لما حكى عنهم أنهم اتَّخَذُوا دِين الإسلام هُزُواً ولعِباً ، فقال : ما الذي تَجِدُون فيه ممَّا يُوجِب اتَّخَاذه هُزُواً ولعباً ؟
قوله تعالى : " هل تَنْقِمُون " : قراءة الجُمْهُور بكسر القَافِ ، وقراءة{[12129]} النَّخْعي ، وابن أبي عَبْلَة ، وأبي حَيْوَة بِفَتْحها ، وهاتان القِرَاءتَانِ مفرَّعَتَان على المَاضِي ، وفيه لُغَتَان : الفُصْحَى ، وهي التي حَكَاهَا ثَعْلَب في " فَصِيحه " : نَقَم بفتح القَاف ، يَنْقِم بِكَسْرها .
والأخرى : نَقِم بكسر القاف يَنْقَمُ بفَتْحِها ، وحكاها الكَسَائي ، ولم يَقْرأ في قوله تعالى : { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ } [ البروج : 8 ] إلا بالفتح .
قال الكسَائِي{[12130]} : " نقِم " بالكسر لُغَةً ، ونَقَمْتُ الأمْر أيضاً ، وَنَقِمْتُهُ إذا كَرِهْته ، وانْتَقَم اللَّه منه إذا عَاقَبَه ، والاسم منه : النِّقْمة ، والجمع نَقِمَاتٌ ونَقِمٌ مثل كَلِمة وكَلِمَات وكَلِم ، وإن شِئْت سَكَّنت القَافَ ، ونَقَلْت حَرَكَتَها إلى النُّون فقلت نِقْمة ، والجَمْع : نِقَم ، مثل نِعْمة وَنِعَم ، نقله القرطبي وأدغم الكسَائِي لام " أهَلْ " في تَاء " تَنْقِمُون " ، وَلِذَلِكَ تُدْغَمُ لام " هَلْ " في التَّاء والنُّون ووافقه حَمْزة في التَّاء والثَّاء وأبُو عَمْرٍو في " هَلْ تَرَى " في موضعَيْن .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : أتى رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - نَفَرٌ من اليَهُود : أبو يَاسِر بن أخْطَب ، ورَافِع بن أبي رَافِع وغيرهما ، فَسَألُوه : عمَّن يُؤمِن به من الرُّسُل ، فقال : { آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } [ البقرة : 136 ] ، إلى قوله : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 136 ] فلما ذكر عيسى - عليه الصلاة والسلام - جَحَدُوا نُبُوتَهُ ، وقالُوا : والله ما نَعْلَمُ أهْلَ دِينٍ أكْثَر خَطَأ في الدُّنْيَا والآخِرَة مِنْكُم ، ولا دِيناً شرًّا من دينكُمْ ، فأنْزَل الله هذه الآية الكريمة{[12131]} .
قوله تعالى : { إِلاَّ أَن آمَنَّا بِاللهِ } ، مفعول ل " تَنْقِمُون " بمعنى : تَكْرَهُون وتَعِيبُون ، وهو استِثْنَاء مُفَرَّغٌ .
و " مِنَّا " متعلِّق به ، أيْ : ما تَكْرَهُون من جِهَتِنَا ، إلاَّ الإيمَان وأصل " نَقَمَ " أن يتعدَّى ب " عَلَى " ، نقول : " نَقَمْتُ عليْهِ كذا " وإنَّما عُدِّيَ هُنَا ب " مِنْ " لِمَعْنًى يَأتي .
وقال أبُو البَقَاء{[12132]} : و " منَّا " مفعول " تَنْقِمُون " الثَّاني ، وما بَعْد " إلاَّ " هو المَفعُول الأوَّل ، ولا يجُوز أن يكُون " منَّا " حالاً من " أنْ " والفِعْل لأمْرين :
أحدهما : تقدُّمُ الحالِ على " إلاَّ " .
والثاني : تقدم الصِّلَة على الموْصُول ، والتَّقْدِير : هل تَكْرَهُون مِنَّا إلاَّ إيماننا . انتهى .
