قوله تعالى : { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً } : العامةُ على " كاتباً " اسمَ فاعل . وقرأ أُبَيّ ومجاهد وأبو العالية : " كِتاباً " ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنه مصدرٌ أي ذا كتابة . والثاني : أنه جَمْع كاتبٍ ، كصاحب وصِحاب . ونقل الزمخشري هذه القراءة عن أُبَيّ وابن عباس فقط ، وقال : " وقال ابن عباس : أرأيتَ إن وجدتَ الكاتبَ ولم تَجِدْ الصحيفةَ والدَّواة " . وقرأ ابن عباس والضحاك : " كُتَّاباً " على الجمع ، اعتباراً بأنَّ كلَّ نازلةٍ لها كاتبٌ . وقرأ أبو العالية : " كُتُباً " جمع كتاب ، اعتباراً بالنوازلِ ، قلت : قولُ ابن عباس : " أرأيتَ إنْ وجدت الكاتب الخ " ترجِيحٌ للقراءةِ المرويَّةِ عنه واستبعادٌ لقراءةِ غيرِه/ " كاتباً " ، يعني أن المرادَ الكتابُ لا الكاتبُ .
قوله : { فَرِهَانٌ } فيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : أنه مرفوعٌ بفعلٍ محذوفٍ ، أي : فيكفي [ عن ] ذلك رُهُنٌ مقبوضةٌ . الثاني : أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ أي : فرُهُن مقبوضة تكفي . الثالث : أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه : فالوثيقةُ أو فالقائمُ مقامُ ذلك رُهُنٌّ مقبوضةٌ .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : " فَرُهُنٌّ " بضم الراء والهاء ، والباقون " فَرِهَانٌ " بكسر الراء وألف بعد الهاء ، رُوي عن ابن كثير وأبي عمرو تسكينُ الهاءِ في رواية .
فأمَّا قراءةُ ابن كثير فجمع رَهْن ، وفَعل يُجْمع على فُعل نحو : سَقْف وسُقُف . ووقع في أبي البقاء بعد قوله : " وسَقْف وسُقُف ، وأَسَد وأُسُد ، وهو [ وهم ] " ولكنهم قالوا : إن فُعُلاً جَمعُ فَعْل قليل ، وقد أورد منه الأخفش ألفاظاً منها : رَهْن ورُهُن ، ولَحْد القبر ولُحُد ، وقَلْب النخلة وقُلُب ، ورجلٌ ثَطٌّ وقومٌ ثُطٌّ ، وفرس وَرْدٌ وخيلٌ وُرُدٌ ، وسهم حَشْر وسهام حُشُر . وأنشد أبو عمرو حجةً لقراءتهِ قولَ قعنب :
بانَتْ سعادُ وأمسى دونَها عدنُ *** وَغلَّقَتْ عندَها مِنْ قبلِك الرُّهُنُ
وقال أبو عمرو : " وإنما قَرَأت فَرُهُن للفصلِ بين الرهانِ في الخيلِ وبين جمع " رَهْن " في غيرها " ومعنى هذا الكلام أنما اخترتُ هذه القراءةَ على قراءة " رهان " ، لأنه لا يجوزُ له أَنْ يفعلَ ذلك كما ذَكَر دونَ اتِّباع روايةٍ .
