفاع؛ لأنّ الله تعالى جعل الرهن عوضاً عن الشهادة في التوثّق فلا وجه للانتفاع، واشتراط الانتفاع بالرهن يخرجه عن كونه توثّقاً إلى ماهية البيع.
{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الذى اؤتمن أمانته وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ}. متفرّع على جميع ما تقدّم من أحكام الدين: أي إنْ أمِنَ كلّ من المتداينين الآخر أي وثق بعضكم بأمانة بعض فلم يطالبه بإشهاد ولا رهن، فالبعض المرفوع هو الدائن، والبعض المنصوب هو المدين وهو الذي ائتُمن. والأمانة مصدر آمنه إذا جعله آمناً. والأمن اطمئنان النفس وسلامتها ممّا تخافه، وأطلقت الأمانة على الشيء المؤمَّن عليه، من إطلاق المصدر على المفعول. وإضافة أمانته تشبه إضافة المصدر إلى مفعوله...
وقد أطلق هنا اسم الأمانة على الدَّين في الذمّة وعلى الرهن لتعظيم ذلك الحق لأنّ اسم الأمانات له مهابَة في النفوس، فذلك تحذير من عدم الوفاء به؛ لأنّه لما سمّي أمانة فعدم أدائه ينعكس خِيانة؛ لأنّها ضدّها، وفي الحديث:"أدِّ الأمَانَة إلى من ائتَمنك ولا تَخن من خانك". والأداء: الدفع والتوفية، وردّ الشيء أو رَدُّ مثله فيما لا تقصد أعيانه، ومنه أداء الأمانة وأداء الدّين أي عدم جحده قال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58]. والمعنى: إذا ظننتم أنّكم في غُنية عن التوثّق في ديونكم بأنّكم أمناء عند بعضكم، فأعْطُوا الأمانَة حَقَّها. وقد علمتَ ممّا تقدم عند قوله تعالى: {فاكتبوه} أنّ آية {فإن أمن بعضكم بعضاً فليود الذي أؤتمن أمانته} تعتبر تكميلاً لطلب الكتابة والإشهادِ طلَبَ ندب واستحباب عند الذين حملوا الأمر في قوله تعالى:
{فاكتبوه} على معنى الندب والاستحباب، وهم الجمهور.
ومعنى كونها تكميلاً لذلك الطلب أنّها بيّنت أنّ الكتابة والإشهاد بين المتداينين، مقصود بهما حسن التعامل بينهما، فإن بدَا لهما أن يأخذا بهما فنعمَّا، وإن اكتفيا بما يعلمانه من أمانٍ بينهما فلهما تركهما. وأتبع هذا البيان بوصاية كلا المتعاملين بأن يؤدّيا الأمانة ويتّقيا الله. وتقدم أيضاً أنّ الذين قالوا بأنّ الكتابة والإشهاد على الديون كان واجباً ثم نسخ وجوبه، ادّعوا أنّ ناسخه هو قوله تعالى: {فإن أمن بعضكم بعضاً} الآية، وهو قول الشعبي، وابن جريج، وجابر بن زيد، والربيع بن سليمان، ونسب إلى أبي سعيد الخدري. ومحمل قولهم وقولِ أبي سعيد إن صحّ ذلك عنه أنّهم عنّوا بالنسخ تخصيص عموم الأحوال والأزمنة. وتسميةُ مثل ذلك نسخاً تسمية قديمة...
