محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{۞وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرٖ وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبٗا فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞۖ فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا فَلۡيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥۗ وَلَا تَكۡتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَۚ وَمَن يَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٞ قَلۡبُهُۥۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ} (283)

ولما كان التقدير : هذا إذا كنتم حضورا يسهل عليكم إحضار الكاتب والشاهد ، عطف عليه قوله : { * وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته وليتّق اللّه ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه واللّه بما تعملون عليم 283 }

{ وإن كنتم على سفر } أي مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى { ولم تجدوا / كاتبا فرهان مقبوضة } أي فالذي يستوثق به رهان مقبوضة يقبضها صاحب الحق ، وثيقة لدينه . هذا إذا لم يأمن البعضُ البعضَ بلا وثيقة { فإن أمن بعضكم بعضا } لحسن ظنه به واستغنى بأمانته عن الارتهان { فليؤدّ الذي اؤتمن } وهو المدين . وإنما عبّر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقا للإعلام ، ولحمله على الأداء { أمانته } أي دينه . وإنما سمي أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به { وليتّق الله ربه } في رعاية حقوق الأمانة . وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير ما لا يخفى { ولا تكتموا } أيها الشهود { الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } .

قال الزمخشريّ : فإن قلت هلاّ اقتصر على قوله فإنه آثم . وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده ؟ قلت : كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها . فلما كان إثما مقترفا بالقلب أسند إليه . لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ . ألا تراك تقول ، إذا أردت التوكيد : هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي . ولأن القلب هو رئيس الأعضاء ، والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله{[1481]} . فكأنه قيل : فقد تمكن الإثم في أصل نفسه ، وملك أشرف مكان فيه . ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط . وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه . / واللسان ترجمان عنه . ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح . وهي لها كالأصول التي تتشعب منها . ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر . وهما من أفعال القلوب . فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معظم الذنوب . وقرئ { قلبه } بالنصب . كقوله : سفه نفسه . وقرأ ابن أبي عبلة : أثم قلبه . أي جعله آثما { والله بما تعملون } أي بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم { عليم } .


[1481]:يشير إلى الحديث النبوي الشريف الذي أخرجه البخاري في: 2 ـ كتاب الإيمان، 39 ـ باب فضل من استبرأ لدينه، حديث 47 ونصه: عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلال بيّن والحرام بيّن. وبينهما مشَبّهات لا يعلمها كثير من الناس. فمن اتقى المشَبّهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشُّبُهات كراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حمى. ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله. وإذا فسدت فسد الجسد كله. ألا وهي القلب).