وفي قوله : مَفْعُول أوَّل ، ومفعول ثَان نَظَر ؛ لأنَّ الأفْعَال الَّتِي تتعدَّى لاثْنَيْن إلى أحدهما بِنَفْسِها ، وإلى الآخَرِ بحَرْف الجرِّ مَحْصُورة ك " أمر " ، و " اخْتَار " ، و " استغْفَرَ " ، و " صَدَّق " و " سَمَّى " ، و " دَعَا " بمعناه ، و " زَوَّج " ، و " نَبَّأ " ، و " أنْبَأ " ، و " خَبَّر " ، و " أخْبَر " ، و " حَدَّث " غير مُضَمَّنَةٍ معنى " أعْلَم " ، وكلُّها يَجُوز فيها إسْقَاط الخَافِضِ والنَّصب ، ولَيْسَ هذا مِنْها{[12133]} .
وقوله : " ولا يجُوز أن يكُونَ حالاً " يعني : أنَّه لو تَأخَّر بعد " أن آمَنَّا " لَفْظَة " مِنّا " ، لجاز أن تكون حَالاً من المصْدر المؤوَّل من " أنْ " وصلَتِها ، ويَصِير التَّقْدِير : هل تكرهون إلاَّ الإيمان في حال كونه " منا " ، لَكِنَّهُ امتنع من تقدُّمِهِ على " أنْ آمنَّا " للوجهين المذكورين .
أحدهما : تقدُّمه على " إلاّ " ويعني بذلك : أن الحال لا تتقدم على " إلاَّ " .
قال شهابُ الدِّين{[12134]} : ولا أدري ما يمنع ذلك لأنه إذا جعل " مِنَّا " حالاً من " أن " و " ما " في حيزها كان حال الحال مقدراً{[12135]} ، ويكونُ صاحب الحال محصوراً ، وإذا كان صاحب الحال محصوراً وَجَبَ تقديم الحال عليه ، فيقال : " مَا جَاءَ رَاكِباً إلاَّ زَيْدٌ " ، و " ما ضَربْتُ مَكْتُوفاً إلا عَمْراً " ، ف " راكباً " و " مكتوفاً " حالان مقدمان وجوباً لحصر صاحبيهما فهذا مثله .
وقوله : " [ والثاني : تقدُّم الصلة على الموصول ]{[12136]} " لم تتقدَّم صلة على موصول .
بيانه : أنَّ الموصول هو " أنْ " ، والصلة " آمَنَّا " ، و " منَّا " ليس متعلّقاً بالصلة ، بل هو معمول لمقدَّر ، ذلك المقدر في الحقيقة منصوب ب " تنقمون " ، فَمَا أدْرِي ما توهمه حتى قال ما قال ؟
على أنه لا يجوز أن يكون حالاً ، لكن لا لما ذكر ؛ بل لأنه يؤدي إلى أنه يصير التقدير : " هَلْ تَنْقِمُونَ إلا إيماننا منا " فمن نفس قوله : " إيماننا " فهم أنَّه منَّا ، فلا فائدة فيه حينئذٍ .
قيل : هذا خلاف الأصل ، وليس هذا من مَظَانِّهَا ، وأيضاً فإنَّ هذا شبيه بتهيئة العامل للعمل ، وقطعه عنه ، فإن " تَنْقِمُونَ " يطلب هذا الجار طلباً ظاهراً .
وقرأ الجمهور " وما أنزل إلَيْنَا وما أنزل [ مِنْ قَبْل ]{[12137]} " بالبناء للمفعول فيهما ، وقرأ{[12138]} أبو نهيك : " أنْزل ، وأنْزل " بالبناء للفاعل ، وكلتاهما واضحة .
المعنى : قُلْ لأهل الكتاب : لِمَ اتخذتم هذا الدين هزواً ولعباً ، ثم قال على سبيلِ التعجب : هل تجدون في هذا الدين إلا الإيمان بالله ؟ ! فهو رَأسُ جميع الطاعات ، وإلاَّ الإيمان بمحمد ، وبجميع الأنبياء فهو الحق والصدق ؛ لأنه إذا كان الطريق إلى تصديق بعض الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في ادعاء الرسالة والنبوة هو المعجزة . ثم رأينا أن المعجز حصل على يدي محمد - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فوجب الإقرار بكونه رسولاً ، فأمَّا الإقرار بالبعض وإنكار البعض فذلك تناقض ومذهب باطل .
قوله تعالى : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } قرأ الجمهور : " أنَّ " مفتوحة الهمزة .
وقرأ{[12139]} نعيم بن ميسرة بكسرها .
