قوله : { وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ } .
قال أهل اللُّغة ( س ف ر ) تركيب هذه الحروف للظُّهور ، والكشف ، والسفر هو الكتاب ؛ لأنه يبيِّن الشيء ويوضحه ، وسمي السِّفر سفراً ؛ لأنَّه يسفر عن أخلاق الرِّجال ، أي : يكشف ، أو لأنه لمّا خرج من الكن{[4893]} إلى الصَّحراء فقد انكشف للنَّاس ؛ أو لأنه لمَّا خرج إلى الصَّحراء فقد صارت أرض البيت منكشفةً خاليةً ، وأسفر الصُّبح : إذا ظهر ، وأسفرت المرأة عن وجهها : إذا كشفته ، وسفرت عن القوم أسفر سفارة ، أي : كشفت ما في قلوبهم ، وسفرت أُسفر ، أي : كنست ، والسَّفر : الكنس ، وذلك لأنك إذا كنست ، فقد أظهرت ما كان تحت الغبار ، والسّفر من الورق ما سفر به الرِّيح ، ويقال لبقية بياض النَّهار بعد مغيب الشَّمس سفر لوضوحه .
اعلم أنَّه تعالى جعل البياعات في هذه الآية على ثلاثة أقسام :
بيع بكتاب وشهود ، وبيع برهن مقبوضة ، وبيع بالأمانة ، ولما أمر في آخر الآية المتقدّمة بالكتاب ، والإشهاد ، وأعلم أنَّه ربما تعذَّر ذلك في السَّفر إمَّا ألاَّ يوجد الكاتب{[4894]} ، أو إن وجد لكنَّه لا توجد آلات الكتابة ، ذكر نوعاً آخر من الاستيثاق وهو أخذ الرَّهن ، فهذا وجه النَّظم ، وهذا أبلغ في الاحتياط من الكتابة والإشهاد .
قوله : { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً } في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنَّها عطفٌ على فعل الشَّرط ، أي : " وَإِنْ كُنْتُم " ، " وَلَمْ تَجِدُواْ " فتكون في محلِّ جزمٍ لعطفها على المجزوم تقديراً .
والثاني : أن تكون معطوفةً على خبر " كان " ، أي : وإن كنتم لم تجدوا كاتباً .
والثالث : أن تكون الواو للحال ، والجملة بعدها نصب على الحال ، فهي على هذين الوجهين الأخيرين في محلّ نصبٍ .
والعامة على " كاتباً " اسم فاعل . وقرأ أُبي ومجاهدٌ ، وأبو العالية{[4895]} : " كِتاباً " ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّه مصدرٌ أي ذا كتابة .
والثاني : أنه جمع كاتبٍ ، كصاحبٍ وصحابٍ . ونقل الزمخشريُّ هذه القراءة عن أُبيّ وابن عبَّاسٍ فقط ، وقال : " وَقَالَ ابْنُ عباس : أرأيت إن وَجَدْتَ الكاتب ، ولم تجد الصَّحيفة والدَّواة " . وقرأ ابن عباس{[4896]} والضَّحَّاك : " كُتَّاباً " على الجمع [ اعتباراً ] بأنَّ كلَّ نازلةٍ لها كاتبٌ . وقرأ{[4897]} أبو العالية : " كُتُباً " جمع كتاب ، اعتباراً بالنَّوازل ، قال شهاب الدين : قول ابن عباس : " أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتَ الكَاتِبَ . . . الخ " ترجيحٌ للقراءة المرويَّة عنه واستبعادٌ لقراءة غيره " كاتباً " ، يعني أن المراد الكتاب لا الكاتب .
قوله : " فَرِهَانٌ " فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مرفوعٌ بفعلٍ محذوفٍ ، أي : فيكفي عن ذلك رهنٌ مقبوضةٌ .
الثاني : أنه مبتدأ والخبر محذوفٌ ، أي : فرهن مقبوضة تكفي .
الثالث : أنَّه خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالوثيقة ، أو فالقائم مقام ذلك رهن مقبوضةٌ .
