فلما عرفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيه ، فقال : ما فعل أبي بعدي ؟ قالوا : ذهبت عيناه فأعطاهم قميصه ، ثم قال : { اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا } ، أي : يعد مبصرا . وقيل : يأتيني بصيرا لأنه كان قد دعاه . قال الحسن : لم يعلم أنه يعود بصيرا إلا بعد أن أعلمه الله عز وجل . قال الضحاك : كان ذلك القميص من نسج الجنة . وعن مجاهد قال : أمره جبريل أن يرسل إليه قميصه ، وكان ذلك القميص قميص إبراهيم عليه السلام ، وذلك أنه جرد من ثيابه وألقي في النار عريانا ، فأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة ، فألبسه إياه فكان ذلك القميص عند إبراهيم عليه السلام ، فلما مات ورثه إسحاق ، فلما مات ورثه يعقوب ، فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في قصبة ، وسد رأسها ، وعلقها في عنقه ، لما كان يخاف عليه من العين ، فكان لا يفارقه . فلما ألقى في البئر عريانا جاءه جبريل عليه السلام وعلى يوسف ذلك التعويذ ، فأخرج القميص منه وألبسه إياه ، ففي هذا الوقت جاء جبريل عليه السلام إلى يوسف عليه السلام ، وقال : أرسل ذلك القميص ، فإن فيه ريح الجنة لا يقع على سقيم ولا مبتلى إلا عوفي ، فدفع يوسف ذلك القميص إلى إخوته وقال : ألقوه على وجه أبي يأت بصيرا { وأتوني بأهلكم أجمعين } .
ثم انتقل يوسف - عليه السلام - من الحديث عن الصفح عنهم إلى الحديث عن أبيه الذي ابيضت عيناه عليه من الحزن فقال :
{ اذهبوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } .
أى : اذهبوا يا إخوتى بقميصى هذا { فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي } الذي طال حزنه بسبب فراقى له { يَأْتِ بَصِيراً } أى يرتد إيله كامل بصره ، بعد أن ضعف من شدة الحزن .
{ وأتونى } معه إلى هنا ومعكم أهلكم جميعاً من رجال ونساء وأطفال .
وقول يوسف هذا إنا هو بوحى من الله - تعالى - فهو - سبحانه الذي ألهمه أن إلقاء قميصه على وجه أبيه يؤدى إلى ارتداد بصره إليه كاملا ، وهذا من باب خرق العادة بالنسبة لهذين النبيين الكريمين .
القول في تأويل قوله تعالى : { اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هََذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىَ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } .
قال أبو جعفر : ذكر أن يوسف صلى الله عليه وسلم لما عرّف نفسه إخوته ، سألهم عن أبيهم ، فقالوا : ذهب بصره من الحزن . فعند ذلك أعطاهم قميصه وقال لهم : اذْهَبُوا بقَمِيصِي هَذَا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : قال لهم يوسف : ما فعل أبي بعدي ؟ قالوا : لما فاته بنيامين عمي من الحزن . قالَ : اذْهَبُوا بقَمِيصِي هَذَا فَألْقُوهُ على وَجْهِ أبِي يَأْتِ بَصِيرا وأْتُونِي بأهْلِكُمْ أجمَعِينَ .
وقوله : يَأْتِ بَصِيرا يقول : يعد بصيرا . وأْتُوني بأهْلِكُمْ أجمَعِينَ يقول : وجيئوني بجميع أهلكم .
قوله : { اذهبوا بقميصي هذا } يدل على أنه أعطاهم قميصاً ، فلعلّه جعل قميصه علامة لأبيه على حياته ، ولعلّ ذلك كان مصطلحاً عليه بينهما . وكان للعائلات في النظام القديم علامات يصطلحون عليها ويحتفظون بها لتكون وسائل للتعارف بينهم عند الفتن والاغتراب ، إذ كانت تعتريهم حوادث الفقد والفراق بالغزو والغارات وقطع الطريق ، وتلك العلامات من لباس ومِن كلمات يتعارفون بها وهي الشعار ، ومن علامات في البَدن وشَامات .
وفائدة إرساله إلى أبيه القميصَ أن يثق أبوه بحياته ووجوده في مصر ، فلا يظن الدعوة إلى قدومه مكيدة من ملك مصر ، ولقصد تعجيل المسرة له .