فأمَّا قراءة الجمهور فتحتمل " أنَّ " فيها أن تكون في محل رفع ، أو نصب ، أو جر ، فالرفع من وجه واحد ، وهو أن تكون مبتدأ ، والخبر محذوف .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ{[12140]} : " والخبر محذوف ، أي : فسقكم ثابت معلوم عندكم ؛ لأنكم علمتم أنَّا على الحق ، وأنْتُمْ على الباطل ، إلا أن حب الرئاسة ، وجمع الأموال لا يدعكم فتنصفوا " .
قال أبُو حيَّان{[12141]} : ولا ينبغي أن يُقَّدَرَ الخبر إلا مقدماً ؛ لأنه لا يبتدأ ب " أن " على الأصح إلا بعد " أمَّا " انتهى .
ويمكن أن يقال : يُغْتَفَرُ في الأمور التقديرية ما لا يغتفر في اللفظية ، لا سيما أنَّ هذا جارٍ مجرى تفسير المعنى ، والمراد إظهار ذلك الخبر [ كيف ] يُنْطَقُ به ؛ إذْ يقال : إنه يرى جواز الابتداء ب " أنَّ " مطلقاً ، فحصل في تقدير الخبر وجهان بالنسبة إلى التقديم والتأخير .
وأمَّا النَّصْبُ فمن ستَّةِ أوجه :
أحدها : أن يُعْطَفَ على " أن آمنَّا " واستشكل هذا التخريج من حيث إنه يصير التقدير : هل تكرهون إلا إيماننا ، وفسق أكثركم ، وهم لا يعترفون بأن أكثرهم فاسقون حتى يكرهونه .
وأجاب الزمخشري وغيره عن ذلك بأن المعنى : " وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا ، وبين تمرُّدكم ، وخروجكم عن الإيمان ، كَأنَّه قِيلَ : وما تنكرون منا إلا مخالفتكم حَيْثُ دخلنا في دين الإسلام وأنتم خارجون منه " .
ونقل الواحدي عن بعضهم أن ذلك من باب المُقَابَلَة والازدواج ، يعني أنه لما نقم اليهود عليهم الإيمان بجميع الرسل ، وهو مما لا يُنْقَمُ ذَكَرَ في مُقَابلته فسقَهُمْ ، وهو مما يُنْقَم ، ومثل ذلك حَسًنٌ في الازدواج ، يقول القائل : " هل تنقم مني إلا أن عفوت عنك ، وأنَّكَ فاجر " فيحسن ذلك لإتمام المعنى بالمقابلة .
وقال أبُو البقاء{[12142]} : والمعنى على هذا : إنكم كرهتم إيماننا وامتناعكم ، أي كرهتم مخالفتنا إياكم وهذا كقولك للرجل : " ما كرهت مني إلا أني مُحَبَّبٌ للناس ، وأنك مبغض " ، وإن كان لا يعترف بأنه مبغض .
وقال ابن عطية{[12143]} : { وأنَّ أكْثَرَكُمْ فاسِقُون } هو عند أكثر المتأوِّلين معطوف على قوله : " أنْ آمنَّا " ، فيدخل كونهم فاسقين فيما نَقَمُوهُ وهذا لا يتجه معناه .
ثم قال بعد كلام : " وإنَّمَا يَتَّجِهُ على أن يكون معنى المحاورة : هل تنقمون منا إلا مجموع هذه الحال من أنا مؤمنون وأنتم فاسقون ، ويكون { وأنَّ أكثركُمْ فَاسِقُون } مما قرره المخاطب لهم ، وهذا [ كما ]{[12144]} يقول لمن يخاصم : " هل تنقم عليَّ إلا أن صدقت أنا ، وكذبت أنت " ، وهو لا يُقِرُّ بأنه كاذب ، ولا ينقم ذلك ، لكن معنى كلامك : هل تنقم إلا مجموع هذه الحال " وهذا هو مجموع ما أجاب به الزَّمَخْشَرِيُّ والواحِديُّ .
الوجه الثاني من أوجه النصب : أن يكون معطوفاً على " أنْ آمنَّا " أيضاً ، ولكن في الكلام مضاف محذوف لصحة المعنى ، تقديره : " واعتقاد أنَّ أكثركم فاسقون " وهو معنى واضح ، فإنَّ الكفار ينقمون اعتقاد المؤمنين أنهم فاسقون .
