قوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا } ، الآية . قرأ الكسائي : { هل تنقمون ، بإدغام اللام في التاء ، وكذلك يدغم لام هل في التاء والثاء والنون ، ووافقه حمزة في التاء والثاء ، وأبو عمرو في { هل ترى } في موضعين .
قال ابن عباس : أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود ، أبو ياسر بن أخطب ، ورافع بن أبي رافع وغيرهما ، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل ، فقال : أؤمن بالله ، وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل ، إلى قوله : { ونحن له مسلمون } ، فلما ذكر عيسى عليه السلام جحدوا نبوته ، وقالوا : والله ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ، ولا ديناً شراً من دينكم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : { قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا } ، أي : تكرهون منا .
قوله تعالى : { إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون } ، أي : هل تكرهون منا إلا إيماننا وفسقكم ، أي : إنما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أنا على حق ، لأنكم فسقتم بأن أقمتم على دينكم لحب الرياسة ، وحب الأموال .
وبعد أن حذر - سبحانه - المؤمنين تحذيرا شديدا من موالاة أعدائه . عقب ذلك بتوبيخ أهل الكتاب على عنادهم وحسدهم ، ووصفهم بجملة من الصفات القبيحة التي ينأى عنها العقلاء وأصحاب المروءة فقال - تعالى - :
{ قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ . . . }
قال القرطبي : قال ابن عباس : " جاء نفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل - عليهم السلام - فقال : نؤمن بالله وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل إلى قوله : ونحن له مسلمون " . فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته ، وقالوا : والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ، ولا دينا شراً من دينكم . فنزلت هذه الآية وما بعدها .
وتنقمون معناه : تسخطون . وقيل تكرهون . وقيل تنكرون . والمعنى متقارب يقال : نقم من كذا ينقم ونقم ينقم والأول أكثر . . وفي التنزيل وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد . وانتقم منه أي : عاقبة : والاسم النقمة والجمع نقم .
والاستفهام ، للانكار والتعجب من حالهم حيث يعيبون على المؤمنين ما هو المدح والثناء والتكريم .
والمعنى : قل يا محمد على سبيل التوبيخ لأهل الكتاب ، والتعجيب من أحوالهم قل لهم : { ياأهل الكتاب } يا من كتابكم عرفكم مواطن الذم { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ } أي : ما تعيبون وتنكرون وتكرهون منا { إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله } الذي يجب الإِيمان به ، والخضوع له ، لأنه الخالق لكل شيء ، وآمنا بما أنزل إلينا من القرآن الكريم وآمنا بما أنزل من قبل من كتب سماوية كالتوراة والإِنجيل والزبور وغير ذلك من الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه قبل إنزال القرآن الكريم .
ولا شك أن إيماننا بذلك لا يعاب ولا ينكر ، بل يمدح ويشكر ، ولكن لأن { أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } - أي : خارجون عن دائرة هذا الإِيمان الحق - كرهتم منا ذلك ، وأنكرتموه علينا ، وحسدتمونا على توفيق الله إيانا لما يحبه ويرضاه .
وقال الجمل ما ملخصه : وقوله : { إِلاَّ أَنْ آمَنَّا } مفعول لقوله { تَنقِمُونَ } بمعنى تكرهون .
وهو استثناء مفرغ . وقوله : { منا } متعلق به . أي ما تكرهون من جهتنا إلا الإِيمان بالله وبما أنزل إلينا وأصل نقم أن يتعدى بعلى . تقول : نقمت عليه بكذا . وإنما عدي هنا بمن ؛ لتضمنه معنى تكرهون وتنكرون .
وقوله : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } يحتمل أن يكون في محل رفع أو نصب أو جر فالرفع على أن يكون مبتدأ والخبر محذوف أي : وفسقكم ثابت عندكم ، لأنكم علمتم أنا على الحق وأنكم على الباطل إلا أن حب الرياسة وجمع الأموال حملكم على العناد .
والنصب على أن يكون معطوفا على قوله { أن آمنا } ولكن الكلام فيه مضاف محذوف لفهم المعنى . والتقدير : واعتقاد أن أكثرهم فاسقون وهو معنى واضح فإن الكفار ينقمون اعتقاد المؤمنين أنهم - أي الكفار - فاسقون - أي : ما تعيبون منا إلا إيماننا بالله وما أنزل إلينا . واعتقادنا أن أكثركم فاسقون .
وأما الجر فعلى أن يكون معطوفاً على علة محذوفة والتقدير : ما تنقمون منا إلا الإِيمان بالله وبما أنزل .
لقلة إنصافكم وفسقكم واتباعكم شهواتكم .
هذا ومن بلاغة القرآن الكريم ، وإنصافه في الأحكام ، واحتراسه في التعبير أنه لم يعمم الحكم بالفسق على جميعهم . بل جعل الحكم بالفسق منصباً على الأكثرين منهم ، حتى يخرج عن هذا الحكم القلة المؤمنة من أهل الكتاب .
وشبيه بهذا قوله في آية أخرى : { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } قال بعض العلماء : في الآية تسجيل على أهل الكتاب بكمال المكابرة والتعكيس ، حيث جعلوا الإِيمان بما ذكر ، موجبا للنقمة ، مع كونه في نفسه موجبا للقبول والرضا . وهذا مما تقصد العرب في مثله تأكيد النفي والمبالغة فيه بإثبات شيء وذلك الشيء لا يقتضي إثباته فهو منتف أبداً . ويسمى مثل ذلك عند علماء البيان تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس . فمن الأول قول القائل :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم . . . بهن فلول من قراع الكتائب
فتى كملت أخلاقه غير أنه . . . جواد ، فما يبقى من المال باقياً
ومن الثاني هذه الآية وما يشبهها . أي : ما ينبغي لهم أن ينقموا شيئاً إلا هذا ، وهذا لا يوجب لهم أن ينقموا شيئاً إذاً فليس هناك شيء ينقمونه ، وما دام الأمر كذلك ، فينبغي لهم أن يؤمنوا ولا يكفروا . وفيه أيضاً تقريع لهم حيث قابلوا الإِحسان بسوء الصنيع .