وأظهر ممّا قالوه عندي: أنّ هذه الآية تشريع مستقلّ يعم جميع الأحوال المتعلّقة بالديون: من إشهاد، ورهننٍ، ووفاءٍ بالدّين، والمتعلّقةِ بالتبايع، ولهذه النكتة أبهم المؤتمنون بكلمة {بعض} ليشمَل الائتمان من كلا الجانبين: الذي من قبل ربّ الدين، والذي من قبل المدين. فربّ الدين يأتمن المدين إذا لم ير حاجة إلى الإشهاد عليه، ولم يطالبه بإعطاء الرهن في السفر ولا في الحضر. والمدين يأتمن الدائنَ إذا سَلَّم له رهناً أغلى ثمناً بكثير من قيمة الدين المرتهَن فيه، والغالب أنّ الرهان تكون أوْفَرَ قيمة من الديون التي أرهنت لأجلها، فأمر كلّ جانب مؤتمنٍ أن يؤدّي أمانته، فأداءُ المدين أمانته بدفع الدين، دون مطل، ولا جحود، وأداء الدائن أمانته إذا أعطي رهناً متجاوزَ القيمةِ على الدّين أن يردّ الرهن ولا يجحده غير مكترث بالدّين؛ لأنّ الرهن أوفر منه، ولا ينقص شيئاً من الرهن.
ولفظ الأمانة مستعمل في معنيين: معنى الصفة التي يتَّصف بها الأمين، ومعنى الشيء المؤمَّن. فيؤخذ من هذا التفسير إبطال غلَق الرهن: وهو أن يصير الشيء المرهون ملكاً لربّ الدّين، إذا لم يدفع الدينَ عند الأجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا يَغْلق الرهنُ "وقد كان غَلق الرهن من أعمال أهل الجاهلية... ومعنى {أمن بعضكم بعضاً} أن يقول كلا المتعاملين للآخر: لا حاجة لنا بالإشهاد ونحن يأمن بعضنا بعضاً، وذلك كي لا ينتقض المقصد الذي أشرنا إليه فيما مضى من دفع مظنّة اتّهام أحد المتداينين الآخر.
وزيد في التحذير بقوله: {وليتق الله ربه}، وذِكر اسم الجلالة فيه مع إمكان الاستغناء بقوله: « وليتّق ربّه» لإدخال الرّوع في ضمير السامع وتربية المهابة...
{وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. وصاية ثانية للشهداء تجمع الشهادات في جميع الأحوال؛ فإنّه أمر أن يكتب الشاهد بالعدل، ثم نُهي عن الامتناع من الكتابة بين المتداينين، وأعقَب ذلك بالنهي عن كتمان الشهادة كلّها. فكان هذا النهي بعمومه بمنزلة التذييل لأحكام الشهادة في الدّين.
واعلم أنّ قوله تعالى: {ولا تكتموا الشهادة} نهي، وأنّ مقتضى النهي إفادة التكرار عند جمهور علماء الأصول: أي تكرارِ الانكفاف عن فعل المنهيّ في أوقات عُروضِ فعله، ولولا إفادته التكرار لَما تحقّقت معصية، وأنّ التكرار الذي يقتضيه النهي تكرار يستغرق الأزمنة التي يعرض فيها داع لِفعل المنهيّ عنه، فلذلك كان حقّاً على من تحمّل شهادة بحقّ ألاّ يكتمه عند عروض إعلانه: بأن يبلغه إلى من ينتفع به، أو يقضِي به، كلّما ظهر الداعي إلى الاستظهار به، أو قبلَ ذلك إذا خشي الشاهد تلاشي ما في علمه: بغيبة أو طُرُوِّ نسيان، أو عروض موت، بحسب ما يتوقّع الشاهد أنّه حافظٌ للحقّ الذي في علمه، على مقدار طاقته واجتهاده. وإذ قد علمتَ آنفاً أنّ الله أنبأنا بأنّ مراده إقامة الشهادة على وجهها بقوله: {وأقوم للشهادة} [البقرة: 282]، وأنّه حرّض الشاهد على الحضور للإشهاد إذا طُلب بقوله: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} [البقرة: 282] فعُلم من ذلك كلّه الاهتمام بإظهار الشهادة إظهاراً للحق. ويؤيّد هذا المعنى ويزيده بياناً: قول النبي صلى الله عليه وسلم "ألاَ أخْبِرُكُم بخَيْر