وقرأ{[4898]} ابن كثير ، وأبو عمرٍو : " فَرُهُنٌ " بضم الرَّاء ، والهاء ، والباقون " فَرِهَانٌ " بكسر الرَّاء وألف بعد الهاء ، روي عن ابن كثير ، وأبي عمرو تسكين الهاء في رواية .
فأمَّا قراءة ابن كثير ، فجمع رهن ، وفَعْلٌ يجمع على فُعُلٍ نحو : سَقْف وسُقُف . ووقع في أبي البقاء{[4899]} بعد قوله : " وسَقْف وسُقُف . وأسَد وأُسُد ، وهو وهمٌ " ولكنَّهم قالوا : إنَّ فعلاً جمع فعل قليل ، وقد أورد منه الأخفش{[4900]} ألفاظاً منها : رَهْن ورُهُن ، ولَحْد القبر ، ولُحُد ، وقَلْب النَّخلة ، وقُلُب ، ورجلٌ ثَطٌّ وقومٌ ثُطٌّ ، وفرس وَرْدٌ ، وخيلٌ وُرُدٌّ ، وسَهمٌ حَشْرٌ وَسِهَامٌ حُشُرٌ . وأنشد أبو عمرو حجةً لقراءته قول قعنب : [ البسيط ]
بَانَتُ سُعَادُ وأَمْسَى دُونَها عَدَنُ *** وَغَلِقَتْ عِنْدَهَا مِنْ قَبْلِكَ الرُّهُنُ{[4901]}
وقال أبو عمرو : " وإنما قرأت فرُهُن للفصل بين الرهان في الخيل وبين جمع " رَهْن " في غيرها " ومعنى هذا الكلام أنما اخترت هذه القراءة على قراءة " رهَان " ؛ لأنه لا يجوز له أن يفعل ذلك كما ذكر دون اتِّباع روايةٍ .
واختار الزَّجَّاج{[4902]} قراءته هذه قال : " وَهَذِه القِرَاءَة وافَقَت المصحف ، وما وافق المصحف وصحَّ معناه ، وقرأ به القرَّاء فهو المختار " . قال شهاب الدين : إن الرسم الكريم " فرهن " دون ألفٍ بعد الهاء ، مع أنَّ الزَّجَّاج يقول : " إنَّ فُعُلاً جمع فَعْلٍ قليلٌ " ، وحكي عن أبي عمرو أنه قال : " لا أَعْرِفُ الرِّهان إلا في الخيل لا غيرُ " . وقال يونس : " الرَّهْنُ والرِّهان : عربيان ، والرُّهُن في الرَّهْنِ أكثر ، والرِّهان في الخيل أكثر " وأنشدوا أيضاً على رَهْنٍ ورُهُن قوله : [ الكامل ]
آلَيْتُ لاَ نُعْطِيهِ مِنْ أَبْنَائِنَا *** رُهُناً فيُفْسِدُهُمْ كَمَنْ قَدُ أَفْسَدَا{[4903]}
وقيل : إنَّ رُهُناً جمع رهان ، ورهان جمع رَهْن ، فهو جمع الجمع ، كما قالوا في ثمار جمع ثمر ، وثُمر جمع ثمار ، وإليه ذهب الفراء{[4904]} وشيخه ، ولكنَّ جمع الجمع غير مطرَّدٍ عند سيبويه{[4905]} وجماهير أتباعه .
وأمَّا قراءة الباقين " رِهان " ، فرهان جمع " رَهْن " وفعل وفعال مطردٌ كثير نحو : كَعْب ، وكِعَاب ، وكَلْب وكِلاَب ، ومَنْ سَكَّن ضمة الهاء في " رُهُن " فللتخفيف وهي لغةٌ ، يقولون : سُقْفٌ في سُقُف جمع سَقْفٍ .