يقول تعالى : قل يا محمد ، لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم{[10006]} هزوًا ولعبًا من أهل الكتاب : { هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ } أي : هل لكم علينا مطعن أو عيب إلا هذا ؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة ، فيكون الاستثناء منقطعًا{[10007]} كما في قوله : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ البروج : 8 ] وكقوله : { وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ } [ التوبة : 74 ] وفي الحديث المتفق عليه : " ما ينقم ابن جَميل إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله " . {[10008]}
وقوله : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } معطوف على { أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ } أي : وآمنا بأن أكثركم فاسقون ، أي : خارجون عن الطريق المستقيم .
{ قُلْ يََأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنّآ إِلاّ أَنْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لأهل الكتاب من اليهود والنصارى : يا أهل الكتاب ، هل تكرهون منا أو تجدون علينا حتى تستهزءوا بديننا إذا أنتم إذا نادينا إلى الصلاة اتخذتم نداءنا ذلك هزوا ولعبا ، إلاّ أنْ آمَنّا بالله يقول : إلاّ أن صدقنا وأقررنا بالله فوحّدناه ، وبما أنزل إلينا من عند الله من الكتاب ، وما أنزل إلى أنبياء الله من الكتب من قبل كتابنا . وأنّ أكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ يقول : إلاّ أن أكثركم مخالفون أمر الله ، خارجون عن طاعته ، تكذبون عليه . والعرب تقول : نَقَمْتُ عليك كذا أنْقِمُ وبه قرأ القرّاء من أهل الحجاز والعراق وغيرهم ونَقِمْتُ أنقَم لغتان ، ولا نعلم قارئا قرأ بها بمعنى وجدت وكرهت ، ومنه قول عبد الله بن قيس الرقيات :
ما نَقِمُوا مِنْ بَنِي أُمَيّةَ إلاّ ***أنّهُمْ يَحْلُمُونَ إنْ غَضِبُوا
وقد ذكر أن هذه الاَية نزلت بسبب قوم من اليهود . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد ، مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرٌ من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ، ورافع بن أبي رافع ، وعازَر ، وزيد وخالد ، وأزار بن أبي أزار ، وأشيع ، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل ؟ قال : «أُوْمِنُ باللّهِ وَما أُنْزِلَ إلَيْنا ، وَما أُنْزِلَ إلى إبْرَاهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْباطِ ، وَما أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى ، وَما أُوتِيَ النّبِيّونَ مِنْ رَبّهِمْ ، لا نُفَرّق بينَ أحَدٍ مِنْهُمْ ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ » . فلما ذكر عيسى جحدوا نبوّته وقالوا : لا نؤمن بمن آمن به فأنزل الله فيهم : قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا إلاّ أنْ آمَنّا باللّهِ وَما أُنْزِلَ إلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وأنّ أكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ .
عطفا بها على «أنْ » التي في قوله : إلاّ أنْ آمَنّا باللّهِ لأن معنى الكلام : هل تنقمون منا إلاّ إيماننا بالله وفسقكم .
ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لأهل الكتاب { هل تنقمون منا } ومعناه هل تعدون علينا ذنباً أو نقيصة ، يقال «نقَم » بفتح القاف ينقِم بكسرها ، وعلى هذه اللغة قراءة الجمهور ، ويقال «نقِم » بكسر القاف ينقَم بفتحها وعلى هذه اللغة قرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو الَبَرْهَسم{[1]} والنخعي ، وهذه الآية من المحاورة البليغة الوجيزة ، ومثلها قوله تعالى : { وما نقموا منهم ، إلا أن يؤمنوا بالله }{[2]} ونظير هذا الغرض في الاسثناء قول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب{[3]}
وقرأ الجمهور «أَنزل » بضم الهمزة ، وكذلك في الثاني ، وقرأ أبو نهيك «أَنزل » بفتح الهمزة والزاي فيهما ، وقوله تعالى : { وأن أكثركم فاسقون } هو عند أكثر المُتأولين معطوف على قوله : { أن آمنا } فيدخل كونهم فاسقين فيما نقموه ، وهذا لا يتجه معناه ، وروي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال في ذلك بفسقهم نقموا علينا الإيمان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الكلام صحيح في نفسه لكنه غير مغن في تقويم معنى الألفاظ ، وإنما يتجه على أن يكون معنى المحاورة هل تنقمون منا إلا عموم هذه الحال من إنا مؤمنون وأنتم فاسقون ، ويكون { وأن أكثركم فاسقون } مما قرره المخاطب لهم ، وهذا كما تقول لمن تخاصمه هل تنقم مني إلا أن صدقت أنا وكذبت أنت ، وهو لا يقر بأنه كاذب ولا ينقم ذلك ، لكن معنى كلامك : هل تنقم إلا مجموع هذه الحال ، وقال بعض المتأولين قوله : { وأن أكثركم } معطوف على { ما } ، كأنه قال { إلا أن آمنا بالله } وبكتبه وبأن أكثركم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا مستقيم المعنى ، لأن إيمان المؤمنين بأن أهل الكتاب المستمرين على الكفر بمحمد َفَسَقة هو مما ينقمونه ، وذكر الله تعالى الأكثر منهم من حيث فيهم من آمن واهتدى .