والأظهر أنه جعل إرسال قميصه علامة على صدق إخوته فيما يبلغونه إلى أبيهم من أمر يوسف عليه السلام بجلبه فإنّ قمصان الملوك والكبراء تنسج إليهم خصيصاً ولا توجد أمثالها عند الناس وكان الملوك يخلعونها على خاصتهم ، فجعل يوسف عليه السلام إرسال قميصه علامة لأبيه على صدق إخوته أنهم جاءوا من عند يوسف عليه السلام بخبر صدق .
ومن البعيد مَا قيل : إن القميص كان قميص إبراهيم عليه السلام مع أن قميص يوسف قد جاء به إخوته إلى أبيهم حين جاءوا عليه بدم كذب .
وأما إلقاء القميص على وجه أبيه فلقصد المفاجأة بالبُشرى لأنه كان لا يبصر من بعيد فلا يتبين رفعة القميص إلا من قرب .
وأما كونه يصير بصيراً فحصل ليوسف عليه السلام بالوحي فبشرهم به من ذلك الحين . ولعل يوسف عليه السلام نُبيءَ ساعتئذٍ .
وأدمج الأمر بالإتيان بأبيه في ضمن تبشيره بوجوده إدماجاً بليغاً إذ قال : { يأت بصيراً } ثم قال : { وأتوني بأهلكم أجمعين } لقصد صلة أرحام عشيرته . قال المفسرون : وكانت عشيرة يعقوب عليه السلام ستا وسبعين نفساً بين رجال ونساء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا}، بعد البياض، {وأتوني بأهلكم أجمعين} فلا يبقى منكم أحد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ذكر أن يوسف صلى الله عليه وسلم لما عرّف نفسه إخوته، سألهم عن أبيهم، فقالوا: ذهب بصره من الحزن. فعند ذلك أعطاهم قميصه وقال لهم:"اذْهَبُوا بقَمِيصِي هَذَا"...
وقوله: "يَأْتِ بَصِيرا "يقول: يعد بصيرا.
"وأْتُوني بأهْلِكُمْ أجمَعِينَ "يقول: وجيئوني بجميع أهلكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) دل هذا من يوسف حين قطع فيه القول: إنه يصير بصيرا أنه عليه السلام قال هذا لا عن رأي منه واجتهاد...
وقوله تعالى: (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) أراد، والله أعلم، حين أمرهم بأن يأتوا بأهلهم أجمع أن يبرهم، ويكرمهم حين تابوا عما فعلوا به، فأقروا بالخطأ في أمره.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قال الحسن: لولا أن الله تعالى أعلم يوسف بذلك لم يعلم أنه يرجع إليه بصره...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذا إخبار من الله تعالى بأن يوسف أعطى إخوته قميصه. وقال: احملوه إلى أبي يعقوب واطرحوه على وجهه، فإنه يرجع بصيرا، ويزول عنه العمى وذلك معجز دال على نبوته، لأنه -على قول المفسرين كالحسن والسدي وغيرهما- كان قد عمي، ولولا أن الله أعلمه أنه يرجع إليه بصره لما أرسله إليه، وإنما حمل إليه القميص، لأن الله تعالى كان جعله علامة له إذا شمه شم منه رائحة يوسف، وبشارة له قبل لقائه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أقر أعينهم بعد اجتماع شملهم بإزالة ما يخشونه دنيا وأخرى، بقي ما يخص أباهم من ذلك، فكأنه وقع السؤال عنه فأجيب بقوله: {اذهبوا بقميصي} ولما كان قوله هذا ربما أوقع في أفهامهم قميصه الذي سلبوه إياه، احترز عن ذلك بقوله: {هذا فألقوه} أي عقب وصولكم {على وجه أبي يأت} أي يرجع إلى ما كان {بصيراً} أو يأت إلى حالة كونه بصيراً، فإنه إذا رد إليه بصره وعلم مكاني لم يصبر عن القصد إليّ لما عنده من وفور المحبة وعظيم الشوق، وكونه قميصاً من ملابس يوسف المعتادة أدخل في الغرابة وأدل على الكرامة؛ والقميص ألصق الثياب بالجسم، فإظهار الكرامة به أدل على كمال دين صاحبه وعراقته في أمور الإيمان... وذلك أدخل في كمال السرور ليعقوب عليه الصلاة والسلام {وأتوني} أي بأبي وأنتم {بأهلكم} أي مصاحبين لهم {أجمعين} لا يتخلف منهم أحد، فرجعوا بالقميص لهذا القصد...