الشهداءِ الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألَها "رواه مالك في « الموطّأ»، ورواه عنه مسلم والأربعة. فهذا وجه تفسير الآية تظاهرَ فيه الأثر والنظرُ... [و] جاء في « الصحيح»:"خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسْألَها". وأقول: روى مسلم عن عِمران بن حُصَين: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ خيركم قرني ثم الذين يلونهم قالها مرتين أو ثلاثاً ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون" الحديث. والظاهرّ أنّ ما رواه أبو هريرة وما رواه عِمران بن حصين حديث واحد، سمعه كِلاَهما، واختلفت عبارتهما في حكايته فيكون لفظ عمران بن حصين مبيّناً لفظ أبي هريرة أنّ معنى قوله: قبل أن يستشهدوا دُونَ أن يستشهدوا، أي دون أن يستشهدهم مُشهد، أي أن يحمِلوا شهادة أي يشهدون بما لا يعلمون، وهو الذي عناه المازري بقوله: وحملوا ما في الحديث أي حديث أبي هريرة على ما إذا شهد كاذباً. فهذا طريق للجمع بين الروايتين، وهي ترجع إلى حمل المجمل على المبيّن. وقال النووي: تأوّلَه بعض العلماء بأنّ ذم الشهادة قبل أن يُسألها الشاهد هو في الشهادة بحقوق الناس بخلاف ما فيه حق اللَّه قال النووي: « وهذا الجمع هو مذهب أصحابنا» وهذه طريقة ترجع إلى إعمال كل من الحديثين في باب، بتأويل كلّ من الحديثين على غير ظاهره؛ لئلا يلغَى أحدهما...
وقوله: {ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} زيادة في التحذير. والإثمُ: الذنب والفجور. والقلب اسم للإدراك والانفعالات النفسية والنَوايا. وأسند الإثم إلى القلب وإنّما الآثم الكاتم لأنّ القلب أي حركات العقل يسبّب ارتكاب الإثم: فإنّ كتمان الشهادة إصْرار قلبي على معصية، ومثله قوله تعالى: { [الأعراف: 116] وإنّما سحَروا الناس بواسطة مرئيات وتخيّلات... لأنْ الفرَق ينشأ عن رؤية الأهوال. وقوله: {والله بما تعملون عليم} تهديد، كناية عن المجازاة بمثل الصنيع؛ لأنّ القادر لا يحُول بينه وبين المؤاخذة إلاّ الجهل فإذا كان عليماً أقام قسطاس الجزاء.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه} هذا تدرج حكيم، الكتابة في الديون والإشهاد عليها مطلوبان، فإن تعذرت الكتابة والشهادة فإنه يترخص حينئذ بالرهن المقبوض، ولكن إذا كان طالب الدين ليس عنده رهن يوثق به الدين، وهما في سفر ولا كاتب ولا شاهد أيمتنع القرض ويكون الحرج على المدين، وقد يكون في ضرورة للاستدانة وهو مليء في دياره يستطيع الأداء عند عودته؟ إنه لم يبق إذن إلا الاعتماد على أمانته، وهذا هو الذي يتبين في ذلك النص الكريم، والمعنى: إذا أمن الدائن المدين، واعتمد على ذمته ومقدار أمانته، فليؤد الدين في ميعاده؛ لأنه أمانة في عنقه، ولأن الدائن اعتمد على حسن أدائه وعلى مقدار ما عنده من أمانة، فلا يضيع رجاء الخير فيه؛ ولأن الله سبحانه عليم بما في الصدور، فليتق الله ربه.
وإذا كان النص الكريم قد جاء في مساق الدين وتوثيقه، فإن اللفظ عام يعم وجوب أداء الأمانات كلها سواء أكانت ديونا في الذمة، أم كانت ودائع مقبوضة، أم كانت أمانات مرسلة حمل المؤتمن أداءها. و في النص الكريم عدة إشارات بيانية، تتضافر في مجموعها، وتؤكد وجوب أداء الأمانة...