واختار الزجاجِ قراءتَه هذه قال : " وهذه القراءة وافَقَت المصحفَ ، وما وافقَ المصحفَ وصَحَّ معناه ، وقَرَأت به القُرَّاء فهو المختارُ " . قلت : إن الرسم الكريم " فرهن " دون ألفٍ بعد الهاء ، مع أنَّ الزجاج يقول : " إنَّ فُعُلاً جمعَ فَعْلٍ قليلٌ " ، وحُكي عن أبي عمرو أنه قال : " لا أعرفُ الرِّهان إلا في الخيل لا غير " . وقال يونس : " الرَّهْنُ والرِّهان عربيان ، والرُّهُنْ في الرَّهْنِ أكثرُ ، والرِّهان في الخيلِ أكثرُ " وأنشدوا أيضاً على رَهْن ورُهُن قوله - البيت - :
آلَيْتُ لا نُعْطِيه من أَبْنائِنا *** رُهُناً فيُفْسِدَهم كَرَهْنٍ أَفْسدا
وقيل : إنَّ رُهُنا جمعُ رِهان ، ورِهان جمعُ رَهْن ، فهو جَمْعُ الجمع ، كما قالوا في ثِمار جمعَ ثَمَر ، وثُمُر جَمعُ ثِمار ، وإليه ذهب الفراء وشيخه ، ولكنَّ جَمْعَ الجمعِ غيرُ مطرَّدٍ عند سيبويه وجماهيرِ أتباعه .
وأمَّا قراءةُ الباقين " رِهانِ فرِهان جمعُ " رَهْن " وفَعْل وفِعال مطردٌ كثير نحو : كَعْب/ وكِعَاب ، وكَلْب وكِلاب ، ومَنْ سَكَّن ضمةَ الهاءِ في " رُهُن " فللتخفيفِ وهي لغةٌ ، يقولون : سُقْف في سُقُف جمعَ سَقْف .
والرَّهْنُ في الأصل مصدُرَ رَهَنْتُ ، يقال : رَهنْتُ زيداً ثوباً أَرْهَنُه رَهْناً أي : دفعتُه إليه رَهْناً عنده ، قال :
يراهِنُني فَيَرْهَنُنِي بَنِيه *** وأَرْهَنُه بَنِيَّ بما أَقولُ
وأرهنْتُ زيداً ثوباً أي : دفعتُه إليه ليرهنَه ، فَفرَّقوا بين فَعَل وأَفْعَل . وعند الفراء رَهَنْتُه وأَرْهَنْتُه بمعنى ، واحتجَّ بقولِ همام السلولي :
فَلَمَّا خَشِيْتُ أظافيرَهُمْ *** نَجَوْتُ وأَرْهَنْتُهُمْ مالِكا
وأنكر الأصمعيُّ هذه الروايةَ وقال : " إنما الروايةُ : وأَرْهنُهُم مالكا " ، والواوُ للحالِ كقولِهِم : " قَمْتُ وأصُكُّ عينَه " وهو على إضمارِ مبتدأ .
وقيل : أرْهْنَ في السِّلعة إذا غالى فيها حتى أَخَذَها بكثيرِ الثمنِ ومنه قولُه :
يَطْوي ابنُ سلمى بها من راكبٍ بَعُداً *** عِيدِيَّةٌ أُرْهِنَتْ فيها الدَّنانيرُ
ويقال : رَهَنْتُ لساني بكذا ، ولا يُقال فيه " أَرْهَنْتُ " وأنشدوا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ثم أُطْلق الرَّهْنُ على المرهونِ من بابِ إطلاقِ المصدرِ على اسمِ المفعول نحو قولِه تعالى : { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ } [ لقمان : 11 ] ، و " درهَمٌ ضَرْبُ الأمير " ، فإذا قلت : " رَهَنْتُ زيداً ثوباً رَهْناً " فرَهْناً هنا مصدرٌ فقط ، وإذا قلت " رهنْتُ زيداً رَهْناً " فهو هنا مفعولٌ به لأنَّ المرادَ به المرهونُ ، ويُحتمل أن يكونَ هنا " رَهْناً " مصدراً مؤكداً أيضاً ، ولم يَذْكرِ المفعولَ الثانيَ اقتصاراً كقوله : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ } [ الضحى : 4 ] .
و " رَهْن " مِمَّا استُغْنى فيه بجمعِ كثرتِه عن جمعِ قلَّته ، وذلك أنَّ قياسَه في القلةِ أَفْعُل كفَلْس وأفلُس ، فاستُغْنِيَ برَهْن ورِهان عن أَرْهُن .