هذه الجمل معترضة بين ما تقدّمها وبين قوله : { وإذا جاؤوكم } [ المائدة : 61 ] . ولا يتّضح معنى الآية أتمّ وضوح ويظهرُ الدّاعي إلى أمْرِ الله ورسوله عليه الصّلاة والسلام بأن يواجههم بغليظ القول مع أنّه القائل { لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول إلاّ من ظُلم } [ لنساء : 148 ] والقائل { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالّتي هي أحسن إلاّ الّذين ظلموا منهم } [ العنكبوت : 46 ] إلاّ بعد معرفة سبب نزول هذه الآية ، فيعلم أنّهم قد ظَلَموا بطعنهم في الإسلام والمسلمين . فذكر الواحدي وابن جرير عن ابن عبّاس قال : جاء نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بنُ أخطب ، ورافعُ بن أبي رَافع ، وعازر ، وزيد ، وخالد ، وأزار بن أبي أزار ، وأشيع ، إلى النّبيء فسألوه عمّن يُؤمِن به من الرسل ، فلمّا ذكر عيسى ابن مريم قالوا : لا نؤمن بمَن آمن بعيسى ولا نعلم ديناً شَرّاً من دينكم وما نعلم أهلَ دين أقلّ حظّاً في الدنيا والآخرة منكم ، فأنزل الله { قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلاّ أن آمنا بالله } إلى قوله { وأضلّ عن سواء السبيل } . فخصّ بهذه المجادلة أهل الكتاب لأنّ الكفّار لا تنهض عليهم حجّتها ، وأريد من أهل الكتاب خصوص اليهود كما يُنبىء به الموصولُ وصلتُه في قوله : { مَن لَعنه اللّهُ وغضب عليه } الآية . وكانت هذه المجادلة لهم بأنّ ما ينقمونه من المؤمنين في دينهم إذا تأمّلوا لا يجدون إلاّ الإيمانَ بالله وبما عند أهل الكتاب وزيادة الإيمان بما أنزل على محمّد صلى الله عليه وسلم .
والاستفهام إنكاري وتعجّبي . فالإنكار دلّ عليه الاستثناء ، والتعجّبُ دلّ عليه أنّ مفعولات { تنقمون } كلّها محامد لا يَحقّ نَقْمُها ، أي لا تجدون شيئاً تنقمونه غير ما ذكر . وكلّ ذلك ليس حقيقاً بأن يُنقم . فأمّا الإيمان بالله وما أنزل من قبلُ فظاهر أنّهم رَضُوه لأنفسهم فلا ينقمونه على من ماثَلَهم فيه ، وأمّا الإيمان بما أنزل إلى محمّد فكذلك ، لأنّ ذلك شيء رضيه المسلمون لأنفسهم وذلك لا يهُمّ أهل الكتاب ، وَدَعا الرسول إليه أهل الكتاب فمن شاء منهم فليؤمن ومن شاء فليكفر ، فما وجْه النقْم منه . وعدّي فعل { تنقمون } إلى متعلِّقه بحرف ( من ) ، وهي ابتدائية . وقد يعدّى بحرف ( على ) .
وأمّا عطف قوله تعالى : { وأنّ أكثرهم فاسقون } فقرأه جميع القرّاء بفتح همزة ( أنّ ) على أنّه معطوف على { أن آمنّا بالله } .
وقد تحيّر في تأويلها المفسّرون لاقتضاء ظاهرها فسق أكثر المخاطبين مع أنّ ذلك لا يَعترف به أهله ، وعلى تقدير اعترافهم به فذلك ليس ممّا يُنْقَم على المُؤمنين إذ لا عمل للمؤمنين فيه ، وعلى تقدير أن يكون ممّا يُنقم على المؤمنين فليس نقْمُه عليهم بمحلّ للإنكار والتعَجّب الّذي هو سياق الكلام .
فذهب المفسّرون في تأويل موْقع هذا المعطوف مذاهب شتّى ؛ فقيل : هو عطف على متعلّق { آمنَّا } أي آمنّا بالله ، وبفسق أكثركم ، أي تَنقِمون منّا مجموعَ هذين الأمرين . وهذا يُفيت معنى الإنكار التعجّبي لأنّ اعتقاد المؤمنين كَونَ أكثر المخاطبين فاسقون يجعل المخاطبين معذورين في نقْمه فلا يتعجّب منه ولا ينكر عليهم نقمه ، وذلك يخالف السياق من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه فلا يلتئم مع المعطوف عليه ، فالجمع بين المتعاطفين حينئذٍ كالجمع بين الضبّ والنّون ، فهذا وجه بعيد .
وقيل : هو معطوف على المستثنى ، أي ما تنقمون منّا إلاّ إيمانَنا وفسقَ أكثركم ، أي تنقمون تخالف حالينا ، فهو نَقْمُ حَسَد ، ولذلك حسن موقع الإنكار التعجّبي . وهذا الوجه ذكره في « الكشاف » وقَدّمَه وهو يحسن لو لم تكن كلمة { مِنّا } لأنّ اختلاف الحالين لا ينقم من المؤمنين ، إذ ليس من فعلهم ولكن من مُصَادفة الزّمان .
وقيلَ : حُذف مجرور دلّ عليه المذْكور ، والتّقدير : هل تنقمون منّا إلاّ الإيمانَ لأنّكم جائرُون وأكثركم فاسقون ، وهذا تخريج على أسلوب غير معهود ، إذ لم يعرف حذف المعطوف عليه في مثل هذا . وذكر وجهان آخران غير مرضيين .
والّذي يظهر لي أن يكون قوله : { وأنّ أكثركم فاسقون } معطوفاً على { أنّ آمنّا بالله } على ما هو المتبادر ويكون الكلام تهكّماً ، أي تنقمون منّا أنّنا آمنّا كإيمانكم وصدّقنا رسلكم وكتبكم ، وذلك نَقْمُهُ عجيب وأنّنا آمنّا بما أنزل إلينا وذلك لا يهمّكم . وتنقمون منّا أنّ أكثركم فاسقون ، أي ونحنُ صالحون ، أي هذا نَقْم حَسَد ، أي ونحن لا نملك لكم أن تكونوا صالحين . فظهرت قرينة التهكّم فصار في الاستفهام إنكار فتعَجُّب فتهكُّم ، تولَّد بعضُها عن بعض وكّلها متولّدة من استعمال الاستفهام في مجازاته أو في معان كنائية ، وبهذا يكمل الوجه الّذي قدّمه صاحب « الكشاف » .