والرَّهنُ في الأصل مصدر رهنت ، يقال : رهنت زيداً ثوباً أرهنه رهناً أي : دفعته إليه رهناً عنده ، قال : [ الوافر ]
يُرَاهِنُنِي فَيَرْهَنُنِي بَنِيهِ *** وأَرْهَنُهُ بَنِيَّ بِمَا أَقُولُ{[4906]}
وأرهنت زيداً ثوباً ، أي : دفعته إليه ليرهنه ، ففرَّقوا بين فعل وأفعل . وعند الفرَّاء رهنته وأرهنته بمعنى ، واحتجَّ بقول همَّامٍ السَّلوليِّ : [ المتقارب ]
فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرَهُمْ *** نَجَوْتُ وَأَرْهَنْتُهُمْ مَالِكَا{[4907]}
وأنكر الأصمعيُّ هذه الرِّواية ، وقال إِنَّما الرِّواية : " وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا " والواو للحال ؛ كقولهم : " قَمْتُ وأَصُكُّ عَيْنَهُ " وهو على إضمار مبتدأ .
وقيل : أرْهَنَ في السِّلعة إذا غالى فيها حتّى أخذها بكثير الثَّمن ، ومنه قوله : [ البسيط ]
يَطْوِي ابنُ سَلْمَى بِهَا مِنْ رَاكِبٍ بُعْداً *** عِيديَّةً أُرْهِنَتْ فِيهَا الدَّنَانيِرُ{[4908]}
ويقال : رَهنتُ لساني بكذا ، ولا يُقال فيه " أَرْهَنْتُ " ثم أُطْلق الرَّهنُ على المرهون من باب إطلاق المصدرِ على اسم المفعول كقوله تعالى : { هَذَا خَلْقُ اللهِ } [ لقمان :11 ] ، و " درهَمٌ ضَرْبُ الأَمِير " ، فإذا قلت : " رَهَنْتُ زيداً ثوباً رَهْناً " فرهناً هنا مصدرٌ فقط ، وإذا قلت " رهنْتُ زيداً رَهْناً " فهو هنا مفعولٌ به ؛ لأن المراد به المرهونُ ، ويُحتملُ أن يكونَ هنا " رَهْناً " مصدراً مؤكداً أيضاً ، ولم يذكرِ المفعول الثَّاني اقتصاراً كقوله : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ } [ الضحى :4 ] .
و " رَهْن " مِمَّا استغني فيه بجمعِ كثرته عن جمع قلَّته ، وذلك أنَّ قياسه في القلةِ أفعل كفلس ، وأفلسُ ، فاستُغنيَ برَهن ورِهان عن أرَهُن .
وأصل الرَّهن : الثُّبوت والاستقرارُ يقال : رهن الشَّيءُ ، فهو راهنٌ إذا دام واستقر ، ونعمةٌ راهنةٌ ، أي : دائمة ثابتة ، وأنشد ابن السَِّكِّيت : [ البسيط ]
لاَ يَسَفِيقُونَ مِنْهَا وَهْيَ رَاهِنَةٌ *** إِلاَّ بهَاتِ وَإِنْ عَلُّوا وإنْ نَهِلُوا{[4909]}
ويقال : " طَعَامٌ رَاهِنٌ " أي : مُقيمٌ دائمٌ ؛ قال : [ البسيط ]
الخُبْزُ واللَّحْمُ لَهُمْ رَاهِنٌ *** . . . {[4910]}
أي : دائمٌ مستقرٌّ ، ومنه سُمِّي المرهونُ " رَهْناً " لدوامِه واستقراره عند المُرتهِن .
فصل في إثبات الرهن في الحضر والسفر
جمهورُ الفُقهاء على أَنَّ الرهن في الحضرِ ، والسَّفر سواءٌ ، وفي حال وجود الكاتب ، وعدمهِ ، وذهب مجاهِدٌ : إلى أَنَّ الرهنَ لا يجوزُ إِلاَّ في السقر ؛ لظاهر الآية ، ولا عمل عليه ، وإِنَّما قيدت الآيةُ بالسفر ؛ لأَنَّ الغالبَ في السفرِ عدمُ الكاتِب ؛ فهو كقوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ } [ النساء :101 ] وليس الخوفُ من شرط جواز القصرِ ؛ ويدلُّ عليه ما رُوِيَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ رهن دِرْعَهُ عند أَبِي الشَّحم اليهوديِّ ولم يكن ذلك في سفرٍ .