وأصلُ الرَّهْنِ : الثبوتُ والاستقرارُ ، يقال : رَهَنَ الشيءُ ، فهو راهنٌ إذا دام واستقر ، ونِعمة راهنة أي دائمة ثابتة . وأنشد ابن السكيت :
لا يَسْتَفيقون منها وَهْي راهِنةٌ *** إلا بهاتِ وإنْ عَلُّوا وإنْ نَهِلوا
ويقال : " طعام راهن " أي : مقيم دائم ، قال :
الخبزُ واللحمُ لهم راهِن *** . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : دائمٌ مستقرٌّ ، ومنه سُمِّي المرهونُ " رَهْناً " لدوامهِ واستقرارهِ عند المُرْتَهِنِ .
وقوله : { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً } في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنها عطفٌ على فعلِ الشرطِ أي : " وإنْ كنتم ولم تَجِدوا " فتكونُ في محلِّ جزمِ لعطفِها على ما هو مجزومٌ تقديراً . والثاني : أن تكونَ معطوفةٌ على خبرِ كان ، أي : وإنْ كنتم لم تَجِدُوا [ كاتباً } والثالث : أَنْ تكونَ الواوُ للحال ، والجملةُ بعدَها نصبٌ على الحالِ فهي على هذين الوجهين الأخيرين في محلِّ نصب .
قوله : { فَإِنْ أَمِنَ } قرأ أُبَيّ فيما نَقَلَه عنه الزمخشري " أُومِنَ " مبنياً للمفعول . قال الزمخشري : " أي أَمِنَه الناس ووصفوا المَدْيونَ بالأمانةِ والوفاء " . قلت : وعلامَ تنتصبُ " بعضاً ؟ والظاهرُ نصبُه/ بإسقاط الخافض على حذفِ مضافٍ أي : فإن أومِنَ بعضُكم على متاعِ بعضٍ أو على دَيْنِ بعض .
قوله : { فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ } إذا وُقِفَ على " الذي " وابتُديء بما بعدها قيل : " اوتُمِنَ " بهمزةٍ مضمومة بعدَها واو ساكنة ، وذلك لأنَّ أصلَه أُأْتُمِنَ ، مثل اقْتُدِرَ بهمزتين : الأولى للوصلِ والثانيةُ فاءُ الكلمة ، ووقعَتِ الثانيةُ ساكنةً بعد أخرى مثلِها مضمومةً وجب قَلْبُ الثانيةُ لمجانِسِ حركةِ الأولى فقلت : أُوْتُمِنَ . فأمَّا في الدَّرْج فتذهبُ همزةُ الوصلِ فتعود الهمزةُ إلى حالِها لزوالِ موجبِ قلبِها واواً بل تُقْلَبُ ياءً صريحةً في الوصلِ في رواية ورش والسوسي .
ورُوي عن عاصم : " الذي اوتُمِن " برفعِ الألفِ ويُشيرِ بالضمة إلى الهمزة ، قال ابن مجاهد : " وهذه الترجمةُ غلط " . ورَوى سليم عن حمزة إشمامَ الهمزةِ الضمَّ ، وفي الإِشارة والإِشمامِ المذكورَيْن نظرٌ . وقرأ عاصم أيضاً في شاذِّة : " الَّذِتُّمِنَ " بإدغامِ الياء المبدلةِ من الهمزةِ في تاء الافتعال ، قال الزمخشري : " قياساً على " اتَّسر " في الافتعال من اليُسْر ، وليس بصحيحٍ لأنَّ الياءَ منقلبةٌ عن الهمزةِ فهي في حكمِ الهمزةِ ، واتَّزر عاميُّ ، وكذلك " رُيَّا " في " رُؤْيا " قال الشيخ : " وما ذكر الزمخشري فيه أنه ليس بصحيح وأن " اتَّزر " عامِّي - يعني أنه من إحداث العامة لا أصلَ له في اللغة - قد ذَكَره غيرُه أنَّ بعضَهم أَبْدَلَ وأدْغَمَ : " اتَّمَنَ واتَّزَرَ " وأنَّ ذلك لغةٌ رديئة ، وكذلك " رُيَّا " في رُؤْيا ، فهذا التشبيهُ : إمَّا أن يعودَ على قولِه : " واتَّزر عاميٌّ " فيكونُ إدغام " رُيَّا " عامياً ، وإمَّا أَنْ يعودَ إلى قولِه " فليس بصحيحٍ " أي : وكذلك إدْغَامُ " رُيَّا " ليس بصحيحٍ ، وقد حكَى الكسائي الإِدغمَ في " رُيَّا " .