ثمّ اطّرد في التهكّم بهم والعَجبِ من أَفَن رأيهم مع تذكيرِهم بمساويهم فقال : { قل هل أنبّئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله } الخ . وشرّ اسم تفضيل ، أصله أشَرّ ، وهو للزيادة في الصفة ، حذفت همزته تخفيفاً لكثرة الاستعمال ، والزّيادة تقتضي المشاركة في أصل الوصف فتقتضي أنّ المسلمين لهم حظّ من الشرّ ، وإنّما جَرى هذا تهكّماً باليهود لأنّهم قالوا للمسلمين : لا دِينَ شَرّ من دينكم ، وهو ممّا عبّر عنه بفعل { تنقمون } . وهذا من مقابلة الغلظة بالغلظة كما يقال : « قُلْتَ فأوْجبْت » .
والإشارة في قوله { من ذلك } إلى الإيمان في قوله : { هل تنقمون منّا إلا أن آمنّا بالله } الخ باعتبار أنّه منقوم على سبيلِ الفرض . والتّقدير : ولمّا كان شأن المنقوم أن يكون شرّاً بني عليه التهكّم في قوله : { هل أنبّئكم بشرّ من ذلك } ، أي ممّا هو أشدّ شرّاً .
والمثُوبة مشتقّة من ثَاب يثوب ، أي رجع ، فهي بوزن مفعولة ، سمّي بها الشيء الّذي يثوب به المرء إلى منزله إذا ناله جزاء عن عملٍ عملَه أو سعْي سعاه ، وأصلها مثوب بها ، اعتبروا فيها التّأنيث على تأويلها بالعطيّة أو الجائزة ثمّ حذف المتعلّق لكثرة الاستعمال .
وأصلها مؤذن بأنّها لا تطلق إلاّ على شيء وجودي يعطاه العامل ويحمله معه ، فلا تطلق على الضّرْب والشتم لأنّ ذلك ليس ممّا يثُوب به المرء إلى منزله ، ولأنّ العرب إنّما يبْنون كلامهم على طباعهم وهم أهل كرم لنزيلهم ، فلا يريدون بالمثوبة إلاّ عطية نافعة . ويصحّ إطلاقها على الشيء النّفيس وعلى الشيء الحقير من كلّ ما يثوب به المعطَى . فَجَعْلها في هذه الآية تمييزاً لاسم الزيادة في الشرّ تهكّم لأنّ اللّغة والغضب والمسخ ليست مثوبات ، وذلك كقول عمرو بن كلثوم :
قَرَيْنَاكم فعجَّلْنَا قِراكم *** قُبَيْلَ الصبح مِرْداة طحونا
وخيلٍ قد دَلَفتُ لها بِخيْل *** تَحِيَّةُ بَيْنهم ضرْب وَجِيع
وقوله : { مَن لَعَنَهُ الله } مبْتدأ ، أريد به بيان من هو شرّ مثوبة . وفيه مضاف مقدّر دلّ عليه السياق . وتقديره : مثوبةُ مَنْ لَعنهُ الله . والعدول عن أن يقال : أنتم أو اليهودُ ، إلى الإتيان بالموصول للعِلم بالمعنيّ من الصلة ، لأنّ اليهود يعلمون أنّ أسلافاً منهم وقعت عليهم اللّعنة والغضب من عهد أنبيائهم ، ودلائله ثابتة في التّوراة وكتب أنبيائهم ، فالموصول كناية عنهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لأهل الكتاب من اليهود والنصارى: يا أهل الكتاب، هل تكرهون منا أو تجدون علينا حتى تستهزؤوا بديننا إذ أنتم إذا نادينا إلى الصلاة اتخذتم نداءنا ذلك هزوا ولعبا، "إلاّ أنْ آمَنّا بالله "يقول: إلاّ أن صدقنا وأقررنا بالله فوحّدناه، وبما أنزل إلينا من عند الله من الكتاب، وما أنزل إلى أنبياء الله من الكتب من قبل كتابنا. "وأنّ أكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ" يقول: إلاّ أن أكثركم مخالفون أمر الله، خارجون عن طاعته، تكذبون عليه... وقد ذكر أن هذه الآية نزلت بسبب قوم من اليهود... معنى الكلام: هل تنقمون منا إلاّ إيماننا بالله وفسقكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ما أنزل إلينا وما أنزل من قبل} أي كيف تطعنون علينا، وتعيبون، و أنتم ممن قد دعيتم إلى الإيمان بما أنزل في الكتب، وأنتم ممن قد أوتيتم الكتاب، وفي كتابكم الإيمان بالله والإيمان بالكتب كلها؟ فيكف تنكرون الإيمان بذلك كله، وتعيبون علينا ولا تعيبون على أنفسكم بفسقكم وخروجكم عن أمر الله تعالى وعما أمركم كتابكم، ودعاكم إليه، ونهاكم عما أنتم فيه. "وما أنزل إلينا"، هو القرآن، وهو يصدق ما قبله من الكتب "وما أنزل من قبل "من الكتب المتقدمة من التوراة والزبور والإنجيل وهي تصدق القرآن؛ بعضها يصدق بعضا؟ فكيف تنكرون الإيمان به؟
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: علام عطف قوله: {وَأَنْ أَكْثَرَكُمْ فاسقون}؟ قلت: فيه وجوه: منها أن يعطف على أن آمنا، بمعنى: وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين تمرّدكم وخروجكم عن الإيمان، كأنه قيل: وما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في دين الإسلام وأنتم خارجون منه. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف، أي واعتقاد أنكم فاسقون. ومنها أن يعطف على المجرور، أي وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وبما أنزل وبأن أكثركم فاسقون. ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع، أي وما تنقمون منا إلا الإيمان مع أنّ أكثركم فاسقون. ويجوز أن يكون تعليلاً معطوفاً على تعليل محذوف، كأنه قيل: وما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم واتباعكم الشهوات. ويدل عليه تفسير الحسن: بفسقكم نقمتم ذلك علينا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لأهل الكتاب {هل تنقمون منا} ومعناه هل تعدون علينا ذنباً أو نقيصة، وقوله تعالى: {وأن أكثركم فاسقون} هو عند أكثر المُتأولين معطوف على قوله: {أن آمنا} فيدخل كونهم فاسقين فيما نقموه، وهذا لا يتجه معناه، وروي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال في ذلك بفسقهم نقموا علينا الإيمان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الكلام صحيح في نفسه لكنه غير مغن في تقويم معنى الألفاظ، وإنما يتجه على أن يكون معنى المحاورة هل تنقمون منا إلا عموم هذه الحال من إنا مؤمنون وأنتم فاسقون، ويكون {وأن أكثركم فاسقون} مما قرره المخاطب لهم، وهذا كما تقول لمن تخاصمه هل تنقم مني إلا أن صدقت أنا وكذبت أنت، وهو لا يقر بأنه كاذب ولا ينقم ذلك، لكن معنى كلامك: هل تنقم إلا مجموع هذه الحال، وقال بعض المتأولين قوله: {وأن أكثركم} معطوف على {ما}، كأنه قال {إلا أن آمنا بالله} وبكتبه وبأن أكثركم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مستقيم المعنى، لأن إيمان المؤمنين بأن أهل الكتاب المستمرين على الكفر بمحمد َفَسَقة هو مما ينقمونه، وذكر الله تعالى الأكثر منهم من حيث فيهم من آمن واهتدى.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت النفوس نزاعة إلى الهوى، عمية عن المصالح، جامحة عن الدواء بما وقفت عنده من النظر إلى زينة الحياة الدنيا، وكان الدليل على سلب العقل عن أهل الكتاب دليلاً على العرب بطريق الأولى، وكان أهل الكتاب لكونهم أهل علم لا ينهض بمحاجتهم إلا الأفراد من خلص العباد، قال تعالى دالاً على ما ختم به الآية من عدم عقلهم آمراً لأعظم خلقه بتبكيتهم وتوبيخهم وتقريعهم: {قل} وأنزلهم بمحل البعد فقال مبكتاً لهم بكون العلم لم يمنعهم عن الباطل: {يا أهل الكتاب} أي من اليهود والنصارى {هل تنقمون} أي تنكرون وتكرهون وتعيبون {منا إلا أن آمنا} أي أوجدنا الإيمان {بالله} أي لما له من صفات الكمال التي ملأت الأقطار وجاوزت حد الإكثار {وما أنزل إلينا} أي لما له من الإعجاز في حالات الإطناب والتوسط والإيجاز {وما أنزل}. ولما كان إنزال الكتب والصحف لم يستغرق زمان المضي، أثبت الجار فقال: {من قبل} أي لما شهد له كتابنا، وهذه الأشياء التي آمنا بها لا يحيد فيها عاقل، لما لها من الأدلة التي وضوحها يفوق الشمس، فحسنها لا شك فيه ولا لبس {وأن} أي آمنا كلنا مع أن أو و الحال أن {أكثركم} قيد به إخراجاً لمن يؤمن منهم بما دل عليه التعبير بالوصف {فاسقون} أي عريقون في الفسق، وهو الخروج عن دار السعادة بحيث لا يمكن منهم رجوع إلى المرضى من العبادة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الاستفهام للإنكار والتبكيت أي قل أيها الرسول مخاطبا ومحتجا على أهل الكتاب دون المشركين: هل تنقمون منا شيئا، أي هل عندنا شيء تنكرونه وتعيبونه علينا وتكرهوننا لأجله لمضادتكم إيانا فيه، إلا إيماننا الصادق بالله وتوحيده وتنزيهه وإثبات صفات الكمال له، وإيماننا بما أنزله إلينا وبما أنزله من قبل على رسله؟ أي عندنا سوى ذلك وهو يعاب و ينقم، بل يمدح صاحبه ويكرم، -وألا إن أكثركم فاسقون، أي خارجون من حظيرة هذا الإيمان الصحيح الكامل، وليس لكم من الدين إلا العصبية الجنسية، والتقاليد الباطلة؟ فلذلك تعيبون الحسن من غيركم، وترضون القبيح من أنفسكم.
يقال نقم منه كذا ينقم (كضرب يضرب) إذا أنكره عليه بالقول والفعل وعابه به وكرهه لأجله. وهو من مادة النقمة وهي كراهة السخط، والعقاب المرتب عليها. ويقال (نقم ينقم) (بوزن علم يعلم) والمستعمل في القرآن الأول.
وفي قوله تعالى: (وأكثركم فاسقون) ما نبهنا على مثله من دقة القرآن في الحكم على الأمم والشعوب إذ يحكم على الكثير أو الأكثر، وما عم إلا واستثنى. وقد كان ولا يزال في أهل الكتاب أناس لا يزالون معتصمين بأصول الدين وجوهره من التوحيد وحب الحق والعدل والخير. وهؤلاء هم الذين كانوا يسارعون إلى الإسلام إذا عرفوه بقدر نصيب كل من جوهر الدين ونور البصيرة. وهذا لا ينافي ما كان من طروء التحريف على دينهم، ونسيان حظ ونصيب مما نزل إليهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وحين تتم النداءات الثلاثة للذين آمنوا، يتوجه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليواجه أهل الكتاب، فيسألهم: ماذا ينقمون من الجماعة المسلمة؟ وهل ينقمون منها إلا الإيمان بالله، وما أنزل إلى أهل الكتاب؛ وما أنزله الله للمسلمين بعد أهل الكتاب..؟ هل ينقمون إلا أن المسلمين يؤمنون، وأنهم هم -أهل الكتاب- أكثرهم فاسقون؟ وهي مواجهة مخجلة. ولكنها كذلك كاشفة وحاسمة ومحددة لأصل العداوة ومفرق الطريق:
(قل: يا أهل الكتاب، هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل من قبل، وأن أكثركم فاسقون؟ قل: هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله؟ من لعنه الله، وغضب عليه، وجعل منهم القردة والخنازير، وعبد الطاغوت.. أولئك شر مكانا، وأضل عن سواء السبيل)..