قوله : " فَإِنْ أَمِنَ " قرأ أُبي{[4911]} فيما نقله عنه الزَّمخشريُّ " أُومِنَ " مبنيّاً للمفعول ، قال الزَّمخشريُّ : أي : " أَمِنَه الناسُ وَوَصَفُوا المَدْيُونَ بالأمانةِ والوفاءِ " قلت : وعلامَ تنتصبُ بَعْضاً ؟ والظاهرُ نصبه بإسقاطِ الخافض على حذف مضافٍ ، أي : فإن أُومِنَ بعضُكم على متاعٍ بعضٍ ، أو على دينِ بعضٍ .
وفي حرف أُبيّ{[4912]} : " فَإِن اؤْتُمِنَ " يعني : وإن كان الذي عليه الحقُّ أَمِيناً عند صاحب الحقِّ ؛ فلم يرتهن منه شيئاً ؛ لحسن ظنه به .
قوله : { فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } إذا وُقِفَ على الَّذِي ، وابتُدئَ بما بعدها قيل : " اوتُمِنَ " بهمزةٍ مضمومةٍ ، بعدها واوٌ ساكنةٌ ، وذلك لأنَّ أصله اؤْتُمِنَ ؛ مثل اقتُدر بهمزتين : الأُولى للوصل ، والثَّانية فاءُ الكلمة ، ووقعت الثانيةُ ساكنةً بعد أُخرى مثلها مضمومةً ؛ فوجب قَلْبُ الثانية لمُجانس حركة الأُولى ، فقلت : اوتُمِنَ ؛ فأمَّا في الدَّرج ، فتذهبُ همزةُ الوصل ؛ فتعودُ الهمزةُ إلى حالها ؛ لزوالِ موجب قلبها واواً ، بل تُقلبُ ياءً صريحةً في الوصلِ ؛ في رواية ورشٍ .
ورُوي عن عاصم : " الَّذِي اؤْتُمِنَ " برفع الأَلف ويُشير بالضَّمَّةِ إلى الهمزةِ ، قال ابن مجاهدٍ{[4913]} : " وهذه الترجمةُ غلطٌ " ورَوَى سليم عن حمزة إشمامَ الهمزةِ الضَّمَّ ، وفي الإِشارة ، والإِشمام المذكُورَين نظرٌ .
وقرأ عاصمٌ{[4914]} أيضاً في شاذِّه : " الَّذِي اتُّمِنَ " بإِدغام الياء المبدلة من الهمزة في تاءِ الافتعال ، قال الزمخشريُّ : قياساً على : " اتَّسَرَ " في الافتعال من اليُسْر ، وليس بصحيح ؛ لأَنَّ الياءَ منقلبةٌ عن الهمزةِ ، فهي في حُكمِ الهمزةِ ، واتَّزر عامِّيٌّ ، وكذلك " رُيَّا " في " رُؤْيَا " .
قال أبو حيَّان{[4915]} : وَمَا ذَكَرهُ الزمخشريُّ فيه : أَنَّهُ ليس بصحيح ، وأَنَّ " اتَّزَرَ " عامِّيٌّ - يعني أنه مِنْ إِحداث العامَّةِ لا أصلَ له في اللغة - قد ذكره غيره أنَّ بعضهم أَبدلَ ، وأدْغَمَ : " اتَّمَنَ واتَّزَرَ " وأنَّ ذلك لغةٌ رديئةٌ ، وكذلك " رُيَّا " في رُؤْيَا ، فهذا التشبيهُ إمَّا أَنْ يعودَ على قوله : " واتَّزَرَ عَامِّيٌّ " ، فيكون إدغام " رُيَّا " عَامِّيًّا ، وإمَّا أن يعود إلى قوله " فَلَيْسَ بِصَحِيح " أي : وكذلك إدغامُ " رُيَّا " ليس بصحيحٍ ، وقد حكى الكِسائيُّ الإدغام في " رُيَّا " .
وقوله : " أَمَانَتَهُ " يجوزُ أن تكونَ الأمانةُ بمعنى الشَّيءِ المُؤْتَمَنِ عليه ؛ فينتصبَ انتصابَ المفعولِ به بقوله : " فَلْيُؤَدِّ " ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدراً على أصلها ، وتكونَ على حذفِ مضافٍ ، أي : فليؤدِّ دين أَمانتهِ ، ولا جائزٌ أن تكونَ منصوبة على مصدرِ اؤْتمنَ ، والضَّمير في " أَمَانَتَهُ " يُحْتَمَلُ أَنْ يعودَ على صاحب الحقِّ ، وأَنْ يعودَ على { الَّذِي اؤْتُمِنَ } .
