الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{۞وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرٖ وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبٗا فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞۖ فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا فَلۡيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥۗ وَلَا تَكۡتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَۚ وَمَن يَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٞ قَلۡبُهُۥۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ} (283)

{ على سَفَرٍ } مسافرين . وقرأ ابن عباس وأبيّ رضي الله عنهما «كتاباً » . وقال ابن عباس : أرأيت إن وجدت الكاتب ولم تجد الصحيفة والدواة . وقرأ أبو العالية : «كتبا » . وقرأ الحسن : «كتاباً » ، جمع كاتب { فرهان } فالذي يستوثق به رهن . وقرىء «فرهن » بضم الهاء وسكونها ، وهو جمع رهن ، كسقف وسقف . و«فرهان » .

فإن قلت : : لم شرط السفر في الارتهان ولا يختص به سفر دون حضر وقد

رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه في غير سفر . قلت : ليس الغرض تجويز الارتهان في السفر خاصة ، ولكن السفر لما كان مظنة لإعواز الكتب والإشهاد ، أمر على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال من كان على سفر ، بأن يقيم التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتب والإشهاد . وعن مجاهد والضحاك أنهما لم يجوّزاه إلا في حال السفر أخذاً بظاهر الآية ، وأما القبض فلا بدّ من اعتباره . وعند مالك يصح الارتهان بالإيجاب والقبول بدون القبض { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا } فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به . وقرأ أبيّ «فإن أومن » أي آمنه الناس ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء والاستغناء عن الارتهان من مثله { فَلْيُؤَدِّ

1649 ؛لَّذِى اؤتمن أمانته } حث المديون على أن يكون عند ظن الدائن به وأمنه منه وائتمانه له ، وأن يؤدّي إليه الحق الذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه . وسمي الدين أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان منه . والقراءة أن تنطق بهمزة ساكنة بعد الذال أو ياء ، فتقول : الذي اؤتمن ، أو الذي تمن . وعن عاصم أنه قرأ : «الذي اتمن » ، بإدغام الياء في التاء ، قياساً على اتسر في الافتعال من اليسر ، وليس بصحيح . لأنّ الياء منقلبة عن الهمزة ، فهي في حكم الهمزة و «اتزر » عاميٌّ ، وكذلك ريا في رؤيا { ءَاثِمٌ } خبر إن . و { قَلْبِهِ } رفع بآثم على الفاعلية ، كأنه قيل : فإنه يأثم قلبه . ويجوز أن يرتفع قلبه بالابتداء . وآثم خبر مقدّم ، والجملة خبر إن .

فإن قلت : هلا اقتصر على قوله : { فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ } ؟ وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده ؟ قلت : كتمان الشهادة : هو أن يضمرها ولا يتكلم بها ، فلما كان إثماً مقترفاً بالقلب أسند إليه ، لأنّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ . ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد : هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ، ومما عرفه قلبي ، ولأنّ القلب هو رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله ، فكأنه قيل : فقد تمكن الإثم في أصل نفسه ، وملك أشرف مكان فيه . ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط ، وليعلم أنّ القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه ، واللسان ترجمان عنه . ولأنّ أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح وهي لها كالأصول التي تتشعب منها . ألا ترى أنّ أصل الحسنات والسيآت الإيمان والكفر ، وهما من أفعال القلوب ، فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله تعالى :

{ فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة } [ المائدة : 72 ] وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة . وقرىء : «قلبه » ، بالنصب ، كقوله : { سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] وقرأ ابن أبي عبلة : «أثم قلبه » ، أي جعله إثماً .