إن هذا السؤال الذي وجه الله رسوله إلى توجيهه لأهل الكتاب، هو من ناحية سؤال تقريري لإثبات ما هو واقع بالفعل منهم؛ وكشف حقيقة البواعث التي تدفع بهم إلى موقفهم من الجماعة المسلمة ودينها وصلاتها.
وهو من ناحية سؤال استنكاري، لاستنكار هذا الواقع منهم، واستنكار البواعث الدافعة عليه.. وهو في الوقت ذاته توعية للمسلمين، وتنفير لهم من موالاة القوم، وتقرير لما سبق في النداءات الثلاثة من نهي عن هذه الموالاة وتحذير.
إن أهل الكتاب لم يكونوا ينقمون على المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهم لا ينقمون اليوم على طلائع البعث الإسلامي -إلا أن هؤلاء المسلمين يؤمنون بالله؛ وما أنزله الله إليهم من قرآن؛ وما صدق عليه قرآنهم مما أنزله الله من قبل من كتب أهل الكتاب..
إنهم يعادون المسلمين لأنهم مسلمون! لأنهم ليسوا يهودا ولا نصارى. ولأن أهل الكتاب فاسقون منحرفون عما أنزله الله إليهم؛ وآية فسقهم وانحرافهم أنهم لا يؤمنون بالرسالة الأخيرة وهي مصدقة لما بين أيديهم- لا ما ابتدعوه وحرفوه -ولا يؤمنون بالرسول الأخير، وهو مصدق لما بين يديه؛ معظم لرسل الله أجمعين.
إنهم يحاربون المسلمين هذه الحرب الشعواء؛ التي لم تضع أوزارها قط، ولم يخب أوارها طوال ألف وأربعمائة عام؛ منذ أن قام للمسلمين كيان في المدينة؛ وتميزت لهم شخصية؛ وأصبح لهم وجود مستقل؛ ناشئ من دينهم المستقل، وتصورهم المستقل، ونظامهم المستقل، في ظل منهج الله الفريد.
إنهم يشنون على المسلمين هذه الحرب المشبوبة لأنهم- قبل كل شيء -مسلمون ولا يمكن أن يطفئوا هذه الحرب المشبوبة إلا أن يردوا المسلمين عن دينهم؛ فيصبحوا غير مسلمين.. ذلك أن أهل الكتاب أكثرهم فاسقون؛ ومن ثم لا يحبون المستقيمين الملتزمين من المسلمين!
والله- سبحانه -يقرر هذه الحقيقة في صورة قاطعة، وهو يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم في السورة الأخرى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).. ويقول له في هذه السورة أن يواجه أهل الكتاب بحقيقة بواعثهم وركيزة موقفهم:
(قل: يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله؛ وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون؟)..
وهذه الحقيقة التي يقررها الله سبحانه في مواضع كثيرة من كلامه الصادق المبين، هي التي يريد تمييعها وتلبيسها وتغطيتها وإنكارها اليوم كثيرون من أهل الكتاب، وكثيرون ممن يسمون أنفسهم "مسلمين".. باسم تعاون "المتدينين "في وجه المادية والإلحاد كما يقولون!
أهل الكتاب يريدون اليوم تمييع هذه الحقيقة بل طمسها وتغطيتها، لأنهم يريدون خداع سكان الوطن الإسلامي- أو الذي كان إسلاميا بتعبير أصح -وتخدير الوعي الذي كان قد بثه فيهم الإسلام بمنهجه الرباني القويم. ذلك أنه حين كان هذا الوعي سليما لم يستطع الاستعمار الصليبي أن يقف للمد الإسلامي، فضلا على أن يستعمر الوطن الإسلامي.. ولم يكن بد لهؤلاء- بعد فشلهم في الحروب الصليبية السافرة، وفي حرب التبشير السافرة كذلك -أن يسلكوا طريق الخداع والتخدير، فيتظاهروا ويشيعوا بين ورثة المسلمين، أن قضية الدين والحرب الدينية قد انتهت! وأنها كانت مجرد فترة تاريخية مظلمة عاشتها الأمم جميعا! ثم تنور العالم و" تقدم "فلم يعد من الجائز ولا اللائق ولا المستساغ أن يقوم الصراع على أساس العقيدة.. وإنما الصراع اليوم على المادة! على الموارد والأسواق والاستغلالات فحسب! وإذن فما يجوز للمسلمين- أو ورثة المسلمين -أن يفكروا في الدين ولا في صراع الدين!
وحين يطمئن أهل الكتاب- وهم الذين يستعمرون أوطان المسلمين -إلى استنامة هؤلاء لهذا التخدير؛ وحين تتميع القضية في ضمائرهم؛ فإن المستعمرين يأمنون غضبة المسلمين لله؛ وللعقيدة.. الغضبة التي لم يقفوا لها يوما.. ويصبح الأمر سهلا بعد التنويم والتخدير.. ولا يكسبون معركة العقيدة وحدها. بل يكسبون معها ما وراءها من الأسلاب والمغانم والاستثمارات والخامات؛ ويغلبون في معركة" المادة "بعدما يغلبون في معركة" العقيدة".. فهما قريب من قريب..
وعملاء أهل الكتاب في الوطن الإسلامي، ممن يقيمهم الاستعمار هنا وهناك علانية أو في خفية، يقولون القول نفسه.. لأنهم عملاء يؤدون الدور من داخل الحدود.. وهؤلاء يقولون عن "الحروب الصليبية" ذاتها: إنها لم تكن "صليبية "!!! ويقولون عن" المسلمين "الذين خاضوها تحت راية العقيدة: إنهم لم يكونوا" مسلمين "وإنما هم كانوا" قوميين "!