هذا هو القِسْمُ الثّالث مِنَ البياعاتِ المذكورة في الآية ، وهو بيعُ الأمانة ، أعني : ما لا يكون فيه كتابةٌ ، ولا شهودٌ ، ولا يكونَ فيه رهنٌ .
يقال : " أَمِنَ فُلاَنٌ غَيْرَهُ " إذا لم يخف منه .
قال تعالى : { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ } [ يوسف :64 ] فقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً } أي : لم يخف خيانتهُ وجحودَه للحقِّ { فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } أي : فليؤدِّ المديونُ الذي كان أميناً ، ومؤتمناً في ظنِّ الدَّائن - أمانتَهُ ، أي : حقَّهُ ، كأنه يقولُ : أَيّها المديُونُ ، أنتَ أمينٌ ، ومُؤْتمن في ظنِّ الدَّائِن ، فلا تخلف ظنَّه ، وأدِّ إليه أمانتَهُ ، وحقه ، يقال : أَمِنتُه ، أو ائْتَمَنْتُه ، فهو مأمونٌ ، ومُؤْتَمَنٌ ، { وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ } أي : يتق اللهَ ، ولا يجحدُ ، لأن الدَّائن لمَّا عامله المعاملة الحسنة ؛ حينئذٍ عَوَّل على أَمانته ، ولم يُطَالبه بالوثائق من الكتابة ، والإِشهاد ، والرهنِ ؛ فينبغي لهذا المديُون أنْ يتَّقِي الله ، ويعامله أَحسنَ معاملة ، بأن لا يُنكر الحقَّ ، ويؤديه إليه عند حلول الأَجل .
وقيل : إنه خطابٌ للمرتَهِن بأن يُؤَدِّي الرهنَ عند استيفاءِ المالِ ، فإنه أمانةٌ في يده .
قال بعضهم : هذه الآيةُ ناسخةٌ للآياتِ المتقدمةِ الدالَّةِ على وجوب الكتابة ، والإِشهادِ ، وأخذ الرهن .
واعلم أَنَّ التزام وقُوع النسخِ من غير دليلٍ يُلجئُ إليه خطأٌ . [ بل ] تلك الأَوامِرُ محمولةٌ على الإِرشاد ، ورعاية الاحتياط ، وهذه الآيةُ محمولةٌ على الرخصة .
وعن ابن عباسٍ ، أنه قال : ليس في آية المداينة نسخٌ{[4916]} .
قوله : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ } وفيه وجوهٌ :
الأول : قال القفَّال{[4917]} - رحمه اللهُ - : إنه تعالى لما أباحَ تركَ الكتابةِ والإِشهادِ ، والرهنِ عند اعتقادِ أمانة المديونِ ، ثم كان من الجائز أَنْ يكون المديونُ خائِناً جاحداً للحقِّ ، وكان من الجائزِ أيضاً أن يكون بعضُ الناسِ مُطّلعاً على أحوالهم ، فهاهنا ندب اللهُ ذلك المطلع إلى أن يسعى{[4918]} في إحياء ذلك الحق ، وأن يشهد لصاحب الحق بحقه ، ومنعه من كتمانِ الشَّهادةِ سواء عرف صاحبُ الحق تلك الشهادة ، أم لا ، وشدَّد فيه بأن جعله آثِمَ القلبِ بكتمانها .
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " خَيْرُ الشُّهُودِ مَنْ شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ{[4919]} " .
الثاني : أَنَّ المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة ، ونظيره قوله تعالى : { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ } [ البقرة :140 ] والمرادُ الجُحودُ وإنكارُ العِلْمِ .
الثالث : كِتمانُ الشهادة : هو الامتناع مِنْ أدَائها عند الحاجة إلى إقامتها ، كما تقدَّمَ في قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُواْ } [ البقرة :282 ] ؛ لأنه متى امتنع عن إقامة الشهادة صار كالمبطل لحقه ، وحُرمة مال المسلم كحُرمةِ دمه ، فلهذا بالغَ في وعيده .