الثالث : أنه منصوب بفعل مقدر ، تقديره : هل تنقمون منا إلا إيماننا ، ولا تنقمون فسق أكثركم .
الرابع : أنه منصوب على المعيَّة ، وتكون " الواو " بمعنى " مع " تقديره : " وما تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم فاسقون " .
ذكر جميع هذه الأوجه أبُو القَاسِمِ الزَّمَخْشَرِيُّ{[12145]} - رحمه الله - .
الخامس : أنه منصوب عَطْفاً على " أنْ آمنَّا " ، و " أن آمنَّا " مفعول من أجله فهو منصوب ، فعطف هذا عليه ، والأصل : " هل تنقمون إلا لأجل إيماننا ، ولأجل أن أكثركم فاسقون " ، فلمَّا حذف حرف الجر من " أنْ آمنَّا " بقي منصوباً على أحد الوجهين المشهورين ، إلا أنه يقال هنا : النصب هنا ممتنع من حيث إنَّهُ فُقِد شرطٌ من المفعول له ، وهو اتحاد الفاعل ، والفاعل هنا مختلف ، فإن فاعل الانتقام غير فاعل الإيمان ، فينبغي أن يُقَدَّر هنا محلُّ " أنْ آمنَّا " جراً ليس إلاَّ ، بعد حذف حرف الجر ، ولا يجري فيه الخلاف المشهور بين الخَلِيلِ وسيبَويْهِ في محل " أنْ " إذَا حذف منها حرف الجر ، لعدم اتحاد الفاعل .
وأجِيبَ عن ذلك بأنَّا وإنْ اشترطنا اتحاد الفاعل فإنَّا{[12146]} نجوِّزُ اعتقادَ النصب في " أنْ " و " أنَّ " إذا وقعا مفعولاً من أجله بعد حذف حرف الجر لا لكونهما مفعولاً من أجله ، بل من حيث اختصاصهما من حيث هما بجواز حذف حرف الجر لطولهما بالصلة وفي هذه المسألة بخصوصها خلاف مذكور في بابه ، ويدُلُّ على ذلك ما نقله الواحدي عن صاحب " النَّظْم " ، فإنَّ صاحب " النظم " ذكر عن الزجاج{[12147]} معنًى ، وهو : هل تكرهون إلا إيماننا وفسقكم ، أي : إنَّما كرهتم إيماننا ، وأنتم تعلمون أنَّا على حق ؛ لأنَّكم فسقتم بأن أقمتم على دينكم ، وهذا معنى قول الحسنِ : نقمتم علينا .
قال صاحب " النَّظْمِ " : فعلى هذا يجب أن يكون موضع " أن " في قوله : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } نَصْباً بإضمار " اللام " على تأويل " ولأنَّ أكْثَرَكُمْ " ، والواو زائدة ، فقد صرح صاحب النظم بما ذكرناه .
الوجه السادس : [ أنه ] في محل نَصْب على أنه مفعول من أجله ل " تنقمون " والواو زائدةٌ كما تقدَّم تقريره عن الزمخشري .
[ وهذا الوجه الخامس يحتاج إلى تقرير ]{[12148]} ليفهم معناه ، قال أبُو حيَّان{[12149]} بعد نقله الأوجه المتقدمة : " ويظهر وجه آخر [ لعلَّه ] يكون الأرجح ، وذلك أن " نَقَمَ " أصله أنْ يتعدى ب " على " تقول : " نَقَمْتُ عَلَيْه " ، ثم تبني منه [ افتعل إذ ذاك ]{[12150]} ب " من " ويضمَّن معنى الإصابة بالمكروه ، قال تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] ، ومناسبة التضمين فيها أنَّ مَنْ عاب على شخص فعله ، فهو كاره له ، ومصيبه عليه بالمكروه ، فجاءت هنا " فَعَل " بمعنى " افْتَعَل " ك " قدر " و " اقتدر " ، ولذلك عُدِّيت ب " من " دون " على " التي أصلها أن تتعدى بها ، فصار المعنى : وما تنالون منا ، وما تصيبوننا بما نكره ، إلا أنْ آمَنَّا ، [ أي : إلاَّ لأنْ آمنا ، ]{[12151]} فيكون " أن آمنَّا " مفعولاً من أجله ، ويكون { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } معطوفاً على هذه العلة ، وهذا - والله أعلم - سبب تعديته ب " من " دون " على " انتهى ما قاله ، ولم يصرح بكون حينئذٍ في محلِّ نصب أو جرٍّ ، إلاَّ أن ظاهر حاله أن يُعتقَدَ كونه في محل جرٍّ ، فإنه إنَّمَا ذكر في أوجه الجر .