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يحول الحديث إلى شأن آخر. شأن أبيه الذي ابيضت عيناه من الحزن. فهو معجل إلى تبشيره. معجل إلى لقائه. معجل إلى كشف ما علق بقلبه من حزن، وما ألم بجسمه من ضنى، وما أصاب بصره من كلال: (اذهبوا بقميصي هذا، فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا، وأتوني بأهلكم أجمعين).. كيف عرف يوسف أن رائحته سترد على أبيه بصره الكليل؟ ذلك مما علمه الله. والمفاجأة تصنع في كثير من الحالات فعل الخارقة.. وما لها لا تكون خارقة ويوسف نبي رسول ويعقوب نبي رسول؟...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{اذهبوا بقميصي هذا} يدل على أنه أعطاهم قميصاً، فلعلّه جعل قميصه علامة لأبيه على حياته، ولعلّ ذلك كان مصطلحاً عليه بينهما... وفائدة إرساله إلى أبيه القميصَ أن يثق أبوه بحياته ووجوده في مصر، فلا يظن الدعوة إلى قدومه مكيدة من ملك مصر، ولقصد تعجيل المسرة له. والأظهر أنه جعل إرسال قميصه علامة على صدق إخوته فيما يبلغونه إلى أبيهم من أمر يوسف عليه السلام بجلبه فإنّ قمصان الملوك والكبراء تنسج إليهم خصيصاً ولا توجد أمثالها عند الناس وكان الملوك يخلعونها على خاصتهم، فجعل يوسف عليه السلام إرسال قميصه علامة لأبيه على صدق إخوته أنهم جاءوا من عند يوسف عليه السلام بخبر صدق. ومن البعيد مَا قيل: إن القميص كان قميص إبراهيم عليه السلام مع أن قميص يوسف قد جاء به إخوته إلى أبيهم حين جاءوا عليه بدم كذب. وأما إلقاء القميص على وجه أبيه فلقصد المفاجأة بالبُشرى لأنه كان لا يبصر من بعيد فلا يتبين رفعة القميص إلا من قرب. وأما كونه يصير بصيراً فحصل ليوسف عليه السلام بالوحي فبشرهم به من ذلك الحين... وأدمج الأمر بالإتيان بأبيه في ضمن تبشيره بوجوده إدماجاً بليغاً إذ قال: {يأت بصيراً} ثم قال: {وأتوني بأهلكم أجمعين} لقصد صلة أرحام عشيرته...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ثم أعطى يوسف لإخوته بعد اعترافهم واعتذارهم قميصه الخاص ليحملوه إلى أبيه يعقوب، شاهدا بحياته، مع دعوة رسمية منه إليه والى كافة أفراد عائلته بالقدوم عليه إلى مصر {اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا واتوني بأهلكم أجمعين}...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الشكر على الانتصار: إنّ الآيات السابقة تعلّمنا بجلاء ووضوح درساً من دروس الأخلاق الإسلامية، وهو أنّه بعد الانتصار على العدو وكسر شوكته لابدّ أن لا ننسى العفو والرحمة، وأن لا نعامله بقساوة، فإنّ إخوة يوسف قد عاملوه أشدّ المعاملة أشرفت به على نهايته وأوصلته إلى أبواب الموت، ولو لم تشمله عناية الله سبحانه وتعالى، لعجز عن الخلاص ممّا أوقعوه فيه، هذا إضافة إلى المصائب والآلام التي تحملها أبوه، لكنّهم الآن جميعاً واقفون أمّام يوسف وهو السيّد المطاع وبيده القوّة والقدرة، لكنّه عاملهم بلطف وإحسان. كما أنّه يفهم من خلال حديثه معهم أنّه لم يحقد عليهم قطّ، بل الذي يقلقه هو تذكّر الإخوة ماضيهم الأسود ويحسّوا بالخجل! ولذا حاول جاهداً أن يريحهم من هذا القلق ويزيح هذا الكابوس عن صدورهم، بل أكثر من هذا فإنّه حاول أن يفهمهم أنّ لهم عليه فضلا في مجيئهم إلى مصر والتعرّف عليهم، فإنّهم كانوا السبب في كشف حقيقته أمام الشعب في هذا البلد، حيث عرف أهل مصر أنّ عزيزهم هو سليل بيت النبوّة والرسالة وليس عبداً بيع في السوق بدراهم معدودات، ومن هنا فإنّ يوسف كان يرى لهم في ذلك فضلا ومنّة!...