وقرأ أَبُو عَبدِ الرحْمَن{[4920]} " وَلاَ يَكْتُمُوا " بياءِ الغيبةِ ؛ لأن قَبْلَهُ غَيْباً وهم مَنْ ذُكر في قوله : " كَاتِبٌ ولا شهيد " .
قوله : { فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } في هذا الضمير وجهان :
أحدهما : أنه ضميرُ الشأنِ ، والجملةُ بعدَه مفسِّرٌ له .
والثاني : أنه ضميرُ " مَنْ " في قوله : " ومَنْ يَكْتُمْهَا " وهذا هو الظاهرُ .
وأمَّا " آثِمٌ قَلْبُهُ " ففيه أوجهٌ :
أظهرها : أنَّ الضميرَ في " إِنَّهُ " ضميرُ " مَنْ " و " آثِمٌ " خبرُ " إِنَّ " ، و " قَلْبُهُ " فاعلٌ ب " آثِمٌ " ، نحو قولك : " زَيْدٌ إِنَّهُ قَائِمٌ أَبُوهُ " ، وعَمَلُ اسم الفاعل هنا واضحٌ ؛ لوجودِ شروطِ الإِعمال ، ولا يجيءُ هذا الوجهُ على القولِ بأنَّ الضميرَ ضميرُ الشأنِ ؛ لأنَّ ضميرَ الشأن لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ ، واسمُ الفاعلِ مع فاعله عند البصريِّين مفردٌ ، والكوفيُّون يُجيزون ذلك .
الثاني : أن يكون " آثِمٌ " خبراً مقدَّماً ، و " قَلْبُهُ " مبتدأٌ مؤخراً ، والجملةُ خبرَ " إِنَّ " ، ذكره الزمخشريُّ وأبو البقاء{[4921]} وغيرهما وهذا لا يجوزُ على أصول الكوفيِّين ؛ لأنه لا يعودُ عندهم الضَّميرُ المرفوعُ على متأخِّرٍ لفظاً ، و " آثِمٌ " قد تحمَّل ضميراً ، لأنه وقع خبراً ؛ وعلى هذا الوجه : فيجوزُ أن تكونَ الهاءُ ضميرَ الشأن ، وأَنْ تكونَ ضميرَ " مَنْ " .
والثالث : أن يكونَ " آثِمٌ " خبرَ " إِنَّ " ، وفيه ضميرٌ يعودُ على ما تعودُ عليه الهاء في " إِنَّهُ " ، و " قَلْبُهُ " بدلٌ من ذلك الضمير المستترِ بدلُ بعضٍ من كُلٍّ .
الرابع : [ أن يكونَ ] " آثمٌ " مبتدأً ، و " قَلْبُهُ " فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر ، والجملةُ خبرُ " إِنَّ " ، قاله ابن عطية ، وهو لا يجوزُ عند البصريِّين ؛ لأنَّه لا يعملُ عندهم اسمُ الفاعل ، إلا إذا اعتمد على نفي ، أو استفهام ؛ نحو : ما قائِمٌ أَبَوَاكَ ، وهَلْ قائِمٌ أَخَوَاكَ ؟ وَمَا قَائِمٌ قَوْمُكَ ، وَهَلْ ضَارِبٌ إِخْوَتُكَ ؟ وإنما يجوزُ هذا عند الفراءِ من الكوفيين ، والأخفشِ من البصريِّين ؛ إذ يجيزانِ : قائمٌ الزَّيدانِ ، وقائِمٌ الزَّيدُونَ ، فكذلك في الآية الكريمة .
وقرأ ابن عبلة{[4922]} : " قَلْبَهُ " بالنصب ، نسبها إليه ابن عطيَّة .
أحدها : أنه بدلٌ من اسم " إِنَّ " بدلُ بعض من كلٍّ ، ولا محذورَ في الفصلِ [ بالخبر - وهو آثِمٌ - بين البدلِ والمبدلِ منه ، كما لا محذورَ في الفصل ] به بين النعتِ والمنعوتِ ، نحو : زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ العَاقِلُ مع أنَّ العاملَ في النعت والمنعوت واحدٌ ؛ بخلافِ البدلِ والمبدلِ منه ؛ فإنَّ الصحيحَ أنَّ العاملَ في البدلِ غيرُ العاملِ في المُبدلِ منه .