وقولُه : { أَمَانَتَهُ } يجوزُ أن تكونَ الأمانةُ بمعنى الشيء المُؤْتَمَنِ عليه فينتصبَ انتصابَ المفعولِ به بقولِه : " فليؤدِّ " ، ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدراً على أصلِها ، وتكونُ على حَذْفِ مضاف ، أي : فليؤدِّ دَينَ أمانتهِ . ولا جائزٌ أن تكونَ منصوبةٌ على مصدرِ ائتُمِنَ . والضميرُ في " أمانتَه " يُحْتَمل أَنْ يعودَ على صاحبِ الحقِّ ، وأَنْ يعودَ على الذي ائتُمِن .
قوله : { فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } في هذا الضمير وجهان ، أحدُهما : أنه ضميرُ الشأنِ والجملةُ بعدَه ، مفسِّرٌ له . والثاني : أنه ضميرُ " مَنْ " في قولِه : " ومَنْ يَكتُمْها " وهذا هو الظاهرُ .
وأمَّا " آثمٌ قلبُه " ففيه أوجهٌ : أظهرُها : أنَّ الضميرَ في " إنه " ضميرُ " مَنْ " و " آثمٌ " خبرُ إنَّ ، و " قلبُه " فاعلٌ بآثم ، نحو قولِك : زيدٌ إنه قائمٌ أبوه ، وعَمَلُ اسمِ الفاعلِ هنا واضحٌ لوجودِ شروطِ الإِعمال . ولا يجيءُ هذا الوجهُ على القولِ بأنَّ الضميرَ ضميرُ الشأن ، لأنَّ ضميرَ الشأنَ لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ ، واسمُ الفاعلِ مع فاعلِه عند البصريين مفردٌ ، والكوفيون يُجيزون ذلك .
الثاني : أن يكونَ " آثمٌ " خبراً مقدماً ، و " قلبُه " مبتدأ مؤخراً ، والجملةُ خبرَ " إنَّ " ذكر ذلك الزمخشري وأبو البقاء وغيرُه ، وهذا لا يجوزُ على أصول الكوفيين ؛ لأنه لا يعودُ عندَهم الضميرُ المرفوعُ على متأخرٍ لفظاً ، و " آثمٌ " قد تَحَمَّل ضميراً لأنه وَقَع خبراً ، وعلى هذا الوجهِ فيجوزُ أن تكونَ الهاءُ ضميرَ الشأن وأَنْ تكونَ ضميرَ " مَنْ " .
والثالث : أن يكونَ " آثم " خبرَ إنَّ ، وفيه ضميرٌ يعودُ على ما تعودُ عليه الهاء في " إنه " ، و " قلبُه " بدلٌ من ذلك الضمير المستترِ بدلُ بعضٍ من كل .
الرابع : أن يكونَ " آثم " مبتدأً ، و " قلبُه " فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر ، والجملةُ خبرُ إنَّ ، قاله ابن عطية ، وهو لا يجوزُ عند البصريين ، لأنه لا يعملُ عندَهم اسمُ الفاعل إلا إذا اعتمد على نفيٍ أو استفهام نحو : ما قائمٌ أبواك ، وهل قائمٌ أخواك ، وما قائمٌ قومك ، وهل ضاربٌ إخوتك . وإنما يجوزُ هذا عند الفراءِ من الكوفيين والأخفشِ من البصريين ، إذ يجيزان : قائمٌ الزيدان وقائمٌ الزيدون ، فكذلك في الآية الكريمة .