وفريق ثالث مستغفل مخدوع؛ يناديه أحفاد "الصليبيين" في الغرب المستعمر: أن تعالوا إلينا. تعالوا نجتمع في ولاء؛ لندفع عن "الدين" غائلة "الملحدين "! فيستجيب هذا الفريق المستغفل المخدوع؛ ناسيا أن أحفاد الصليبيين هؤلاء وقفوا في كل مرة مع الملحدين؛ صفا واحدا، حينما كانت المواجهة للمسلمين! على مدار القرون! وما يزالون! وأنهم لا يعنيهم حرب المادية الالحادية قدر ما تعنيهم حرب الإسلام، ذلك أنهم يعرفون جيدا أن الإلحادية المادية عرض طارئ وعدو موقوت؛ وأن الإسلام أصل ثابت وعدو مقيم! وإنما هذه الدعوة المموهة لتمييع اليقظة البادئة عند طلائع البعث الإسلامي؛ وللانتفاع بجهد المستغفلين المخدوعين- في الوقت ذاته -ليكونوا وقود المعركة مع الملحدين لأنهم أعداء الاستعمار السياسيون! وهؤلاء كهؤلاء حرب على الإسلام والمسلمين.. حرب لا عدة فيها للمسلم إلا ذلك الوعي الذي يربيه عليه المنهج الرباني القويم..
إن هؤلاء الذين تخدعهم اللعبة أو يتظاهرون بالتصديق، فيحسبون أهل الكتاب جادين إذ يدعونهم للتضامن والولاء في دفع الإلحاد عن" الدين "إنما ينسون واقع التاريخ في أربعة عشر قرنا- لا استثناء فيها -كما ينسون تعليم ربهم لهم في هذا الأمر بالذات، وهو تعليم لا مواربة فيه، ولا مجال للحيدة عنه، وفي النفس ثقة بالله ويقين بجدية ما يقول!
إن هؤلاء يجتزئون فيما يقولون ويكتبون بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، التي تأمر المسلمين أن يحسنوا معاملة أهل الكتاب؛ وأن يتسامحوا معهم في المعيشة والسلوك. ويغفلون التحذيرات الحاسمة عن موالاتهم؛ والتقريرات الواعية عن بواعثهم، والتعليمات الصريحة عن خطة الحركة الإسلامية، وخطة التنظيم، التي تحرم التناصر والموالاة، لأن التناصر والموالاة لا يكونان عند المسلم إلا في شأن الدين وإقامة منهجه ونظامه في الحياة الواقعية، وليست هناك قاعدة مشتركة يلتقي عليها المسلم مع أهل الكتاب في شأن دينه- مهما يكن هناك من تلاق في أصول هذه الأديان مع دينه قبل تحريفها -إذ هم لا ينقمون منه إلا هذا الدين، ولا يرضون عنه إلا بترك هذا الدين.. كما يقول رب العالمين..
إن هؤلاء ممن يجعلون القرآن عضين؛ يجزئونه ويمزقونه، فيأخذون منه ما يشاءون- مما يوافق دعوتهم الغافلة الساذجة على فرض براءتها -ويدعون منه ما لا يتفق مع اتجاههم الغافل أو المريب!
ونحن نؤثر أن نسمع كلام الله، في هذه القضية، على أن نسمع كلام المخدوعين أو الخادعين! وكلام الله- سبحانه -في هذه القضية حاسم واضح صريح مبين..
ونقف وقفة قصيرة في هذا الموضع عند قوله تعالى- بعد تقرير أن سبب النقمة هو الإيمان بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل -أن بقية السبب:
فهذا الفسق هو شطر الباعث! فالفسق يحمل صاحبه على النقمة من المستقيم.. وهي قاعدة نفسية واقعية؛ تثبتها هذه اللفتة القرآنية العجيبة.. إن الذي يفسق عن الطريق وينحرف لا يطيق أن يرى المستقيم على النهج الملتزم.. إن وجوده يشعره دائما بفسقه وانحرافه. إنه يتمثل له شاهدا قائما على فسقه هو وانحرافه.. ومن ثم يكرهه وينقم عليه. يكره استقامته وينقم منه التزامه؛ ويسعى جاهدا لجره إلى طريقه؛ أو للقضاء عليه إذا استعصى قياده!
إنها قاعدة مطردة، تتجاوز موقف أهل الكتاب من الجماعة المسلمة في المدينة، إلى موقف أهل الكتاب عامة من المسلمين عامة. إلى موقف كل فاسق منحرف من كل عصبة ملتزمة مستقيمة.. والحرب المشبوبة دائما على الخيرين في مجتمع الأشرار، وعلى المستقيمين في مجتمع الفاسقين، وعلى الملتزمين في مجتمع المنحرفين.. هذه الحرب أمر طبيعي يستند إلى هذه القاعدة التي يصورها النص القرآني العجيب..
ولقد علم الله- سبحانه -أن الخير لا بد أن يلقى النقمة من الشر، وأن الحق لا بد أن يواجه العداء من الباطل، وأن الاستقامة لا بد أن تثير غيظ الفساق، وأن الالتزام لا بد أن يجر حقد المنحرفين.
وعلم الله- سبحانه -أن لا بد للخير والحق والاستقامة والالتزام أن تدفع عن نفسها وأن تخوض المعركة الحتمية مع الشر والباطل والفسق والانحراف. وأنها معركة لا خيار فيها، ولا يملك الحق ألا يخوضها في وجه الباطل. لأن الباطل سيهاجمه، ولا يملك الخير أن يتجنبها لأن الشر لا بد سيحاول سحقه..
وغفلة- أي غفلة -أن يظن أصحاب الحق والخير والاستقامة والالتزام أنهم متروكون من الباطل والشر والفسق والانحراف؛ وأنهم يملكون تجنب المعركة؛ وأنه يمكن أن تقوم هناك مصالحة أو مهادنة! وخير لهم أن يستعدوا للمعركة المحتومة بالوعي والعدة؛ من أن يستسلموا للوهم والخديعة.. وهم يومئذ مأكولون مأكولون.!
