التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{۞وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرٖ وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبٗا فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞۖ فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا فَلۡيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥۗ وَلَا تَكۡتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَۚ وَمَن يَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٞ قَلۡبُهُۥۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ} (283)

قوله تعالى : ( وإن كنتم عل سفر ولم تجدوا كاتبا فرهانٌ مقبوضة فإن آمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه ثم قلبه والله بما تعملون عليم ) ربما يتعذر على المرء أن يأتي بالكاتب ليكتب الدين ، وكثيرا ما يكون ذلك في حال السفر ، ويلحق بغياب الكاتب انعدام أدوات الكتابة مثل القرطاس والقلم والمداد . فإذا ما تعذر وجود شيء من ذلك وتعذرت الكتابة كان للدائن أن يستحصل من مدينه رهنا يقبضه يدا بيد ، وذلك حال انعقاد الدين في مجلس العقد . وقد صنع النبي ( ص ) مثل ذلك . فقد أهرج النسائي من حديث ابن عباس قال : توفي رسول الله ( ص ) ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير لأهله .

والرهان جمع ومفرده رهن وفعله رهن أي ثبت ودام واستمر ، والراهن هو الثابت الدائم المستمر ، نقول رهنته المتاع بالدين أي حبست متاعه إلى أن يؤدي ما عليه من دين{[370]} .

والراهن في الاصطلاح الشرعي كما عرفه القرطبي رحمه الله هو : احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفي الحق من ثمنها أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم . وقد جعل الرهن بدلا عن الكتابة عند تعذرها وأغلب ما يكون في ذلك السفر والمقصود من الرهن توثيق الحقوق التي للدائنين عل المدينين ؛ كيلا يجحدوها أو تصيبهم فيها غفلة أو إهمال{[371]} .

ولا يجوز للمرتهن ( الدائن ) أن ينتفع بشيء من الرهن الذي أصبح بحوزته وما الرهن عنده إلا لتوثيق دينه فيطمئن . والمعلوم في مثل هذه المسألة أن دينا جرّ نفعا فهو حرام ؛ لصلته بالربا . وفي هذا الصدد يقول الرسول ( ص ) : " لا يُغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه ، له غنمه وعليه غُرمه " أي أن المال المرهون لا يخرج من ملكية صاحبه الراهن وهو المدين ليصبح مملوكا للمرتهن الدائن إذا لم يستطع الأول ( المدين ) أداء ما عليه من دين ، بل إن المرهون يظل مملوكا عل الدوام للمدين وعليه نفقته وله ثمرته ، وذلك معنى قوله : " له غنمه وعليه غرمه " أما أن يستعمل الدائن المرتهن ثمرة المرهون مادام عنده فذلك غير جائز لصلته بالربا{[372]} .

وقوله : ( فإن آمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أؤتمن أمانته وليتق الله ربه ) شرط وجوابه وجملة الشرط أمن بعضكم بعضا ، والجواب ليؤد الذي أؤتمن أمانته ، والفاء مقترن به . و ( الذي أؤتمن ) هو المدين الذي عليه الحق . والأمانة اسم لما يكون في الذمة والمراد أن المدين الذي عليه الحق إذا ائتمنه الدائن وكان موضع ثقته ، فعليه أن يكون في موضع الثقة والأمان بالفعل . وعليه بالتالي أن يؤدي ما في ذمته من حق للدائن دون مطل أو تقاعس ودون بخْس للأمانة التي في ذمته من حق للدائن دون مطل أو تقاعس ودون بخْس للأمانة التي في ذمته .

وشأن القرآن دائما وهو يبين للناس حدودهم وخطوط شريعتهم ألا يبرح حتى يخاطب في الإنسان فطرته وقلبه ؛ ليستنهض فيه الهمة ، ويثير فيه رهافة الحس ويقظة المشاعر ، فتظل على الدوام مبعثا للخير والاستقامة والعدل . يتجل ذلك فهي قوله سبحانه : ( وليتق الله ربه ) وذلك بعد إيجاب الأداء في أمانة وحق .

وقوله : ( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) ينهى الله عن إخفاء الشهادة أو كتمانها ؛ لما في ذلك من إزهاق للحقوق وتضييع لها .

وقد أوضحنا سابقا أن الأصل في أداء الشهادة من حيث الحكم الشرعي هو الوجوب على الكفاية ، فإن كان الشهود كثيرين وتقدم منهم اثنان ليشهدا برئت ذمة الباقين جميعا ، لكنه إذا لم يكن من الشهود غير اثنين فقد تعين عليهما أن يؤديا الشهادة صونا للحق ، أو كانوا كثيرا لكن الحاكم لم يركن إلى غير اثنين منهم ليقوما بالشهادة ، فقد تعين عليهما أيضا أن يقوما لأدائها . فإذا لم يفعلا ذلك وامتنعا من أداء الشهادة وقعا في المحظور وهو كتم الشهادة ، ( ومن يكتمها فإنه ثم قلبه ) ( ومن ) اسم شرط جملته الجملة الفعلية ( يكتمها ) . والفاء بعدها مقترن بالجواب . والضمير في محل نصب اسم إن ، ( ثم ) خبر مقدم . ( قلبه ) مبتدأ مؤخر ، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر إن . وقيل غير ذلك من وجوه الإعراب{[373]} .

والذي يكتم الشهادة عند الحاجة إليها عل النحو الذي بيناه يكون ثم القلب . ومن كان قلبه آثما فقد احتمل فسادا كبيرا وفسقا عن أمر الله .

قوله : ( والله بما تعملون عليم ) ذلك تحذير من الله للناس ؛ كيلا يكتموا الشهادة فتظل حبيسة في صدورهم فإنه سبحانه يعلم ما تكنه هذه الصدور وما تنثني عليه من فاسد الخبايا وإخفاء للشهادات{[374]} .


[370]:-المصباح المنير جـ 1 ص 260.
[371]:- تفسير القرطبي جـ 3 ص 409.
[372]:- المهذب للشيرازي جـ 2 ص 304.
[373]:- البيان للانباري جـ 1 ص 186.
[374]:- تفسير القرطبي جـ 3 ص 410- 418 وتفسير ابن كثير جـ 1 ص 336، 337 وتفسير الطبري جـ 3 ص 92.