{وليتق الله ربه} فإذا كان صاحب الحق لم يوثق حقه بكتاب أو شهادة أو رهن، فإن التقوى هي الوثيقة الكبرى التي لا تعدلها وثيقة. وقوله تعالى: {وليتق الله ربه]} فيه طلب للتقوى مؤكد بالأمر، وبالتعبير بلفظ الجلالة الذي يربي ذكر المهابة في النفس، إذ يحس القارئ بعظمة الخالق وجبروته وألوهيته، ومؤكد أيضا بالتعبير بربه؛ إذ فيه إشارة إلى أنه خالقه وبارئه ومربيه، والمهيمن الدائم عليه...
و قد وصف الله سبحانه من يكتم الشهادة بالإثم، وأسند الإثم إلى القلب، فقال سبحانه: {ومن يكتمها فإن آثم قلبه} وقد أسند الإثم إلى القلب خاصة مع أن الإثم يسند إلى الشخص، وهذا من قبيل المجاز، وهو تعبير عن الكل باسم الجزء؛ لأن لذلك الجزء مزيد اختصاص في موضع الحكم؛ لأن الإثم في كتمان الشهادة عمل القلب لا عمل الجوارح؛ ولأن القلب أساس كل خير وكل شر ولو كان الإثم من عمل الجوارح...
{والله بما تعملون عليم} ختمت الآية الكريمة بهذه الجملة السامية، للوعد والوعيد، ببيان علم الله ذي الجلال والإكرام المنتقم الجبار علما دقيقا بما يعمله كل إنسان، يعلم الخير والشر، ويعلم ما تخفي الصدور، وما تكنه القلوب، وما يظهر على الجوارح، فيجازي على الإحسان إحسانا، وعلى السوء سوءا، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، ومن يأكل أموال الناس بالباطل إنما يأكلون في بطونهم نارا ويصلون سعيرا...
والسفر -كما نعلم- هو خروج عن رتابة الحياة في المواطن، ورتابة الحياة في الموطن تجعل الإنسان يعلم تمام العلم مقومات حياته، لكن السفر يخرج الإنسان عن رتابة الحياة فلا يتمكن من كثير من الأشياء التي يتمكن بها في الإقامة. فهب أنك مسافر، واضطررت إلى أن تستدين، ولا يوجد كاتب ولا يوجد شهيد، فماذا يكون الموقف؟... ها هو ذا الحق يوضح لك: {فرهان مقبوضة}... إذن فلم يترك الله مسألة الديْن حتى في السفر، فلم يشرّع فقط للإقامة ولكن الحق قد شرّع أيضا للسفر... ولكن هل يمنع الحق سبحانه وتعالى طموحية الإيثار؟ هل يمنع الحق سبحانه وتعالى رجولية التعامل؟ هل يمنع الحق سبحانه وتعالى المروءات من أن تتغلغل في الناس؟ لا. إنه الحق سبحانه يقول: {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته} إنه الطموح الإيماني، لم يسُدّ الله مسألة المروءة والإيثار في التعامل. إن كتابة الديْن والإشهاد والرهن ليس إلزاماً لأن الله قال: {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته}... والأمانة هي القضية العامة في الكون، وإن كانت خاصة الآن بالنسبة للآية الكريمة التي نحن بصددها والحق سبحانه يعرضها بعمومها على الكون كله فيقول جل شأنه: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبيْن أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً 72} (سورة الأحزاب). إن الكون كله أشفق على نفسه من تحمل الأمانة وهذا يعني أن الأمانة سوف تكون عرضة للتصرف والاختيار، ولا كائن في الكون قد ضمن لنفسه القدرة على الوفاء وقت الأداء. لقد أعلنت الكائنات قولها فأبين تحمّل الأمانة وكأنها قالت: إنا يا ربنا نريد أن نكون مسخرين مقهورين لا اختيار لنا؛ ولذلك نجد الكون كله يؤدي مهمته كما أرادها الله، ما عدا الإنسان، أي أنه الذي قبل بما له من عقل وتفكير أن يتحمل أمانة الاختيار، وبلسان حاله أو بلسان مقاله قال: إنني قادر على تحمل الأمانة؛ لأني أستطيع الاختيار بين البدائل...