وأمَّا الجَرُّ فمن ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه عطف على المؤمن به .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ{[12152]} : " أي : وما تنقمون منَّا إلا الإيمان بالله ، وما أنزل ، وبأن أكْثرَكُمْ فِاسِقُونَ " وهذا معنى واضح ، قال ابن عطية{[12153]} : " وهذا مستقيمُ المعنى ؛ لأن إيمان المؤمنين [ بأنَّ ] أهل الكتاب المستمرين على الكفر بمحمدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فَسَقَةٌ هو مما ينقمونه " {[12154]} .
الثاني : أنَّهُ مجرورٌ عَطْفاً على علّةٍ محذوفة ، تقديرها : ما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم ، واتباعكم شهواتكم ، ويدلُّ عليه تفسير الحسن البصري " لفسقكم نقمتم علينا ، ويروى لفسقكم تنقمون علينا الإيمان " ، [ ويروى " لفسقهم نقموا علينا الإيمان " . عطفاً على محل " أن آمنا " إذا جعلناه مفعولاً من أجله ، واعتقدنا أن " أن " في محل جر ]{[12155]} .
الثالث : أنَّهُ في محل جر بعد حذف الحرف وقد تقدم ذلك في الوجه الخامس ، فقد تحصَّل في قوله تعالى : " وأن أكثركم " أحد عشر وجهاً وجهان في حالة الرفع بالنسبة إلى تقدير الخبر ، هل يُقَدَّرُ مُقدَّماً وجوباً أو جوازاً ؟ وقد تقدم ما فيه ، وستة أوجه أنها على الاستئناف ، أخبر أن أكثرهم فاسقون ، ويجوز أن تكون منصوبة المحلِّ لعطفها على معمول القول ، أمر نبيه - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - أن يقول لهم : { هل تنقمون منا } إلى آخره ، وأن يقول لهم : إنَّ أكثركم فاسقون ، وهي قراءة [ جليَّة ] واضحة .
وتفسير المعنى على وجوه الإعْرَاب المتقدمة . قال ابن الخطيب{[12156]} فإن قيل : كيف تنقم اليهود على المسلمين وكون أكثرهم فاسقين .
فالجواب أنه كالتعريض ؛ لأنهم لم يتبعوهم{[12157]} على فسقهم{[12158]} أي : أنْ آمَنَّا ، وما فسقنا مثلكم وهو كقولهم : " ما تنقم مني إلا أنِّي عفيف ، وأنت فَاجِرٌ " ، على وجه المقابلة ، أو لأن أحد الخصمين إذا كان متصفاً بصفات حميدة وخصمه بضد ذلك كان ذكر صفات الخير الحميدة مع صفات خصمه الذميمة أشد تأثيراً ونكاية مِنْ ألاَّ يذكر الذميمة ، فتكون الواو بمعنى " مع " أو هو على حذف مضاف أيْ : واعتقاد أن أكثركم فاسقون ، والمعنى : بأن أكثركم فاسقون نقمتم الإيمان علينا .
أو تعليل معطوف على محذوف كأنه قيل : نقمتم لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون .
اليهود كلهم فُسَّاقٌ وكُفَّارٌ فَلِمَ خُصَّ الأكثر بوصف الفسق ؟ فالجواب من وجهين :
الأول : يعني أنْ أكثركم إنَّمَا يقولون [ ما يقولون ]{[12159]} ويفعلون ما يفعلون طلباً للرياسة ، والجاه وأخذ الرشوة ، والتقرب إلى الملوك ، فإنَّهُمْ في دينهم فُسَّاقٌ لا عُدولٌ ، فإن الكافر المبتدع قد يكون عادلاً في دينه ، وفاسقاً في دينه ، ومعلومٌ أن كلهم ما كانوا كذلك فلهذا خص أكثرهم بهذا الحكم .
الثاني : ذكر أكثرهم لِئلاَّ يظن أن من [ آمن منهم داخل في ذلك ]{[12160]} .