إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ هَلۡ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلَّآ أَنۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلُ وَأَنَّ أَكۡثَرَكُمۡ فَٰسِقُونَ} (59)

{ قُلْ } أمرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق تلوين الخطاب بعد نهْيِ المؤمنين عن تولِّي المستهزئين بأن يخاطِبَهم ويبيِّنَ أن الدين منزه عما يصحِّحُ صدورَ ما صدر عنهم من الاستهزاء ، ويُظهرَ لهم سببَ ما ارتكبوه ويُلْقِمَهم الحجرَ ، أي قل لأولئك الفجرة { يَا أَهْل الكتاب } وُصفوا بأهلية الكتاب تمهيداً لما سيأتي من تبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا } من نقَم منه كذا إذا عابه وأنكره وكرهه ، ينقِمه من حدِّ ضرب ، وقرئ بفتح القاف من حد علِمَ وهي أيضاً لغة ، أي ما تَعيبون وما تُنكرون منا { إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } من القرآن المجيد { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ } أي من قبل إنزاله من التوراة والإنجيل المنزَّلَيْن عليكم وسائرِ الكتبِ الإلهية { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون } أي متمردون خارجون عن الإيمان بما ذكر فإن الكفر بالقرآن مستلزم بما يصدِّقُه لا محالة وهو عطف على ( أن آمنا ) على أنه مفعول له لتنقمون ، والمفعول الذي هو الدينُ محذوفٌ ثقةً بدلالة ما قبله وما بعده عليه دلالةً واضحة ، فإن اتخاذ الدين هزواً ولعباً عينُ نِقَمِه وإنكارِه ، والإيمانُ بما فُصِّل عينُ الدين الذي نقَموه خلا أنه أبرَزَ في معرِض علةِ نقمِهم له تسجيلاً عليهم بكمال المكابرةِ والتعكيس حيث جعلوه موجِباً لنقمه مع كونه في نفسه موجباً لقَبوله وارتضائه ، فالاستثناءُ من أعم العلل أي ما تنقِمون منا دينَنا لعلةٍ من العلل إلا لأنا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أُنزل من قبلُ من كتُبكم ، ولأن أكثركم متمردون غيرُ مؤمنين بواحدٍ مما ذُكر حتى لو كنتم مؤمنين بكتابكم الناطقِ بصحة كتابِنا لآمنتم به ، وإسنادُ الفسق إلى أكثرِهم لأنهم الحاملون لأعقابهم على التمرُّد والعناد ، وقيل : عطفٌ عليه على أنه مفعول لتنقمون منا ، لكن لا على أن المستثنى مجموعُ المعطوفَيْن بل هو ما يلزَمهما من المخالفة كأنه قيل : ما تنقمون منا إلا مخالفتَكم حيث دخلنا الإيمانَ وأنتم خارجون عنه ، وقيل : على حذف المضافِ ، أي واعتقادَ أن أكثركم فاسقون ، وقيل : عطف على ( ما ) أي ما تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وبأنكم فاسقون ، وقيل : عطفٌ على علة محذوفةٍ أي لقلة إنصافِكم ولأن أكثركم فاسقون ، وقيل : الواو بمعنى مع أي ما تنقِمون منا إلا الإيمانَ مع أن أكثركم الخ ، وقيل : هو مرفوعٌ على الابتداء والخبر محذوفٌ أي وفِسقُكم معلوم أي ثابت ، والجملة حالية أو معترضة ، وقرئ بإِن المكسورةِ والجملةُ مستأنَفة مبيّنةٌ لكون أكثرهم فاسقين متمرِّدين .