ويقول الحق سبحانه: {ولا تكتموا الشهادة} وهذه الكلمة (ولا تكتموا) إنما هي أداء معبّر، لأن كلمة (شهادة) تعني الشيء الذي شهدته، فما دمت قد شهدت شيئاً فهو واقع، والواقع لا يتغير أبداً، ولذلك فالإنسان الذي يحكي لك حكاية صدق لا يختلف قوله في هذه الحكاية حتى وإن رواها ألف مرة؛ لأنه يستوحي واقعاً...
لكن الكذّاب يستوحي غير واقع، فيقول كلمة، وينسى أنه كذب من قبل فيكذب كذبة أخرى؛ لأنه لا يستوحي واقعاً. فكلمة الشهادة هي عن أمر مشهود واقع، ومادام الأمر مشهوداً وواقعاً، فإنه يلح على نفس من يراه أن يخرج، فإياك أن تكبته بالكتم؛ لأن كلمة (الكتم) تعني أن شيئاً يحاول أن يخرج وأنت تحاول كتمانه، لذلك يقول الحق: {ولا تكتموا الشهادة} فكأن الطبيعة الإيمانية الفطرية تلح على صاحبها لتنطقه بما كان مشهوداً له لأنه واقع... لذلك يأتي الأمر من الحق؛ {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه}. وقد يسأل الإنسان: هل الكتم هنا صفة للقلب أو للإنسان الذي لم يقل الشهادة؟. إن الشاعر يقول: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً وساعة يؤكد الله شيئاً فهو يأتي بالجارحة التي لها علاقة بهذا الصدد، فتقول: أنا رأيته بعيني وسمعته بأذني، وأعطيته بيدي ومشيت له برجلي. إنك تذكر الجارحة التي لها دخل في هذه المسألة. وعندما يقول الحق:
{فإنه آثم قلبه} إن كل الجوارح تخضع للقلب: {والله بما تعملون عليم} أي أن كتمك للحقيقة لن يغير من واقع علم الله شيئاً، وحينما تنتهي مسألة المداينة والتوثيق فيها وظروفها سواء [أكانت] في الموطن العادي [أم] في أثناء السفر فإن الله يضمن للإنسان المتحرك في الحياة حركة شريفة وطاهرة...
فإن لم تكن هذه فالمصالح تتوقف، ويصيبها العطل، فالذي لا يقدر على الحركة فماذا يصنع في الحياة؟. إن قلبه يمتلئ بالحقد على الواجد، وحين يمتلئ قلبه بالحقد على الواجد فإنه يكره النعمة عنده، وحين يكره المعدم النعمة عند أخيه الواجد، فالنعمة نفسها تكره أن تذهب إلى من كره النعمة عند أخيه. إنها مسائل قد رتّبها الحق سبحانه بعضها متعلق بالبعض الآخر...
إن التشريع البشري يحمي به صاحبه أقاربه من التقنين، لكن التشريع السماوي يفرض تطبيقاته أولا على الأقارب. وكان الأسوة في ذلك سيدنا عمر بن الخطاب، فساعة يريد عمر أن يضع التشريع فإنه يجمع أهله وأقاربه ويقول: سأقوم بعمل كذا وكذا فوالذي نفسي بيده من خالفني في شيء من هذا لأجعلنّه نكالاً للمسلمين. ويعلنها عمر أمام الناس... لأن كثيرا من الناس يجاملون أولياء الأمور، وقد لا يكون أولياء الأمور على دراية بذلك؛ فقد نجد واحداً يدخل على قوم على أساس أنه فلان بن فلان، وبالرعب يقضي هذا الإنسان مصالحه عند الناس برغم أنف الناس. وقد يكون ولي الأمر لا يعرف عن مثل هذا التصرف شيئاً...