وقرأ ابنُ أبي عبلة : " قلبَه " بالنصب ، نسبَها إليه ابن عطية . وفي نصبه ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنه بدلٌ من اسم " إنَّ " بدلُ بعض من كل ، ولا محذورَ في الفصلِ بالخبر - وهو آثمٌ - بين البدلِ والمبدلِ منه ، كما لا محذورَ في الفصل به بين النعتِ والمنعوتِ نحو : زيد منطلق العاقل ، مع أنَّ العاملَ في النعت والمنعوت واحدٌ ، بخلافِ البدلِ والمبدلِ منه/ فإنَّ الصحيحَ أنَّ العاملَ في البدلِ غيرُ العاملِ في المُبْدَلِ منه .
الثاني : أنه منصوبٌ على التشبيهِ بالمفعولِ به ، كقولك : " مررت برجلٍ حسنٍ وجهُه " وفي هذا الوجه خلافٌ مشهورٌ ، وهو ثلاثةُ مذاهبَ : الأول مذهب الكوفيين وهو الجواز مطلقاً ، أعني نظماً ونثراً . الثاني : المنعُ مطلقاً ، وهو مذهبُ المبرد . الثالث : مَنْعُه من النثر وجوازُه في الشعرِ ، وهو مذهبُ سيبويه ، وأنشدَ الكسائي على ذلك :
أَنْعَتُها إنِّيَ مِنْ نُعَّاتِها *** مُدارةَ الأخفْافِ مُجْمَرَّاتِها
غُلْبَ الرِّقابِ وعَفَرْ نِياتِها *** كُومَ الذُّرى وادِقَةً سُرَّاتِها
ووجه ضعفِه عند سيبويه في النثر تكرُّر الضمير .
والثالث : أنه منصوبٌ على التمييز حكاه مكي وغيرُه ، وضَعَّفوه بأنَّ التمييز لا يكونُ إلا نكرةً ، وهذا عند البصريين ، وأمَّا الكوفيون فلا يَشْتَرطون تنكيرَه ، ومنه عندهم :
{ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] { بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } [ القصص : 85 ] وأنشدوا :
إلى رُدُحٍ من الشِّيزى مِلاءٍ *** لُبَابَ البُرِّ يُلْبَكُ بالشِّهادِ
وقرأ ابن أبي عبلة - فيما نقل عنه الزمخشري - " أَثِم قلبَه " جعل " أثم " فعلاً ماضياً مشدد العين ، وفاعلُه مستترٌ فيه ، " قلبه " مفعول به أي : جعل قلبَه آثماً أي : أثم هو ، لأنه عَبَّر بالقلب عن ذاتِه كلها لأنه أشرفُ عضوٍ فيها .
وقرأ أبو عبد الرحمن : " ولا يَكْتُموا " بياء الغَيْبَةِ ، لأنَّ قبلَه غيباً وهم من ذَكَر في قولِه : { كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } ، وهو وإنْ كان بلفظِ الإِفراد فالمرادُ به الجَمْعُ ، ولذلك اعتبَرَ معناه في قراءة أبي عبد الرحمن فجَمَعَ في قوله : " ولا يكتموا " .
وقد اشتملَتْ هذه الآياتُ على أنواع من البديعِ منها : التجنيسُ المغايرُ في " تدايَنْتُم بدَيْن " نظائره ، والمماثلُ في قولِه : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا } والطباقُ في " تَضِلَّ " و " تذكِّر " و " صغيراً وكبيراً " ، وهي كثيرةٌ ، وتؤخذ مِمَّا تقدَّم فلا حاجةَ إلى التكثير بذكرِها . وقرأ السلمي أيضاً : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ } بالغيبة جرياً على قراءته بالغَيْبَة .