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
(قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله) نقم منه معناه عاب عليه أمرا وأنكره ومنه الانتقام بمعنى العقاب، وذلك لأن العقاب لا يقع إلا من أمر ينكره المعاقب ويعيبه،فيتبعه العقاب، فهو نتيجة الاستنكار لمن يقدر على العقاب، ويرى فيه حكمة توجبه.
والاستفهام هنا استفهام إنكاري لنفى الواقع، فهو توبيخ مؤكد بالاستفهام، والمعنى أن الله تعالى يأمر نبيه الأمين أن يسألهم موبخا منكرا عليهم أنهم لا يعيبون عليه إلا أنه والمؤمنين معه آمنوا بالله ورسوله حق الإيمان، وأن أكثرهم فاسقون، وهنا بعض مباحث لفظية نذكرها لتقريب معنى النص السامي الكريم.
المبحث الأول: كيف يعيبون الإيمان مع أنهم كافرون، وإنما يحسد على الإيمان من يدركه، ويعرف مزاياه ويحقد على المؤمن، لأنه حرم منه، والجواب عن ذلك أن أهل الكتاب يعرفون الرسالة والرسل، ومنهم موحدون يدركون معاني التوحيد، وهم يحسدون المؤمنين على ذلك وخصوصا اليهود والمنافقين، وقد قال تعالى فيهم: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء...89) (النساء) وقال تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير109) (البقرة).
فهؤلاء الكافرون من أهل الكتاب يستنكرون على المؤمنين إيمانهم، والباعث على ذلك أمران: أحدهما – حسد مستكن في قلوبهم، وهم يرون أن النبوة نعمة كانوا يرجونها فيهم، فكانت في غيرهم، وأن الإيمان نعمة وخير، وهم يحسدون الناس دائما على ما آتاهم من فضله، وقد قتلهم الحسد، وأفسد مداركهم.
الأمر الثاني: الذي بعثهم على النقمة على أهل الإيمان أنهم يرونهم في قوة نامية وهم في خسة هاوية، وهم كفار منزعجون وأولئك مؤمنون مطمئنون.
المبحث الثاني – إن في النص الكريم حصرا لسبب النقمة على المسلمين ولذلك كان الاستثناء في قوله تعالت كلماته: (هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل).
المبحث الثالث – أن إيمان المؤمنين شامل للرسالات الإلهية كلها، فهم يؤمنون بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله، واليهود كانوا يأخذون على المؤمنين أنهم يؤمنون بكل الأنبياء ومنهم من قتلوهم ومنهم من حاولوا قتله ولم يستطيعوا أن ينالوا منه، وقد روى عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن بعض زعماء اليهود ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عما يؤمن به فقال- عليه الصلاة والسلام – أومن بالله وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) فلما ذكر عيسى – عليه السلام – جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بمن آمن به).
المبحث الرابع – أن الله تعالى قال: (وأن أكثرهم فاسقون) ولم يقل سبحانه وأنتم فاسقون إنصافا للذين يقتصدون منهم، وقد قال تعالى:(...منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعلمون66) (المائدة) وقال تعالى: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون113 يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين 114 وما يفعلون من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين 115) (آل عمران).
وإن الأكثرين منهم فاسقون،بل إنه يكون منهم ما هو شر من الفسق في ذاته فيقعون مع الفسق في أشد مظاهر الخسة، ولذا قال سبحانه فيهم: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله)
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ويثير القرآن الحوار مع أهل الكتاب، في أسلوبٍ مميّزٍ يريد من خلاله أن يقودهم إلى التأمل في دوافعهم الخفيّة، بما يكشف لهم النوازع الذاتية المعقّدة من شخصيتهم، ويعرّفهم أنَّهم ليسوا بمنأىً عن الفضيحة، فمهما حاولوا الاختباء وراء بعض الأقنعة التي تخفي ملامحهم الحقيقيّة في ما ينوونه أو في ما يفعلونه، فإنَّ الله يكشف ذلك كله لرسوله وللمؤمنين. وقد جاء الأسلوب بلهجةٍ هادئةٍ هي أقرب إلى لهجة العتاب، في صيغة السؤال العميق: {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} لماذا كل هذه الحرب؟ ولماذا كل هذا التآمر؟ وماذا فعلنا لكم حتّى نستحق كل هذا الضغط والكراهية، ولماذا تنقمون منّا؟ ماذا نريد، إلى أيّ شيء ندعوا، هل تنقمون منّا إلاَّ أنَّنا سرنا في خط الهدى المستقيم؟! إنَّنا آمنا بالله وبرسالاته وكتبه الّتي أنزلت إلينا وإلى من قبلنا، وإنَّكم انحرفتم عنه إلى السير في خط الأنانية الذاتية والفئوية، والعمل على تحطيم كل الأشياء المقدسة التي تحول بينكم وبين الوصول إلى مطامعكم ومطامحكم في مركز الرئاسة. وربَّما كان الأسلوب بمثابة الإشارة إلى أنَّ الموقف الَّذي اتخذه أهل الكتاب لم يكن ناشئاً من خطة فكرية، بل هو ناشئ من عقدةٍ ذاتية، فهؤلاء المسلمون لا يعيشون الأفق الضيق في الإيمان، ولا يدورون في محورٍ محدود، بل تتسع آفاقهم لتشمل كل الرسالات وكل الرسل، فلا يتركون مجالاً لحالةٍ عدائيةٍ في خط المجابهة، لأنَّهم يحترمون ما يحترمه الآخرون، بينما يسيء الآخرون إلى ما يحترمونه، ما يفقد الآخرين حجّة اللجوء إلى الخصام والنزاع، ويحوِّل موقفهم بالتالي إلى عقدةٍ مرضيّةٍ مستحكمةٍ، ويظل الجوّ الَّذي أثاره الحوار يبحث عن جواب، ولا جواب.