الثاني : أنه منصوبٌ على التشبيه بالمفعولِ به ؛ كقولك : " مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنٍ وَجْهَهُ " ، وفي هذا الوجه خلافٌ مشهورٌ :
فمذهب الكوفيين : الجواز مُطْلَقاً ، أعني نظماً ونَثْراً . ومذهبُ المبرد المنع مطلقاً ، ومذهب سيبويه : منعه في النثر ، وجوازه في الشعرِ ، وأنشد الكسائي على ذلك : [ الرجز ]
أَنْعَتُهَا إِنِّيَ مِنْ نُعَّاتِهَا *** مُدَارَةَ الأَخْفَافِ مُجْمَرَّاتِهَا{[4923]}
غُلْبَ الرِّقَابِ وَعَفَرْنِيَّاتِهَا *** كُومَ الذُّرَى وَادِقَةً سُرَّاتِهَا
ووجه ضعفه عند سيبويه في النثر تكرار الضمير .
الثالث : أنه منصوبٌ على التمييز حكاه مكيٌّ{[4924]} وغيره ؛ وضعَّفوه بأنَّ التمييز لا يكونُ إلا نكرةً ، وهذا عند البصريِّين ، وأمَّا الكوفيون فلا يَشْتَرطون تنكيرَه ، ومنه عندهم : { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة :130 ] و{ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } [ القصص :58 ] ؛ وأنشدوا قوله : [ الوافر ]
إِلَى رُدُحٍ مِنَ الشِّيزَى مِلاَءٍ *** لُبَابَ البُرِّ يُلْبَكُ بِالشِّهَادِ{[4925]}
وقرأ ابن أبي عبلة{[4926]} - فيما نقل عنه الزمخشريُّ - " أَثَّمَ قَلْبَهُ " جعل " أَثَمَّ " فعلاً ماضياً مشدَّد العين ، وفاعله مستترٌ فيه ، و " قَلْبَهُ " مفعول به ، أي : جعل قلبه آثِماً ، أي : أَثِمَ هو ؛ لأنه عَبَّر بالقلبِ عن ذاتِه كلِّها ؛ لأنه أشرفُ عضوٍ فيها . وهو ، وإِنْ كان بلفظِ الإِفراد ، فالمرادُ به الجمعُ ، ولذلك اعتبر معناه في قراءة أبي عبد الرحمن ، فجمع في قوله : " وَلاَ يَكْتُمُوا " .
وقد اشتملَتْ هذه الآياتُ على أنواع من البديع : منها : التجنيسُ المغايرُ في " تَدَايَنْتُم بِدَيْنٍ " ، ونظائره ، والمماثلُ في قوله : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا } ، والطباقُ في " تَضِلَّ " و " تُذَكِّرَ " و " صَغِيراً وكَبِيراً " ، وقرأ السُّلمِيُّ{[4927]} أيضاً : " واللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ " بالغَيبة ؛ جرياً على قراءته بالغَيْبَة .
و " الآثم " : الفاجرُ رُوِيَ أَنَّ عمر كان يُعلِّمُ أَعرابيّاً { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ } [ الدخان :43 ، 44 ] فكان يقول : " طَعَامُ اليَتِيم " فقال له عُمرُ : طعام الفاجِرِ{[4928]} ، وهذا يدلُّ على أَنَّ الإِثم يكون بمعنى الفجورِ . قيل{[4929]} : ما وعد اللهُ على شيءٍ كإيعاده على كتمان الشهادة ؛ قال : { فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } وأراد به مسخ القلب ؛ نعوذُ بالله من ذلك .
وقوله : { وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } تحذيرٌ من الإِقدامِ على الكِتمانِ ؛ لأنَّ المكلَّفَ إذا علم أَنَّ الله تعالى لا يعزُبُ عن عِلْمِه ضميرُ قلبه ، كان خائِفاً حذراً من مُخالفة أَمرِ اللهِ تعالى .